کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 117
أردت إلا الخير، نزلت و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ يعني فرض ربكم و قضى ربكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ و هذا يفيد الوجوب و سبب هذا أنه تعالى يتصرف في عباده كيف يشاء و أراد فأوجب على نفسه الرحمة على سبيل الفضل و الكرم لأنه أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قال مجاهد: كل من عمل ذنبا أو خطيئة فهو بها جاهل و اختلفوا في سبب هذا الجهل فقيل لأنه جاهل بمقدار ما استحقه من العقاب و ما فاته من الثواب. و قيل إنه و إن علم أن عاقبة ذلك السوء و الفعل القبيح مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل و من آثر القليل على الكثير فهو جاهل و قيل إنه لما فعل فعل الجهال نسب إلى الجهل و إن لم يكن جاهلا: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد ارتكابه ذلك السوء و رجع عنه وَ أَصْلَحَ يعني أصلح العمل في المستقبل، و قيل أخلص توبته و ندم على فعله فَأَنَّهُ غَفُورٌ يعني لمن تاب من ذنوبه رَحِيمٌ بعباده قال خالد بن دينار كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الآية. عن أبي سعيد الخدري قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين و إن بعضهم ليستتر ببعض من العري و قارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقام علينا فلما قام علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سكت القارئ فسلم ثم قال ما كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول اللّه كان قارئ لنا يقرأ علينا و كنا نستمع إلى كتاب اللّه تعالى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «الحمد للّه الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» و جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتلحقوا و برزت وجوههم، قال فما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عرف منهم أحدا غيري. ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم و ذلك خمسمائة عام أخرجه أبو داود.
[سورة الأنعام (6): الآيات 55 الى 57]
و قوله عز و جل: وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني و كما فصلنا لك يا محمد في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد و إبطال ما هم عليه من الشرك كذلك نميز و نبين لك أدلة حججنا و براهيننا على تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وَ لِتَسْتَبِينَ قرأ بالتاء على الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم يعني و ليظهر لك الحق يا محمد و يتبين لك سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ يعني طريق هؤلاء المجرمين و قرأ بالياء على الغيبة و معناه ليظهر و يتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا إلى النار.
قوله تعالى: قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني نهيت أن أعبد الأصنام التي تعبدونها أنتم من دون اللّه و قيل تدعونها عند شدائدكم من دون اللّه لأن الجمادات أخس من أن تعبد أو تدعى و إنما كانوا يعبدونها على سبيل الهوى و هو قوله تعالى قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ يعني في عبادة الأصنام و طرد الفقراء قَدْ ضَلَلْتُ يعني: إِذاً عبدتها وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يعني لو عبدتها قُلْ يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قال ابن عباس: يعني على يقين من ربي، و قيل: البيّنة الدلالة التي تفصل بين الحق و الباطل و المعنى: إني على بيان و بصيرة في عبادة ربي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ يعني و كذبتم بالبيان الذي جئت به من عند ربي و هو القرآن و المعجزات الباهرات و البراهين الواضحات التي تدل على صحة التوحيد و فساد الشرك ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب، و ذلك أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم و كانوا يستعجلون به استهزاء و كانوا يقولون: يا محمد ائتنا بما تعدنا يعني من نزول
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 118
العذاب، فأمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه و سلم أن يقول لهم: ما عندي ما تستعجلون به لأن إنزال العذاب لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى و لا يقدر أحد على تقديمه و لا تأخيره.
و قيل: كانوا يستعجلون بالآيات التي طلبوها و اقترحوها فأعلم اللّه أن ذلك عنده ليس عند أحد من خلقه.
و قيل: كانوا يستعجلون بقيام الساعة و منه قوله تعالى يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يعني الحكم الذي يفصل به بين الحق و الباطل و الثواب للطائع و العقاب للعاصي أي ما الحكم المطلق إلا للّه ليس معه حكم فهو يفصل بين المختلفين و يقضي بإنزال العذاب إذا شاء يَقُصُّ الْحَقَ قرئ بالصاد المهملة. و معناه:
يقول الحق لأن كل ما أخبر به فهو و حق و قرئ يقض بالضاد المعجمة من القضاء يعني أنه تعالى يقضي القضاء الحق وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ يعني و هو خير من بين و فصل و ميز بين المحق و المبطل لأنه لا يقع في حكمه و قضائه جور و لا حيف على أحد من خلقه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 58 الى 60]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني من إنزال العذاب. و الاستعجال، المطالبة بالشيء قبل وقته، فلذلك كانت العجلة مذمومة. و الإسراع: تقديم الشيء في وقته، فلذلك كانت السرعة محمودة. و المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستعجلين لنزول العذاب لو أن عندي ما تستعجلون به لم أمهلكم ساعة و لكن اللّه حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة.
قوله تعالى: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يعني: لا نفصل ما بيني و بينكم و لأتاكم ما تستعجلون به من العذاب وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني أنه أعلم بما يستحقون من العذاب و الوقت الذي يستحثونه فيه و قيل علم أنه سيؤمن بعض من كان يستعجل بالعذاب فلذلك أخره عنهم قال و اللّه أعلم بالظالمين و بأحوالهم. قوله عز و جل:
وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ المفتاح الذي يفتح به المغلاق جمعه مفاتيح و يقال فيه تفتح بكسر الميم و جمعه مفاتح و المفتح بفتح الميم الخزانة و كل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهي مفتح و جمعه مفاتح فقوله و عنده مفاتح الغيب يحتمل أن يكون المراد منه المفاتيح التي يفتح بها و يحتمل أن يكون المراد منه الخزائن. فعلى التفسير الأول فقد جعل للغيب مفاتيح على طرق الاستعارة، لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالإغلاق، فمن علم كيف يفتح بها و يتوصل إلى ما فيها، فهو عالم. و كذلك هاهنا لأن اللّه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات ما غاب منها و ما لم يغب عن هذا المعنى بهذه العبارة.
و على التفسير الثاني، يكون المعنى و عنده خزائن الغيب و المراد منه القدرة الكاملة على كل الممكنات ثم اختلفت أقوال المفسرين في قوله و عنده مفاتح الغيب لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فقيل: مفاتيح الغيب خمس و هي ما روي عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللّه تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا اللّه، و لا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا اللّه، و لا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، و لا تدري نفس بأي أرض تموت، و لا يدري أحد متى يجيء المطر.
و في رواية أخرى: لا يعلم أحد ما تغيض الأرحام، و لا يعلم ما في غد إلا اللّه، و لا يعلم متى يأتي المطر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 119
أحد إلا اللّه، و لا تدري نفس بأي أرض تموت إلا اللّه، و لا يعلم متى الساعة إلا اللّه، أخرجه البخاري. و قال الضحاك و مقاتل: مفاتح الغيب: خزائن الأرض، و علم نزول العذاب، و قال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب و العقاب. و قيل: هو انقضاء الآجال و علم أحوال العباد من السعادة و الشقاوة و خواتيم أعمالهم. و قيل: هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون و ما لا يكون أن لو كان كيف يكون و قال ابن مسعود: أوتي نبيكم صلى اللّه عليه و سلم كل شيء إلا مفاتح الغيب. و قال ابن عباس: إنها خزائن غيب السموات و الأرض من الأقدار و الأرزاق وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قال مجاهد: البر المفاوز و القفار، و البحر القرى و الأمصار لا يحدث فيها شيء إلا و هو يعلمه. و قال جمهور المفسرين: هو البر و البحر المعروفان، لأن جميع الأرض إما بر و إما بحر و في كل واحد منهما من عجائب مصنوعاته و غرائب مبتدعاته ما يدل على عظيم قدرته و سعة علمه وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها يريد ساقطة و ثابتة و المعنى أنه يعلم عدد ما يسقط من الورق و ما بقي على الشجر من ذلك و يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن تسقط على الأرض وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ قيل: هو الحب المعروف يكون في بطن الأرض قبل أن ينبت. و قيل: هي الحبة التي في الصخرة التي في أسفل الأرضين وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ قال ابن عباس: الرطب الماء و اليابس البادية. و قال عطاء: يريد ما ينبت و ما لا ينبت. و قيل: المراد بالرطب الحي و اليابس الميت. و قيل: هو عبارة عن كل شيء لأن جميع الأشياء إما رطبة و إما يابسة.
فإن قلت إن جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله و عنده مفاتح الغيب فلم أفرد هذه الأشياء بالذكر و ما فائدة ذلك؟.
قلت: لما قال اللّه تعالى و عنده مفاتح الغيب على سبيل الإجمال ذكر من بعد ذلك الإجمال ما يدل على التفصيل، فذكر هذه الأشياء المحسوسة ليدل بها على غيرها، فقدم ذكر البر و البحر لما فيهما من العجائب و الغرائب من المدن و القرى و المفاوز و الجبال و كثرة ما فيها من المعادن و الحيوان، و أصناف المخلوقات مما يعجز الوصف عن إدراكها، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أقل من ذلك و هو مشاهد لكل أحد لأن الورقة الساقطة و الثابتة يراها كل أحد، لكن لا يعلم عددها و كيفية خلقها إلا اللّه تعالى ثم ذكر بعد ذلك ما هو أصغر من الورقة و هي الحبة. ثم ذكر بعد ذلك مثالا يجمع الكل و هو الرطب و اليابس فذكر هذه الأشياء و أنه لا يخرج شيء منها عن علمه سبحانه و تعالى فصارت هذه الأمثال منبهة على عظمة عظيمة و قدرة عالية و علم واسع فسبحان العليم الخبير.
قوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فيه قولان: أحدهما أن الكتاب المبين هو علم اللّه الذي لا يغير و لا يبدل.
و الثاني: أن المراد بالكتاب المبين، هو اللوح المحفوظ، لأن اللّه كتب فيه علم ما يكون و ما قد كان قبل أن يخلق السموات و الأرض. و فائدة إحصاء الأشياء كلها في هذا الكتاب، لتقف الملائكة على إنفاذ علمه و نبه بذلك على تعظيم الحساب و أعلم عباده أنه لا يفوته شيء مما يصنعونه لأن من أثبت ما لا ثواب فيه و لا عقاب في كتاب فهو إلى إثبات ما فيه ثواب و عقاب أسرع.
قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يعني يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ ما كسبتم بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم فيه أي في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى يعني أجل الحياة إلى الممات يريد استيفاء العمر على التمام ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قوله تعالى:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 120
[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 63]
وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني و هو العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئا و غلبه فهو مستعل عليه بالقهر و القدرة. فهو كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان، يعني: أنه أقدر منه. و أغلب هذا مذهب أهل التأويل في معنى لفظة فوق في قوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ و أما مذهب السلف. فيها: فإمرارها كما جاءت من غير تكييف و لا تأويل و لا إطلاق على جهة و القاهر هو الغالب لغيره المذلل له و اللّه تعالى هو القاهر لخلقه و قهر كل شيء بضده فقهر الحياة بالموت و الإيجاد بالإعدام و الغنى بالفقر و النور بالظلمة.
و قوله تعالى: وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يعني أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم و المراد بالحفظة الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم من الخير و الشر و الطاعة و المعصية و غير ذلك من الأقوال و الأفعال قيل إن مع كل إنسان ملكين ملكا عن يمينه و ملكا عن شماله فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين و إذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال اصبر عليه لعله يتوب منها فإن لم يتب منها كتبها عليه صاحب الشمال. و فائدة جعل الملائكة موكلين بالإنسان أنه إذا علم أن له حافظا من الملائكة موكلا به يحفظ عليه أقواله و أفعاله في صحائف تنشر له و تقرأ عليه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد كان ذلك زاجرا له عن فعل القبيح و ترك المعاصي. و قيل: المراد بقوله و يرسل عليكم حفظة، هم الملائكة الذين يحفظون بني آدم و يحفظون أجسادهم.
قال قتادة: حفظه يحفظون على ابن آدم رزقه و أجله و عمله حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا يعني أعوان ملك الموت الموكلين بقبض أرواح البشر.
فإن قلت قال اللّه تعالى في آية: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و قال في آية أخرى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و قال هنا توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت وجه الجمع بين هذه الآيات أن المتوفي في الحقيقة هو اللّه تعالى، فإذا حضر أجل العبد، أمر اللّه ملك الموت بقبض روحه و لملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه فحصل الجمع بين الآيات. و قيل: المراد من قوله توفته رسلنا ملك الموت وحده و إنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له. و قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطشت يتناول من حيث شاء و جعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم و قال أيضا: ما من أهل بيت شعر و لا مدر إلا و ملك الموت يطيف بهم كل يوم مرتين. و قيل: إن الأرواح إذا كثرت عليه يدعوها فتستجيب له و قوله: وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ يعني الرسل لا يقصرون فيما أمروا به و لا يضيعونه.
قوله عز و جل: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ يعني ثم رد العباد بالموت إلى اللّه في الآخرة و إنما قال مولاهم الحق لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل و اللّه مولاهم و سيدهم و مالكهم بالحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني لا حكم إلا له وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يعني أنه تعالى أسرع من حسب لأنه لا يحتاج إلى فكر و روية و عقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض.
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ يعني يا محمد، قل لهؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام من دون اللّه من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه و تحيرتم و أظلمت عليكم الطرق و من ذا الذي ينجيكم من ظلمات البحر إذا ركبتم فيه فأخطأتم الطريق و أظلمت عليكم السبل فلم تهتدوا و قيل: ظلمات البر و البحر مجاز عما فيهما من الشدائد و الأهوال و قيل الحل على الحقيقة أولى. فظلمات البر هي ما اجتمع فيه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 121
من ظلمة الليل و ظلمة السحاب و ظلمة الرياح فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب و ظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل و ظلمة السحاب و ظلمة الرياح العاصفة و الأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضا الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك فالمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى اللّه سبحانه و تعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب و إزالة الشدائد و هو المراد من قوله: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً يعني فإذا اشتد بكم الأمر تخلصون له الدعاء تضرعا منكم إليه و استكانة. جهرا و خفية: يعني سرا حالا و حالا لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ يعني قائلين في حال الدعاء و التضرع لئن أنجيتنا من هذه الظلمات و خلصتنا من الهلاك لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني لك على هذه النعمة و الشكر و هو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها.
[سورة الأنعام (6): الآيات 64 الى 65]
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها يعني من الظلمات و الشدائد التي أنتم فيها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ يعني و هو الذي ينجيكم من كل كرب أيضا و الكرب هو الغم الشديد الذي يأخذ بالنفس ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ يريد أنهم يقرون بأن الذي أنجاهم من هذه الشدائد هو اللّه تعالى ثم إنهم بعد ذلك الإقرار يشركون معه الأصنام التي لا تضر و لا تنفع.
قوله عز و جل: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أي: قل يا محمد لقومك إن اللّه هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم يعني الصيحة و الحجارة و الريح و الطوفان كما فعل بقوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني الرجفة و الخسف كما فعل بقوم شعيب و قارون. و قال ابن عباس و مجاهد: عذابا من فوقكم، يعني أئمة السوء و السلاطين الظلمة أو من تحت أرجلكم يعني عبيد السوء. و قال الضحاك: من فوقكم يعني من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم يعني السفلة أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً الشيع جمع شيعة و كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة و أشياع و أصله من التشيع. و معنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضا.
و قيل: الشيعة هم الذي يتقوى بهم الإنسان. قال الزجاج: في قوله أو يلبسكم شيعا يعني يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط إنفاق فيجعلكم فرقا مختلفين يقاتل بعضكم بعضا و هو معنى قوله: وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال ابن عباس: قوله أو يلبسكم شيعا يعني الأهواء المختلفة و يذيق بعضكم بأس بعض يعني أنه يقتل بعضكم بيد بعض. و قال مجاهد: يعني أهواء متفرقة و هو ما كان فيهم من الفتن و الاختلاف. و قال ابن زيد: هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف و الأهواء و سفك بعضهم دماء بعض. ثم اختلف المفسرون فيمن عني بهذه الآية فقال قوم عني بها المسلمون من أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم و فيهم نزلت هذه الآية. قال أبو العالية: في قوله قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ الآية. قال: هن أربع و كلهن عذاب فجاءت اثنتان بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخمس و عشرين سنة فألبسوا شيعا و أذيق بعضهم بأس بعض و بقيت اثنتان و هما لا بد واقعتان يعني الخسف و المسخ. و عن أبي بن كعب نحوه و هن أربع خلال و كلهن واقع قبل يوم القيامة مضت ثنتان بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بخمس و عشرين سنة ألبسوا شيعا و أذيق بعضهم بأس بعض ثنتان واقعتان لا محالة الخسف و الرجم. و قال مجاهد: في قوله من فوقكم أو من تحت أرجلكم لأمة محمد فأعفاهم منه أو يلبسكم شيعا ما كان بينهم من الفتن و الاختلاف زاد غيره و يذيق بعضكم بأس بعض يعني ما كان فيهم من القتل بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم (خ) عن جابر قال لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون أو هذا أيسر» (م).
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 122
عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين و صلينا معه و دعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين و منعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها و سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها و سألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». عن خباب بن الأرت قال صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم صلاة فأطالها فقالوا يا رسول اللّه صليت صلاة لم تكن تصليها قال: «أجل إنها صلاة رغبة و رهبة إني سألت اللّه فيها ثلاثة فأعطاني اثنتين و منعني واحدة سألته أن لا تهلك أمتي بسنة فأعطانيها و سألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها و سألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» أخرجه الترمذي و قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي انظر يا محمد كيف نبين دلائلنا و حجتنا لهؤلاء المكذبين لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعني يفهمون و يعتبرون فينزجروا و يرجعوا عما هم عليه من الكفر و التكذيب.
[سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 69]
قوله تعالى: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ يعني بالقرآن وَ هُوَ الْحَقُ يعني في كونه كتابا منزلا من عند اللّه و قيل الضمير في به يرجع إلى العذاب و هو الحق يعني أنه نازل بهم أن أقاموا على كفرهم و تكذيبهم. و قيل: الضمير يرجع إلى تصريف الآيات و هو الحق لأنهم كذبوا كونها من عند اللّه قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ . أي: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم و إعراضكم عن قبول الحق بل إنما أنا منذر و اللّه هو المجازي لكم على أعمالكم و قيل معناه إنما أدعوكم إلى اللّه و إلى الإيمان به و لم أومر بحربكم، فعلى هذا القول، تكون الآية منسوخة بآية السيف. و قيل في معنى الآية: قل لست عليكم بوكيل، يعني حفيظا إنما أطالبكم بالظاهر من الإقرار و العلم لا بما تحويه الضمائر و الأسرار فعلى هذا تكون الآية محكمة لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل خبر من أخبار القرآن حقيقة و منتهى ينتهي إليه إما في الدنيا و إما في الآخرة. و قيل لكل خبر يخبر اللّه به وقت و مكان يقع فيه من غير خلف و لا تأخير فكان ما وعدهم به من العذاب في الدنيا وقع يوم بدر وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني صحة هذا الخبر إما في الدنيا و إما في الآخرة.
قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا الخطاب في و إذا رأيت للنبي صلى اللّه عليه و سلم و المعنى و إذا رأيت يا محمد هؤلاء المشركين الذين يخوضون في آياتنا يعني القرآن الذي أنزلناه إليك و الخوض في اللغة هو الشروع في الماء و العبور فيه، و يستعار للأخذ في الحديث و الشروع فيه. يقال: تخاوضوا في الحديث و تفاوضوا فيه، لكن أكثر ما يستعمل الخوض في الحديث على وجه اللعب و العبث و ما يذم عليه و منه قوله وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ و قيل: الخطاب في و إذا رأيت لكل فرد من الناس. و المعنى: و إذا رأيت أيها الإنسان الذين يخوضون في آياتنا و ذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الاستهزاء بالقرآن و بمن أنزله و بمن أنزل عليه، فنهاهم اللّه أن يقعدوا معهم في وقت الاستهزاء بقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني فاتركهم و لا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يعني حتى يكون خوضهم في غير القرآن و الاستهزاء به وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ يعني فقعدت معهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يعني إذا ذكرت فقم عنهم و لا تقعد مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني المشركين قوله تعالى: وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال المسلمون: كيف نقعد في المسجد الحرام و نطوف
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 123
بالبيت و هم يخوضون أبدا؟ و في رواية، قال المسلمون: إنا نخاف الإثم حين نتركهم و لا ننهاهم فأنزل اللّه هذه الآية وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني يتقون الشرك و الاستهزاء من حسابهم من حساب المشركين من شيء يعني ليس عليهم شيء من حسابهم و لا آثامهم وَ لكِنْ ذِكْرى يعني و لكن ذكروهم ذكرى. و قيل: معناه و لكن عليكم أن تذكروهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني لعل تلك الذكرى تمنعهم من الخوض و الاستهزاء.
( (فصل)) قال سعيد بن المسيب و ابن جريج و مقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء و هي قوله تعالى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها و ذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر و الخبر لا يدخله النسخ لأنها إنما دلت على أن كل إنسان إنما يختص بحساب نفسه لا بحساب غيره، و قيل: إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكير و الموعظة فلا تكون منسوخة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 70 الى 71]
قوله عز و جل: وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً الخطاب للنبي. يعني: و ذر يا محمد هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم الذي أمروا به و دعوا إليه و هو دين الإسلام لعبا و لهوا و ذلك حيث سخروا به و استهزءوا به و قيل إنهم اتخذوا عبادة الأصنام لعبا و لهوا. و قيل: إن الكفار كانوا إذا سمعوا القرآن لعبوا و لهوا عند سماعه. و قيل إن اللّه جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعني عيدهم لعبا و لهوا يلعبون و يلهون فيه إلا المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة و تكبيرا و فعل الخير فيه مثل عيد الفطر و عيد النحر و يوم الجمعة وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني أنهم اتخذوا دينهم لعبا و لهوا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا و غلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق و اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و معنى الآية: و ذر يا محمد الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا و اتركهم و لا تبال بتكذيبهم و استهزائهم و هذا يقتضي الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف و هو قول قتادة و السدي. و قيل: إنه خرج مخرج التهديد فهو كقوله ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً و هذا قول مجاهد فعلى هذا تكون الآية محكمة.
و قيل: المراد بالإعراض عنهم، ترك معاشرتهم و مخالطتهم لا ترك الإنذار و التخويف و يدل عليه قوله: وَ ذَكِّرْ بِهِ يعني و ذكر بالقرآن و عظ به هؤلاء المشركين أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي لئلا تبسل نفس و أصل البسل في اللغة: التحريم و ضم الشيء و منعه. و هذا عليك بسل: أي حرام ممنوع. فمعنى تبسل نفس بما كسبت:
ترتهن و تحبس في جهنم و تحرم من الثواب بسبب ما كسبت من الآثام.