کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 177
الطبري، فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة و أن لا يتفرقوا في الدين و لا يبتدعوا البدع المضلة. و روي عن عمر بن الخطاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لعائشة: «إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا هم أصحاب البدع و الأهواء من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند عن العرباض بن سارية قال:
صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون و وجلت منها القلوب فقال رجل: يا رسول اللّه كأن هذه موعظة مودّع فما تعهد إلينا؟ فقال «أوصيكم بتقوى اللّه و السمع و الطاعة و إن تأمر عليك عبد حبشي فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة» أخرجه أبو داود و الترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين و سبعين فرقة و إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث و سبعين ثنتان و سبعون في النار و واحدة في الجنة و هي الجماعة «زاد في رواية» و إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق و لا مفصل إلا دخله» أخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين و سبعين ملة و ستفترق أمتي على ثلاث و سبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول اللّه قال من كان على ما أنا عليه و أصحابي» أخرجه الترمذي. قال الخطابي في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة و الدين إذ جعلهم من أمته. و قوله تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، التجاري تفاعل من الجري و هو الوقوع في الأهواء الفاسدة و البدع المضلة تشبيها بجري الفرس و الكلب. قال ابن مسعود «إن أحسن الحديث كتاب اللّه و أحسن الهدى هدى محمد صلى اللّه عليه و سلم و شر الأمور محدثاتها» و رواه جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرفوعا.
و قوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يعني: في قتال الكفار فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال و هذا على قول من يقول إن المراد من الآية اليهود و النصارى و الكفار، و من قال: المراد من الآية أهل الأهواء و البدع من هذه الأمة قال: معناه لست منهم في شيء أي أنت منهم بريء و هم منك برآء. تقول العرب إن فعلت كذا فلست منك و لست مني أي كل واحد منا بريء من صاحبه إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يعني في الجزاء و المكافأة ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني إذا وردوا القيامة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 160 الى 163]
قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها يعني مثلها في مقابلتها و اختلفوا في هذه الحسنة و السيئة على قولين:
أحدهما: أن الحسنة قول لا إله إلا اللّه و السيئة هي الشرك باللّه، و أورد على هذا القول: إن كلمة التوحيد لا مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها و أجيب عنه بأن جزاء الحسنة قدر معلوم عند اللّه فهل يجازى على قدر إيمان المؤمن بما يشاء من الجزاء و إنما قال عشر أمثالها للترغيب في الإيمان لا للتحديد و كذلك جزاء السيئة بمثلها من جنسها.
و القول الثاني: إن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة، و هذا أولى. لأن حمل اللفظ على العموم أولى قال بعضهم: التقدير بالعشرة ليس التحديد لأن اللّه يضاعف لمن يشاء في حسناته إلى سبعمائة و يعطي من
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 178
يشاء بغير حساب و إعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من اللّه تعالى هذا مذهب أهل السنة و جزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه و تعالى و هو قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني لا ينقص من ثواب الطائع و لا يزاد على عذاب العاصي (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف و كل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه تعالى» (م) عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «يقول اللّه تبارك و تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و أزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر و من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا و من تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا و من أتاني يمشي أتيته هرولة و من لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «يقول اللّه تبارك و تعالى و إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها و إن ترك من أجلي فاكتبوها له حسنة و إذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري و في لفظ مسلم عن محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «قال اللّه تبارك و تعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها و إذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة و هو أبصر به فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها و إن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي» زاد الترمذي: من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها.
قوله عز و جل: قُلْ يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم و هو دين الإسلام الذي ارتضاه اللّه لعباده المؤمنين دِيناً قِيَماً يعني هداني صراطا مستقيما دينا قيما، و قيل: يحتمل أن يكون محمولا على المعنى تقديره:
و عرفني دينا قيما يعني دينا مستقيما لا اعوجاج فيه و لا زيغ، و قيل: قيما ثابتا مقوما لأمور معاشي و معادي، و قيل: هو من قام و هو أبلغ من القائم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و الملة بالكسر الدين و الشريعة. يعني هداني و عرفني دين إبراهيم و شريعته حَنِيفاً الأصل في الحنيف الميل و هو ميل عن الضلالة إلى الاستقامة و العرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني إبراهيم عليه السلام و فيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر اللّه تعالى أن إبراهيم لم يكن من المشركين و ممن يعبد الأصنام قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي: قل يا محمد إن صلاتي وَ نُسُكِي قال مجاهد و سعيد بن جبير و الضحاك و السدي: أراد بالنسك في هذا الموضع الذبيحة في الحج و العمرة، و قيل: النسك العبادة و الناسك العابد. و قيل: المناسك أعمال الحج. و قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى من صلاة و حج و ذبح و عبادة. و نقل الواحدي عن أبي الأعرابي قال: النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة و قيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام و صفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث.
و في قوله إن صلاتي و نسكي دليل على أن جميع العبادات يؤديها العبد على الإخلاص للّه و يؤكد هذا قوله للّه رب العالمين لا شريك له و فيه دليل على أن جميع العبادات لا تؤدى إلا على وجه التمام و الكمال لأن ما كان للّه لا ينبغي أن يكون إلا كاملا تاما مع إخلاص العبادة له فما كان بهذه الصفة من العبادات كان مقبولا وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي أي حياتي و موتي بخلق اللّه و قضائه و قدره أي هو يحييني و يميتني و قيل معناه إن محياي بالعمل الصالح و مماتي إذا مت على الإيمان للّه، و قيل: معناه إن طاعتي في حياتي للّه و جزائي بعد مماتي من اللّه و حاصل هذا الكلام له أن اللّه أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يبين أن صلاته و نسكه و سائر عباداته و حياته و موته كلها واقعة بخلق اللّه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 179
و قضائه و قدره و هو المراد بقوله لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ يعني في العبادة و الخلق و القضاء و القدر و سائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ يعني: قل يا محمد و بهذا التوحيد أمرت وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال قتادة: يعني من هذه الأمة و قيل معناه و أنا أول المستسلمين لقضائه و قدره.
[سورة الأنعام (6): الآيات 164 الى 165]
قوله عز و جل: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك أغير اللّه أطلب سيدا أو إلها وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ يعني و هو سيد كل شيء و مالكه لا يشاركه فيه أحد و ذلك أن الكفار قالوا للنبي صلى اللّه عليه و سلم ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس: كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال اللّه عز و جل ردا عليه وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يعني أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني لا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى و لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى و لا يؤاخذ أحد بذنب آخر ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يعني يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني في الدنيا من الأديان و الملل.
قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يعني: و اللّه الذي جعلكم يا أمة محمد خلائف في الأرض فإن اللّه أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية و استخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها و تعمرونها بعدهم و ذلك لأن محمدا صلى اللّه عليه و سلم خاتم الأنبياء و هو آخرهم و أمته آخر الأمم وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يعني أنه تعالى خالف بين أحوال عباده فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق و الرزق و الشرف و العقل و القوة و الفضل فجعل منهم الحسن و القبيح و الغني و الفقير و الشريف و الوضيع و العالم و الجاهل و القوي و الضعيف و هذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو الجهل أو البخل فإن اللّه سبحانه و تعالى منزه عن صفات النقص و إنما هو لأجل الابتلاء و الامتحان و هو قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ يعني يعاملكم معاملة المبتلي و المختبر و هو أعلم بأحوال عباده. و المعنى: يبتلي الغني بغناه و الفقير بفقره و الشريف بشرفه و الوضيع بدناءته و العبد و الحر و غيرهم من جميع أصناف خلقه ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب و العقاب، لأن العبد إما أن يكون مقصرا فيما كلف به و إما أن يكون موفيا ما أمره به فإن كان مقصرا كان نصيبه التخويف و الترغيب و هو قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ يعني لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا و إنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت فهو قريب إن كان العبد موفيا حقوق اللّه تعالى فيما أمره به أو نهاه عنه كان نصيبه الترغيب و التشريف و التكريم و هو قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ يعني لذنوب أوليائه و أهل طاعته رَحِيمٌ يعني بجميع خلقه و اللّه أعلم بمراده و أسرار كتابه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 180
سورة الأعراف
نزلت بمكة روي ذلك عن ابن عباس، و به قال الحسن و مجاهد و عكرمة و عطاء و جابر بن زيد و قتادة.
و روي عن ابن عباس أيضا أنها مكية إلا خمس آيات أولها: و أسألهم عن القرية التي كانت. و به قال قتادة و قال مقاتل: ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها و أسألهم عن القرية إلى قوله و إذا أخذ ربك من بني آدم و هي مائتان و ست آيات و ثلاثة آلاف و ثلاثمائة و خمس و عشرون كلمة و أربعة عشرة ألف حرف عشرة أحرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعراف (7): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل المص قال ابن عباس: معناه أنا اللّه أفصل و عنه أنا اللّه أعلم و أفصل و عنه أن المص قسم أقسم اللّه به و هو اسم من أسماء اللّه تعالى، و قال قتادة: المص اسم من أسماء القرآن، و قال الحسن: هو اسم للسورة، و قال السدي: هو بعض اسمه تعالى المصور، و قال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه اللّه و اللام مفتاح اسمه لطيف و الميم مفتاح اسمه مجيد و الصاد مفتاح اسمه صادق و صبور. و قيل: هي حروف مقطعة استأثر اللّه تعالى بعلمها و هي سره في كتابه العزيز، و قيل: هي حروف اسمه الأعظم و قيل هي حروف تحتوي معاني دل اللّه بها خلقه على مراده و قد تقدم بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة.
[سورة الأعراف (7): الآيات 2 الى 6]
و قوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني هذا كتاب أنزله اللّه إليك يا محمد و هو القرآن فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ يعني: فلا يضيق صدرك بالإبلاغ و تأدية ما أرسلت به إلى الناس لِتُنْذِرَ بِهِ يعني: أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: و لتذكر و تعظ به المؤمنين و هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به و ذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه.
قال ابن عباس: فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر و قلة الاتساع لتوجيه ما حصل له.
قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: قل يا محمد لقومك اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم يعني من القرآن الذي فيه الهدى و النور و البيان. قال الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب اللّه و سنة محمد صلى اللّه عليه و سلم و اللّه ما نزلت آية إلا و يجب أن تعلم فيما أنزلت و ما معناها، و بنحو هذا قال الزجاج: أي اتبعوا القرآن و ما
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 181
أتى به النبي صلى اللّه عليه و سلم فإنه مما أنزل لقوله تعالى: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا و معنى الآية أن اللّه تعالى لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالإنذار في قوله لتنذر به كان معنى الكلام أنذر القوم «و قل لهم اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم» و اتركوا ما أنتم عليه من الكفر و الشرك، و قيل: معناه لتنذر به و تذكر به المؤمنين فتقول لهم «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم»، و قيل: هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم و اتركوا ما أنتم عليه من الكفر و الشرك و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني و لا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر و الشرك أولياء فتتبعوهم. و المعنى: و لا تتولوا من دونه شياطين الإنس و الجن فيأمروكم بعبادة الأصنام و اتباع البدع و الأهواء الفاسدة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ يعني ما تتعظون إلا قليلا.
قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها لما أمر اللّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالإنذار و الإبلاغ، و أمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته و بأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة و الإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ، قيل: فيه حذف تقديره و كم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية، و قيل: ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها فَجاءَها بَأْسُنا يعني عذابنا.
فإن قلت مجيء البأس و هو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا؟
قلت: معناه و كم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا. و قال الفراء: الهلاك و البأس قد يقعان معا كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء و لا بعده و إنما وقعا معا. و قال غيره: لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلا من الآخر بَياتاً يعني فجاءها عذابنا ليلا قبل أن يصبحوا أَوْ هُمْ قائِلُونَ من القيلولة و هي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار و إن لم يكن معها نوم و المعنى فجاءها بأسنا غفلة و هم غير متوقعين له ليلا و هم نائمون أو نهارا و هم قائلون وقت الظهيرة و كل ذلك وقت الغفلة. و مقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب و فيه وعيد و تخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن و الراحة فإن عذاب اللّه إذا نزل نزل دفعة واحدة فَما كانَ دَعْواهُمْ يعني فما كان دعاء أهل القرية التي جاءها بأسنا و الدعوى تكون بمعنى الادعاء و بمعنى الدعاء، قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين و منه قوله تعالى:
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا يعني عذابنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعني أنهم لم يقدروا على رد العذاب عنهم و كان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية و ذلك حين لا ينفع الاعتراف فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني: نسأل الأمم الذين أرسلنا إليهم الرسل ماذا عملتم فيما جاءتكم به الرسل وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ يعني و لنسألن الرسل الذين أرسلناهم إلى الأمم هل بلغتم رسالاتنا و أديتم إلى الأمم ما أمرتم بتأديته إليهم أم قصرتم في ذلك. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في معنى هذه الآية: يسأل اللّه تعالى الناس عما أجابوا به المرسلين و يسأل المرسلين عما بلغوا و عنه أنه قال يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. و قال السدي: يسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل و يسأل الرسل هل بلّغوا ما أرسلوا به.
فإن قلت: قد أخبر عنهم في الآية الأولى بأنهم اعترفوا على أنفسهم بالظلم في قوله إنا كنا ظالمين فما فائدة هذا السؤال مع اعترافهم على أنفسهم بذلك؟
قلت: لما اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم و التقصير و المقصود من هذا التقريع و التوبيخ للكفار.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 182
فإن قلت: فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلنا إليهم من الأمم؟
قلت: إذا كان يوم القيامة أنكر الكفار تبليغ الرسالة من الرسل فقالوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فكان مسألة الرسل على وجه الاستشهاد بهم على من أرسلوا إليهم من الأمم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليه من الأمم فتكون هذه المسألة كالتقريع و التوبيخ للكفار أيضا لأنهم أنكروا تبليغ الرسل فيزداد بذلك خزيهم و هوانهم و عذابهم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 7 الى 9]
و قوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يعني: فلنخبرن الرسل و من أرسلوا إليهم بعلم و يقين بما عملوا في الدنيا وَ ما كُنَّا غائِبِينَ يعني عنهم و عن أفعالهم و عن الرسل فيما بلغوا و عن الأمم فيما أجابوا.
فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ و بين قوله فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ و إذا كان عالما فما فائدة هذا السؤال؟
قلت: فائدة سؤال الأمم و الرسل مع علمه سبحانه و تعالى بجميع المعلومات، التقريع، و التوبيخ للكفار لأنهم إذ أقروا على أنفسهم كان أبلغ في المقصود، فأما سؤال الاسترشاد و الاستثبات، فهو منفي عن اللّه عز و جل، لأنه عالم بجميع الأشياء قبل كونها و في حال كونها و بعد كونها، فهو العالم بالكليات، و الجزئيات، و علمه بظاهر الأشياء كعلمه بباطنها.
قوله تعالى: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ يعني و الوزن يوم سؤال الأمم و الرسل و هو يوم القيامة العدل، و قال مجاهد: المراد بالوزن هنا القضاء، و معنى الحق العدل. و ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان و ذلك أن اللّه عز و جل ينصب ميزانا له لسان و كفتان كل كفة ما بين المشرق و المغرب، قال ابن الجوزي: جاء في الحديث «أن داود عليه الصلاة و السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إلهي من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» و قال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز و جل زن بينهم ورد من بعضهم على بعض و ليس ثم ذهب و لا فضة فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة فإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل و عليه مثل الجبل.
فإن قلت: أليس اللّه عز و جل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها؟
قلت: فيه حكم منها إظهار العدل، و أن اللّه عز و جل لا يظلم عباده، و منها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا و إقامة الحجة عليهم في العقبى و منها تعريف العباد ما لهم من خير و شر و حسنة و سيئة و منها إظهار علامة السعادة و الشقاوة و نظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه و تعالى، ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات و السيئات و يدل على ذلك حديث البطاقة و هو ما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «إن اللّه عز و جل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة و تسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أ تنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أ فلك عذر فيقول لا يا رب فيقول اللّه تبارك و تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 183
عليك اليوم فيخرج اللّه له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة و لا يثقل مع اسم اللّه شيء» أخرجه الترمذي و أحمد بن حنبل. و قال ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة و بالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس: أن الأعمال تتصور صورا و توضع تلك الصور في الميزان و يخلق اللّه في تلك الصور ثقلا و خفة.
و نقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص و استدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه تعالى جناح بعوضة» أخرجاه في الصحيحين و هذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في الميزان لأن المراد بقوله لا يزن عند اللّه جناح بعوضة مقداره و حرمته لا وزن جسده و لحمه و الصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد و توزن و اللّه أعلم بحقيقة ذلك.
و قوله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع ميزان، و أورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع و أجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد، و قيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، و قيل: إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين و الشاهدين و اللسان و لا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله و قيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن و قدر فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: هم الناجون غدا و الفائزون بثواب اللّه و جزائه وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ يعني موازين أعماله و هم الكفار بدليل قوله تعالى: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب اللّه و كرامته بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج اللّه و أدلة توحيده يجحدون و لا يقرّون بها. روي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا و ثقله عليهم و حق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، و إنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا و خفته عليهم و حق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. قوله عز و جل:
[سورة الأعراف (7): الآيات 10 الى 12]
وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني و لقد مكناكم أيها الناس في الأرض، و المراد من التمكين التمليك و قيل: معناه جعلنا لكم فيها مكانا و قرارا أو قدرناكم على التصرف فيها وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق و تعيشون بها أيام حياتكم و هي على قسمين:
أحدهما: ما أنعم اللّه تعالى به على عباده من الزرع و الثمار و أنواع المآكل و المشارب.