کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 185
فإن قلت: لم سأله عن المانع له من السجود و هو أعلم به؟
قلت: إنما سأله للتوبيخ و التقريع له و لإظهار معاندته و كفره و افتخاره بأصله و حسده لآدم عليه الصلاة و السلام و لذلك لم يتب اللّه عليه قالَ يعني قال إبليس مجيبا للّه تعالى عما سأله عنه أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ .
فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا و كذا و لكنه قال أنا خير منه.
قلت: استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم و فيها دليل على موضع الجواب و هو قوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و النار خير من الطين و أنور و إنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة و أفضل منه أصلا و ذلك لفضل الجنس الذي خلق منه و هو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة و السلام فجهل عدو اللّه وجه الحق و أخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة و الطيش و الارتفاع و الاضطراب، و هذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من اللّه تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة و السلام و الاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب و الهلاك و من المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة و الأناة و الصبر و الحلم و الحياة و التثبت و هذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة و السلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من اللّه تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته و مسألته ربه العفو عنه و المغفرة، و لذلك كان الحسن و ابن سيرين يقولان: أول من قاس إبليس فأخطأ و قال ابن سيرين أيضا:
ما عبدت الشمس و القمر لا بالمقاييس و أصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه اللّه تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين و أقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين و لم يدر أن الفضل لمن جعله اللّه فاضلا و أن الأفضلية و الخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل و الجوهر و أيضا الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة و قبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فاللّه تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة و السلام بأشياء لم يخص بها غيره و هو أنه خلقه بيده و نفخ فيه من روحه و أسجد له ملائكته و علّمه أسماء كل شيء و أورثه الاجتباء و التوبة و الهداية إلى غير ذلك مما خص اللّه تعالى به آدم عليه الصلاة و السلام للعناية التي سبقت له في القدم و أورث إبليس كبره اللعنة و الطرد للشقاوة التي سبقت له في القدم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 13 الى 17]
و قوله تعالى: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها يعني قال اللّه تعالى لإبليس لعنه اللّه اهبط من الجنة. و قيل: من السماء إلى الأرض. و الهبوط الإنزال و الانحدار من فوق على سيل القهر و الهوان و الاستخفاف فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري و طاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر اللّه عز و جل فأما غير الجنة و السماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة اللّه تعالى و هم الكفار الساكنون في الأرض فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يعني: إنك من الأذلاء المهانين و الصّغار الذل و المهانة. قال الزجاج: استكبر عدو اللّه إبليس فابتلاه اللّه تعالى بالصغار و الذلة. و قيل: كان له ملك الأرض فأخرجه اللّه تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر و عرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها قالَ يعني: قال إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي يعني أخّرني و أمهلني فلا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعني من قبورهم و هي النفخة الآخرة عند قيام الساعة و هذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه اللّه لأنه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 186
سأل ربه الإمهال و قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق اللّه تعالى إلى البقاء في الدنيا و لكنه كره أن يكون ذائقا للموت فطلب البقاء و الخلود فلم يجب إلى ما سأل به قالَ اللّه تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يعني من المؤخرين الممهلين و قد بين اللّه تعالى مدة النظرة و المهلة في سورة الحجر فقال تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ و ذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
فإن قلت: فما وجه قولك إنك من المنظرين و ليس أحد ينظر سواه؟
قلت: معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم قالَ يعني إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية و تم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ و قيل: هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي و قيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء و أضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم و هو طريق الإسلام. و قيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة و ذلك بأن أوسوس إليهم و أزين لهم الباطل و ما يكسبهم المآثم. و قيل: المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة. و قيل: المراد به الحج. و القول الأول أولى لأنه يعم الجميع و معنى لأردنّ بني آدم عن عبادتك و طاعتك و لأغوينهم و لأضلنّهم كما أضللتني. عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم و تذر دين آبائك و آباء آبائك فعصاه و أسلم، و قعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر و تذر أرضك و سماءك و إنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر و قعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس و المال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة و يقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة و إن غرق كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة أو و قصته دابته كان حقا على اللّه أن يدخله الجنة» أخرجه النسائي، و قوله تعالى إخبارا عن إبليس ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ قال ابن عباس: من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيها، و من خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها، و عن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم، و عن شمائلهم أشهي لهم المعاصي. و إنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها و صائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم. و قال ابن عباس في رواية عنه: من بين أيديهم من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم، و من خلفهم من قبل الآخرة، فأقول لا بعث و لا نشور و لا جنة و لا نار، و عن أيمانهم من قبل حسناتهم، و عن شمائلهم من قبل سيئاتهم و إنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يسعى فيها و يشاهدها فهي حاضرة بين يديه و الآخرة غائبة عنه فهي خلفه. و قال الحكم بن عتبة: من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم و من خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها و عن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه و عن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم و قال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث و لا جنة و لا نار و من خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم و دعاهم إليها و عن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها و عن شمائلهم زين لهم السيئات و المعاصي و دعاهم إليها. أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك و بين رحمة اللّه تعالى. و قال مجاهد: يأتيهم من بين أيديهم و عن أيمانهم حيث يبصرون، و من خلفهم و عن شمائلهم حيث لا يبصرون. و معنى هذا من حيث يخطئون و يعلمون أنهم يخطئون و من حيث لا يبصرون أنهم يخطئون و لا يعلمون أنهم يخطئون، و قيل: من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه طاعة و من خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون و لا يشركون و من خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه. و قال شقيق البلخي: ما من صباح إلا و يأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ و من خلفي و عن يميني و عن شمالي
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 187
أما بين يدي فيقول: لا تخف إن اللّه غفور رحيم فأقرأ و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى، و أما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ و ما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها، و أما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ و العاقبة للمتقين، و أما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ و حيل بينهم و بين ما يشتهون. و قيل إن ذكر هذه الجهات الأربع إنما أريد بها التأكيد و المبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم و أنه لا يقصر في ذلك، و معنى الآية على هذا القول: ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات و قوله وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يعني و لا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم. و قال ابن عباس: معناه و لا تجد أكثرهم موحدين.
فإن قلت: كيف علم الخبيث إبليس ذلك حتى قال و لا تجد أكثرهم شاكرين؟
قلت: قاله ظنا فأصاب منه قوله تعالى، و لقد صدق عليهم إبليس ظنه و قيل إنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات و تحسين القبائح و علم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة و قيل إنه رآه مكتوبا في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين و القطع و اللّه أعلم بمراده.
[سورة الأعراف (7): الآيات 18 الى 20]
قوله عز و جل: قالَ اخْرُجْ مِنْها أي: قال اللّه تعالى لإبليس حين طرده عن بابه و أبعده عن جنابه و ذلك بسبب مخالفته و عصيانه اخرج منها يعني من الجنة فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة مَذْؤُماً يعني معيبا و الذأم أشد العيب مَدْحُوراً يعني مطرودا مبعدا. و قال ابن عباس: صغيرا ممقوتا. و قال قتادة: لعينا مقيتا و قال الكلبي: ملوما مقصيا من الجنة و من كل خير لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ يعني من بني آدم و أطاعه منهم.
قوله تعالى: وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ أي و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و ذلك بعد أن أهبط منها إبليس و أخرجه و طرده من الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما يعني فكلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما.
فإن قلت: قال في سورة البقرة و كلا بالواو و قال هنا فكلا بالفاء فما الفرق؟
قلت: قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق و الفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو و لا منافاة بين النوع و الجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس و هنا ذكر النوع وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى.
قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ يعني فوسوس إليهما و الوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيفا مكررا و أصله من صوت الحلي و معنى وسوس لهما فعل الوسوسة و ألقاها إليهما.
فإن قلت: كيف وسوس إليهما و آدم و حواء في الجنة و إبليس قد أخرج منها؟
قلت: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن هذا السؤال عن الحسن أنه قال: كان يوسوس في
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 188
الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها اللّه تعالى له. قوله و قال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم و إبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض و الذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصة مشهورة ركيكة، و قال آخرون: إن آدم و حواء ربما قربا من باب الجنة و كان إبليس واقفا من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك.
فإن قلت: إن آدم عليه الصلاة و السلام قد عرف ما بينه و بين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله؟
قلت: يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مرارا كثيرة و رغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد و منها قوله و قاسمهما «إني لكما لمن الناصحين» فلأجل هذه المواظبة و المداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما يعني ليظهر لهم ما غطى و ستر عوراتهما و قوله ما و وري مأخوذ من المواراة و هي الستر يقال واريته بمعنى سترته و السوأة فرج الرجل و المرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان و في الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات و اللام في قوله ليبدي لهما لام العاقبة و ذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما و إنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما وَ قالَ يعني و قال إبليس لآدم و حواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ يعني عن الأكل من هذه الشجرة إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير و الشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون و إنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة و القرب من العرش فاستشرف لذلك آدم و أحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبدا.
فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن الملك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة و السلام طلب أن يكون من الملائكة و هذا يدل على فضلهم عليه.
قلت: ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة و السلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة و كانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة و السلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين و على تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبدا و قوله تعالى:
[سورة الأعراف (7): الآيات 21 الى 22]
وَ قاسَمَهُما أي و أقسم و حلف لهما و هذا من المفاعلة التي تختص بالواحد إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ قال قتادة: حلف لهما باللّه تعالى حتى خدعهما و قد يخدع المؤمن باللّه فقال إني خلقت قبلكما و أنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما و قال بعض العلماء: من خادعنا باللّه خدعنا له فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يعني فخدعهما بغرور يقال ما زال فلان يدلي فلانا بغرور يعني ما زال يخدعه و يكلمه بزخرف من القول الباطل. قال الأزهري و أصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه و الغرور إظهار النصح مع إبطان الغش و هو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل. و معنى الآية أن إبليس لعنه اللّه تعالى غر آدم باليمين الكاذبة و كان آدم عليه الصلاة و السلام
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 189
يظن أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا و إبليس أول من حلف باللّه كاذبا فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ يعني: طعما من ثمرة الشجرة و فيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما يعني: ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة و العقوبة أن ظهرت و بدت لهما سوآتهما و تهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما و وري عنه من عورة صاحبه و كانا لا يريان ذلك. و قال وهب: كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه و لا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما و قال قتادة: كان لباس آدم في الجنة ظفرا كله فلما وقع في الذنب قشط عنه و بدت سوأته وَ طَفِقا يعني و أقبلا و جعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يعني أنهما لما بدت لهما سوآتهما جعلا يرقعان و يلزقان عليهما من ورق الجنة و هو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب. و قال الزجاج: جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما و في الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها.
روى أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «كان آدم صلى اللّه عليه و سلم رجلا طويلا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته و كان لا يراها في الجنة فانطلق فارّا فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أ منّي تفر قال لا يا رب و لكني استحييتك» ذكره البغوي بغير سند و أسنده الطبري من طريقين موقوفا و مرفوعا.
قوله تعالى: وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ يعني أن اللّه تعالى نادى آدم و حواء و خاطبهما فقال: ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسدا و بغيا. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها و لا تضع إلا كرها قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك و على بناتك و قال محمد بن قيس: ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها و قد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال اللّه تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر و أما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك و سيشدخ رأسك من لقيك و أما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة.
و قيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري.
[سورة الأعراف (7): الآيات 23 الى 26]
قوله عز و جل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا و هذا خبر من اللّه عز و جل عن آدم عليه الصلاة و السلام و حواء عليها السلام و اعترافهما على أنفسهما بالذنب و الندم على ذلك و المعنى: قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك و طاعة عدونا و عدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا يعني و أنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا وَ تَرْحَمْنا يعني و تتفضل علينا برحمتك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من الهالكين.
قال قتادة: قال آدم يا رب أ رأيت إن تبت إليك و استغفرتك، قال: إذا أدخلك الجنة.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 190
و أما إبليس فلم يسأله التوبة و سأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل و قال الضحاك في قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة و السلام من ربه عز و جل.
( (فصل)) و قد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بهذه الآية و أجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام في الرفعة و العلو و المعرفة باللّه عز و جل مما حملهم على الخوف منه و الإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخذ به غيرهم و أنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل و السهو فهم بسبب ذلك خائفون وجلون و هي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم و سيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم و معاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم و نزاهتهم و عمارة بواطنهم بالوحي السماوي و الذكر القدسي و عمارة ظواهرهم بالعمل الصالح و الخشية للّه عز و جل، ذنوبا و هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات و هي حسنات لغيرهم. و قد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ و الخلاف فيه فأغنى عن الإعادة و اللّه أعلم.
قوله تعالى: قالَ اهْبِطُوا قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه اللّه: إن الذي تقدم ذكره هو آدم و حواء و إبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. و قال الطبري: قال اللّه تعالى لآدم و حواء و إبليس و الحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه اللّه: قوله تعالى: اهْبِطُوا يعني إلى الأرض آدم و حواء و إبليس و الحية بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أن العداوة ثابتة بين آدم و إبليس و الحية و ذرية كل واحد من آدم و إبليس وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني موضع قرار تستقرون فيه، و قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني القبور وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني و لكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجالكم و معنى الآية أن اللّه عز و جل أخبر آدم و حواء و إبليس و الحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو و أن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في قوله تعالى: وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني إلى يوم القيامة و إلى انقطاع الدنيا قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني: قال اللّه عز و جل لآدم و ذريته و إبليس و أولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم وَ فِيها تَمُوتُونَ يعني: و في الأرض تكون وفاتكم و موضع قبوركم وَ مِنْها تُخْرَجُونَ يعني: و من الأرض يخرجكم ربكم و يحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز و جل: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ اعلم أن اللّه عز و جل لما أمر آدم و حواء بالهبوط إلى الأرض و جعلها مستقرا لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين و الدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين و الدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة و سترها شرط في صحة الصلاة و أما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر و البرد فامتنّ اللّه على عباده بأن أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعني لباسا تسترون به عوراتكم.
فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباسا.
قلت ذكر العلماء فيه وجوها أحدها: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباسا أو بمعنى رزقناكم لباسا.
الوجه الثاني: أن اللّه تعالى أنزل المطر من السماء و هو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء و إلى الإنزال كما قال تعالى: و أنزلنا الحديد وَ رِيشاً الريش للطائر معروف و هو لباسه و زينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه و زينته و المعنى
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 191
و أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم و لباسا لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً و قال وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن اللّه جميل يحب الجمال» و اختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما و ريشا يعني مالا، و هو قول مجاهد و الضحاك و السدي لأن المال مما يتزين به، و يقال: تريش الرجل إذا تموّل. و قال ابن زيد: الريش الجمال و هو يرجع إلى الزينة أيضا، و قيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث و ما ظهر من الثياب و المتاع مما يلبس أو يفرش و الريش أيضا المتاع و الأموال عندهم و ربما استعملوه في الثياب و الكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب و قيل الريش و الرياش يستعمل أيضا في الخصب و رفاهية العيش وَ لِباسُ التَّقْوى اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس و حقيقته، و منهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضا في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول و إنما أعاده إخبارا أنّ ستر العورة من التقوى و ذلك خير.
و قيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري و خلع الثياب في الطواف بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى و ذلك خير. و قال زيد بن علي رحمه اللّه تعالى: لباس التقوى آلات الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع و المغفر و نحو ذلك. و قيل لباس التقوى هو الصوف و الخشن من الثياب التي يلبسها أهل الزهد و الورع. و قيل: هو ستر العورة في الصلاة و أما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة و السدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، و قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، و قال الحسن رضي اللّه عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. و قال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، و قال عروة بن الزبير رضي اللّه عنه: لباس التقوى خشية اللّه، و قال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق اللّه له من لباس التجمل و زينة الدنيا و هو قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال و الزينة و أنشدوا في المعنى:
إذا أنت لم تلبس ثيابا من التقى
عريت و إن وارى القميص قميص
و قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات اللّه الدالة على معرفته و توحيده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.
[سورة الأعراف (7): الآيات 27 الى 28]