کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 190
و أما إبليس فلم يسأله التوبة و سأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل و قال الضحاك في قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا قال: هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة و السلام من ربه عز و جل.
( (فصل)) و قد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بهذه الآية و أجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام في الرفعة و العلو و المعرفة باللّه عز و جل مما حملهم على الخوف منه و الإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخذ به غيرهم و أنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل و السهو فهم بسبب ذلك خائفون وجلون و هي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم و سيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم و معاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم، مع طهارتهم و نزاهتهم و عمارة بواطنهم بالوحي السماوي و الذكر القدسي و عمارة ظواهرهم بالعمل الصالح و الخشية للّه عز و جل، ذنوبا و هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات و هي حسنات لغيرهم. و قد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها؟ و الخلاف فيه فأغنى عن الإعادة و اللّه أعلم.
قوله تعالى: قالَ اهْبِطُوا قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه اللّه: إن الذي تقدم ذكره هو آدم و حواء و إبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة. و قال الطبري: قال اللّه تعالى لآدم و حواء و إبليس و الحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه اللّه: قوله تعالى: اهْبِطُوا يعني إلى الأرض آدم و حواء و إبليس و الحية بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني أن العداوة ثابتة بين آدم و إبليس و الحية و ذرية كل واحد من آدم و إبليس وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني موضع قرار تستقرون فيه، و قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ يعني القبور وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني و لكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجالكم و معنى الآية أن اللّه عز و جل أخبر آدم و حواء و إبليس و الحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو و أن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما في قوله تعالى: وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ يعني إلى يوم القيامة و إلى انقطاع الدنيا قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني: قال اللّه عز و جل لآدم و ذريته و إبليس و أولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم وَ فِيها تَمُوتُونَ يعني: و في الأرض تكون وفاتكم و موضع قبوركم وَ مِنْها تُخْرَجُونَ يعني: و من الأرض يخرجكم ربكم و يحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز و جل: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ اعلم أن اللّه عز و جل لما أمر آدم و حواء بالهبوط إلى الأرض و جعلها مستقرا لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين و الدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين و الدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة و سترها شرط في صحة الصلاة و أما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر و البرد فامتنّ اللّه على عباده بأن أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعني لباسا تسترون به عوراتكم.
فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباسا.
قلت ذكر العلماء فيه وجوها أحدها: أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباسا أو بمعنى رزقناكم لباسا.
الوجه الثاني: أن اللّه تعالى أنزل المطر من السماء و هو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث: أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء و إلى الإنزال كما قال تعالى: و أنزلنا الحديد وَ رِيشاً الريش للطائر معروف و هو لباسه و زينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه و زينته و المعنى
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 191
و أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم و لباسا لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً و قال وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن اللّه جميل يحب الجمال» و اختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما و ريشا يعني مالا، و هو قول مجاهد و الضحاك و السدي لأن المال مما يتزين به، و يقال: تريش الرجل إذا تموّل. و قال ابن زيد: الريش الجمال و هو يرجع إلى الزينة أيضا، و قيل: إن الرياش في كلام العرب الأثاث و ما ظهر من الثياب و المتاع مما يلبس أو يفرش و الريش أيضا المتاع و الأموال عندهم و ربما استعملوه في الثياب و الكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب و قيل الريش و الرياش يستعمل أيضا في الخصب و رفاهية العيش وَ لِباسُ التَّقْوى اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس و حقيقته، و منهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضا في معناه، فقال ابن الأنباري: لباس التقوى هو اللباس الأول و إنما أعاده إخبارا أنّ ستر العورة من التقوى و ذلك خير.
و قيل: إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري و خلع الثياب في الطواف بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى و ذلك خير. و قال زيد بن علي رحمه اللّه تعالى: لباس التقوى آلات الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع و المغفر و نحو ذلك. و قيل لباس التقوى هو الصوف و الخشن من الثياب التي يلبسها أهل الزهد و الورع. و قيل: هو ستر العورة في الصلاة و أما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه. فقال قتادة و السدي: لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار، و قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لباس التقوى هو العمل الصالح، و قال الحسن رضي اللّه عنه: هو الحياء لأنه يحث على التقوى. و قال عثمان بن عفان رضي اللّه عنه: لباس التقوى هو السمت الحسن، و قال عروة بن الزبير رضي اللّه عنه: لباس التقوى خشية اللّه، و قال الكلبي: هو العفاف فعلى هذه الأقوال: إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق اللّه له من لباس التجمل و زينة الدنيا و هو قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال و الزينة و أنشدوا في المعنى:
إذا أنت لم تلبس ثيابا من التقى
عريت و إن وارى القميص قميص
و قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات اللّه الدالة على معرفته و توحيده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.
[سورة الأعراف (7): الآيات 27 الى 28]
قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ قيل: هذا خطاب للذين كانوا يطوفون بالبيت عراة و المعنى: لا يخدعنكم بغروره و لا يضلنكم فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف و إنما ذكر قصة آدم هنا و شدة عداوة إبليس له ليحذر بذلك أولاد آدم فقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يعني آدم و حواء عليهما الصلاة و السلام و المعنى أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته و شدة عداوته فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى فحذر اللّه عز و جل بني آدم و أمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان و غروره و تزيينه القبائح و تحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم فهذه فتنته التي نهى اللّه تعالى عباده عنها و حذرهم منها.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 192
قوله تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان و إن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان و غروره فأسند إليه و اختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما و بقيت الأظفار تذكرة و زينة و منافع، و قال وهب بن منبه رحمه اللّه تعالى: كان لباس آدم و حواء نورا، و قال مجاهد: كان لباسهما التقى.
و في رواية عنه التقوى و قيل إن لباسهما من ثياب الجنة و هذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه و لأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما يعني: ليرى آدم عورة حواء و ترى حواء عورة آدم و كان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ يعني أن إبليس يراكم يا بني آدم هو و قبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف و القبيل جمع قبيلة و هي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضا، و قال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل و معنى يراكم هو و قبيله أي من هو من نسله، و حكى أبو عبيد عن أبي يزيد القبيل: ثلاثة فصاعدا من قوم شتى و الجمع قبل و القبيلة بنو أب واحد. و قال الطبري: قبيله يعني صنفه و جيله الذي هو منهم و هو واحد يجمع على قبل و هم الجن. و قال مجاهد: الجن و الشياطين و قال ابن يزيد: قبيله نسله. و قال ابن عباس رضي عنهما: هو ولده و قوله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني أنتم يا بني آدم، قال العلماء رحمهم اللّه: إن اللّه تعالى خلق في عيون الجن إدراكا يرون بذلك الإدراك الإنس و لم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن. و قالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن و لطافتها و الوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس و الوجه في رؤية الجن بعضهم بعضا أن اللّه تعالى قوى شعاع أبصار الجن و زاد فيها حتى يرى بعضهم بعضا و لو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم و لكن لم يجعلها. و حكى الواحدي و ابن الجوزي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم و جعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه اللّه تعالى» كما قال تعالى: «الذي يوسوس في صدور الناس» فهم يرون بني آدم و بنو آدم لا يرونهم، و قال مجاهد: قال إبليس جعل لنا أربعة نرى و لا نرى و نخرج من تحت الثرى و يعود شيخنا فتى. و قال مالك بن دينار رحمه اللّه تعالى: إن عدوا يراك و لا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه اللّه تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يعني أعوانا و قرباء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال الزجاج يعني سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم.
قوله عز و جل: وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال ابن عباس رضي اللّه عنهما و مجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة الرجال و النساء. و قال عطاء: هي الشرك و الفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي و الكبائر فيمكن حملها على الإطلاق و إن كان السبب مخصوصا بما ورد من طوافهم عراة و لما كانت هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها و يعتقدون أنها طاعات و هي في نفسها فواحش ذمهم اللّه تعالى عليها و نهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر اللّه عنهم و هو قوله تعالى: قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد و هو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا و هذا التقليد باطل لأنه لا أصل له، و العذر الثاني قولهم و اللّه أمرنا بها و هذا العذر أيضا باطل و قد أجاب اللّه تعالى عنه بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ و المعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر اللّه تعالى بها و اللّه لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى ردا عليهم أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يعني انكم سمعتم كلام اللّه تعالى ابتداء من غير واسطة و لا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين اللّه تعالى و بين عباده في تبليغ أوامره و نواهيه و أحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على اللّه ما لا تعلمون.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 193
[سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30]
قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون على اللّه ما لا يعلمون أمر ربي بالقسط يعني بالعدل، و هذا قول مجاهد و السدي. و قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: بلا إله إلا اللّه فالأمر بالقسط في هذه الآية يشتمل على معرفة اللّه تعالى بذاته و صفاته و أفعاله و أنه واحد لا شريك له وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فإن قلت قل أمر ربي بالقسط خبر و قوله و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد أمر و عطف الأمر على الخبر لا يجوز فما معناه.
قلت: فيه إضمار و حذف تقديره قل أمر ربي بالقسط و قال «و أقيموا وجوهكم عند كل مسجد» فحذف فقال لدلالة الكلام عليه و معنى الآية قول مجاهد و السدي: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، و قال الضحاك: معناه إذا حضرت الصلاة و أنتم عند المسجد فصلوا فيه و لا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي أو في مسجد قومي. و قيل معناه اجعلوا سجودكم للّه خالصا وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي و اعبدوه مخلصين العبادة و الطاعة و الدعاء للّه عز و جل لا لغيره كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن اللّه عز و جل بدأ خلق بني آدم مؤمنا و كافرا كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا و كافرا و حجة هذا القول قوله في سياق الآية فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ فإنه كالتفسير له و يدل على صحة ذلك ما روي عن جابر رضي اللّه تعالى عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «يبعث كل عبد على ما مات عليه» أخرجه مسلم زاد البغوي في روايته: المؤمن على إيمانه و الكافر على كفره. و قال محمد بن كعب: من ابتدأ اللّه خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه و إن عمل بأعمال أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة. و من ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها و إن عمل بأعمال أهل الشقاوة كما أن السحرة كانوا يعملون بعمل أهل الشقاوة ثم صاروا إلى السعادة و يصح هذا القول ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار و إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» أخرجه مسلم و قال الحسن و مجاهد في معنى الآية كما بدأكم فخلقكم في الدنيا و لم تكونوا شيئا فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة و يشهد لمصلحة هذا القول ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بموعظة فقال «أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه عز و جل حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين» أخرجه البخاري و مسلم و قوله تعالى: فَرِيقاً هَدى يعني هداهم إلى الإيمان به و معرفته و وفقهم لطاعته و عبادته وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ يعني و خذل فريقا حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء و فيه دليل على أن الهدى و الضلالة من اللّه عز و جل، و لما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص روى اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن اللّه خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى و من أخطأه ضل» أخرجه الترمذي.
و قوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني أن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء و أعوانا أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر و المعاصي و المعنى أن الداعي الذي دعاهم إلى الكفر و المعاصي هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون اللّه لأن الشياطين لا يقدرون على إضلال أحد.
و قوله وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني أنهم مع ضلالتهم يظنون و يحسبون أنهم على هداية و حق و فيه دليل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 194
على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق و الجاحد و المعاند في الكفر سواء.
[سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 33]
قوله عز و جل: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال «كانت المرأة تطوف بالبيت و هي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها و هي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
و ما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أخرجه مسلم و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار و النساء بالليل» و ذكر الحديث زاد في رواية أخرى عنه فأمرهم اللّه تعالى أن يلبسوا ثيابهم و لا يتعروا. و قال مجاهد: كان حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول من يعيرني مئزرا فإن قدر عليه و إلا طاف عريانا فأنزل اللّه تعالى فيه ما تسمعون خذوا زينتكم عند كل مسجد. و قال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس و هم قريش و أحلافهم فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه و طاف في ثوب أحمسي و يرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه و يطوف عريانا و إن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه و حرمها أي جعلها حراما عليه فلذلك قال اللّه تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد، و المراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم و لو عباءة. و قال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف و صلاة و قوله تعالى: خذوا زينتكم، أمر و ظاهره الوجوب و فيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة و الطواف و في كل حال.
و قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتا و لا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأنزل اللّه عز و جل و كلوا و اشربوا يعني الدسم و اللحم وَ لا تُسْرِفُوا يعني بتحريم ما لم يحرمه اللّه من أكل اللحم و الدسم، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: «كل ما شئت و اشرب ما شئت و البس ما شئت ما أخطأ بك خصلتان سرف و مخيلة» و قال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع اللّه الطب كله في نصف آية فقال: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا و في الآية دليل على أن جميع المطعومات و المشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع و ثبت تحريمه بدليل منفصل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ يعني أن اللّه تعالى لا يحب من إسراف المأكول و المشروب و الملبوس و في هذه الآية وعيد و تهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة اللّه تعالى عبارة عن رضاه عن العبد و أيضا. و إيصال الثواب إليه و إلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة اللّه التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها و تلبسوها في الطواف و غيره ثم في تفسير الزينة قولان:
أحدهما: و هو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 195
و القول الثاني: ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس و الحلي، و لولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب و الحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم و لكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب و الحرير على الرجال دون النساء وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ يعني و من حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها اللّه لعباده و خلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالا:
أحدها أن المراد بالطيبات اللحم و الدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد اللّه تعالى بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ .
القول الثاني: و هو قول ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما و قتادة: أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر و السوائب. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها اللّه تعالى من الرزق و غيرها و هو قول اللّه تعالى: قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا و هو هذا و أنزل اللّه قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق.
و القول الثالث: إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ و يشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه و ورد نص بتحريمه قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج اللّه من رزقه للذين آمنوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق، و قيل: خالصة لهم يوم القيامة من التكدير و التنغيص و الغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر و تنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت و الحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا اللّه وحدي لا شريك لي فأحلّوا حلالي و حرّموا حرامي.
قوله عز و جل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جمع فاحشة و هي ما قبح و فحش من قول أو فعل، و المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب و يطوفون بالبيت عراة و يحرمون أكل الطيبات مما أحل اللّه لهم إن اللّه لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله اللّه لعباده و طيبه لهم و إنما حرم ربي الفواحش من الأفعال و الأقوال ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ يعني علانيته و سره (ق). عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «لا أحد أغير من اللّه» من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا أحد أحب إليه المدح من اللّه من أجل ذلك مدح نفسه.
أصل الغيرة ثوران القلب و هيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان و منه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه و لا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب عنه و يمنعه من غيره و أما الغيرة في وصف اللّه تعالى فهو منعه من ذلك و تحريمه له و يدل على ذلك قوله: و من غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و قد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب و اللّه أعلم.
و قوله تعالى: وَ الْإِثْمَ يعني و حرم الإثم و اختلفوا في الفرق بين الفاحشة و الإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها و تزايد و الإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية: قل إنما حرم ربي الكبائر و الصغائر. و قيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب و الإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، و هذا القول قريب من الأول و اعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر و الصغائر، و قيل: إن الفاحشة اسم للكبيرة و الإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرا أو صغيرا و الفائدة فيه أن يقال لما حرم اللّه الكبيرة بقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط و قيل إن الفاحشة و إن كانت بحسب اللغة اسما لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 196
صار في العرف مخصوصا بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا و أما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر و هو قول الحسن و عطاء. قال الجوهري و قد تسمى الخمر إثما و استدل عليه بقول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي
كذاك الإثم يذهب بالعقول
و قال ابن سيده صاحب المحكم: و عندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم و بهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين و أنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لأن العرب ما سمته إثما قط في جاهلية و لا في إسلام و لكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم لقوله: قل فيهما إثم كبير.
و قوله تعالى: وَ الْبَغْيَ أي و حرم البغي بِغَيْرِ الْحَقِ و البغي هو الظلم و الكبر و الاستطالة على الناس و مجاوزة الحد في ذلك كله و معنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغيا وَ أَنْ تُشْرِكُوا أي و حرم أن تشركوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً هذا فيه تهكم بالمشركين و الكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة و برهانا بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة و لا برهانا ممتنع فلما امتنع حصول الحجة و البينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلا على الإطلاق فإن قلت البغي و الإشراك داخلان تحت الفاحشة و الإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش و أعظم الإثم و كذا البغي أيضا من الفواحش و الإثم.
قلت: إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي و الشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله و قوله وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ تقدم تفسيره.
[سورة الأعراف (7): الآيات 34 الى 37]
قوله تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الأجل: الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة ثم في هذا الأجل المذكور في الآية قولان: أحدهما أنه أجل العذاب و المعنى أن لكل أمة كذبت رسله وقتا معينا و أجلا مسمى أمهلهم اللّه إلى ذلك الوقت فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يعني: إذا حلّ وقت عذابهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ يعني فلا يؤخرون و لا يمهلون قدر ساعة و لا أقل من ساعة و إنما ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الوقت في العرف و هذا حين سألوا نزول العذاب فأخبرهم اللّه تعالى أن لهم وقتا إذا جاء ذلك الوقت هو وقت إهلاكهم و استئصالهم فلا يؤخرون عنه ساعة و لا يستقدمون.