کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 273
حريص أيضا لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات اللّه و جحدها فوجه التمثيل بينهم و بين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا و إن تركوا لم يهتدوا أيضا بل هم ضلّال في كل حال ثم قال سبحانه و تعالى فَاقْصُصِ الْقَصَصَ و هذا خطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات اللّه لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيتعظون، و قيل: هذا المثل لكفار مكة و ذلك أنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم و يدعوهم إلى طاعة اللّه عز و جل فلما جاءهم محمد صلى اللّه عليه و سلم يدعوهم إلى اللّه و إلى طاعته و هم يعرفونه و يعرفون صدقه كذبوه و لم يقبلوا منه ثم قال سبحانه و تعالى:
[سورة الأعراف (7): الآيات 177 الى 178]
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بئس مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ يعني بتكذيبهم بآياتنا.
قوله عز و جل: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي يعني من يرشده اللّه إلى دينه فهو المهتدي، و قيل: معناه من يتول اللّه هدايته و إرشاده فهو المهتدي وَ مَنْ يُضْلِلْ يعني و من يتول الضلالة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني في الآخرة و في الآية دليل على أن اللّه سبحانه و تعالى هو الهادي المضل و قوله سبحانه و تعالى:
[سورة الأعراف (7): الآيات 179 الى 180]
وَ لَقَدْ ذَرَأْنا يعني خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أخبر اللّه سبحانه و تعالى أنه خلق كثيرا من الجن و الإنس للنار و هم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة و من خلقه اللّه للنار فلا حيلة له في الخلاص منها. و استدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قالت: دعي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول اللّه طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء و لم يدركه فقال «أو غير ذلك يا عائشة إن اللّه خلق للجنة أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم و خلق للنار أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم» أخرجه مسلم. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا و توقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا.
و أجاب العلماء عنه بأنه لعله صلى اللّه عليه و سلم نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة «إني لأراه مؤمنا فقال: أو مسلما» الحديث، و يحتمل أن صلى اللّه عليه و سلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به، و أما أطفال المشركين ففيهم ثلاث مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم و توقف طائفة فيهم و الثالث و هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة و يستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل صلى اللّه عليه و سلم حين رآه النبي صلى اللّه عليه و سلم في الجنة و حوله أولاد الناس فقالوا:
يا رسول اللّه و أولاد المشركين؟ قال: و أولاد المشركين. رواه البخاري في صحيحه و منها قوله سبحانه و تعالى:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 274
وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا و لا يتوجه على المولود التكليف و لا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ و هذا متفق عليه و اللّه أعلم.
و في الآية دليل و حجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن اللّه خالق أعمال العباد جميعها خيرها و شرها و أن اللّه سبحانه و تعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيرا من الجن و الإنس للنار و لا تزيد على بيان اللّه عز و جل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار و هو اللّه عز و جل، و قيل: اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم، ثم وصفهم فقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها يعني: لا يفهمون بها و لا يعقلون بها و أصل الفقه في اللغة الفهم و العلم بالشيء ثم صار علما على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال: فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم و معنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات اللّه و لا يتدبرونها و لا يعلمون بها الخير و الهدى لإعراضهم عن الحق و تركهم قبوله وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها يعني لا يبصرون بها طريق الحق و الهدى و لا ينظرون بها في آيات اللّه و أدلة توحيده وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها يعني لا يسمعون آيات القرآن و مواعظه فيعتبرون بها، قال أهل المعاني: إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا و لهم أعين يبصرون بها المرئيات و آذان يسمعون بها الكلمات و هذا لا يشك فيه.
و لما وصفهم اللّه عز و جل بأنهم لا يفقهون و لا يبصرون و لا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين و ما فيه نفعهم في الآخرة و حاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين و العرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له و منه قول الشاعر:
و عوراء الكلام صمت عنها
و إني إن أشاء بها سميع
فإنه أثبت له صمما مع وجود السمع. قال مجاهد: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئا من أمر الآخرة و لهم أعين لا يبصرون بها الهدى و لهم آذان لا يسمعون بها الحق.
ثم ضرب لهم مثلا فقال سبحانه و تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ يعني أن الذين ذرأهم لجهنم و هم الذين حقّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام و هي البهائم التي لا تفهم و لا تعقل و ذلك لأن الإنسان و سائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب و البصر و السمع.
و إنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل و الإدراك و الفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل و الخير و الشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك و لا يدركه فلا فرق بينه و بين الأنعام التي لا تدرك شيئا ثم قال تعالى:
بَلْ هُمْ أَضَلُ يعني: بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرف ما يضرها و ما ينفعها و الكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام و لأن الأنعام لم تعط القوة الفعلية و الإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالا من الأنعام.
و قيل: إن الأنعام مطيعة للّه عز و جل و الكافر غير مطيع للّه عز و جل، فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم.
قوله سبحانه و تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال مقاتل: إن رجلا دعا اللّه في صلاته و دعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي: هو أبو جهل إن محمدا و أصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل اللّه هذه الآية وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و الحسنى تأنيث الأحسن، و معنى الآية أن أسماء اللّه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 275
سبحانه و تعالى المقدسة كلها حسنى و ليس المراد أن فيها ما ليس بحسن و المعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا للّه لأن هذا اللفظ يفيد الحصر. و قيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها و لا معنى للحسن في حق اللّه تبارك و تعالى إلا ذكره بصفات الكمال و نعوت الجلال و هي محصورة في نوعين:
أحدهما: عدم افتقاره إلى غيره.
الثاني: افتقار غيره إليه و إنه هو المسمى بالأسماء الحسنى (ق). عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن للّه تسعة و تسعين اسما من حفظها دخل الجنة، و اللّه وتر يحب الوتر» و في رواية «من أحصاها» و في رواية أخرى «للّه تسعة و تسعين اسما من حفظها دخل الجنة، و اللّه وتر يحب الوتر» و في رواية «من أحصاها» و في رواية أخرى «للّه تسعة و تسعون اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة و هو وتر يحب الوتر» قال البخاري:
أحصاها حفظها. و في رواية الترمذي قال: قال رسول اللّه «إن للّه تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو اللّه الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي الميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال و الإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» قال الترمذي: حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح و لا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح و هو ثقة عند أهل الحديث قال و قد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و لا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث. قال ابن الأثير: و في رواية ذكرها رزين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تلا قوله و للّه الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال: «إن للّه تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما» الحديث.
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه اللّه تعالى: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه و تعالى و ليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة و التسعين و إنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة و التسعين اسما من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء و لهذا جاء في الحديث الآخر «أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» و قد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم أن للّه ألف اسم. قال ابن العربي: و هذا قليل. و قوله صلى اللّه عليه و سلم: من أحصاها دخل الجنة تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها و هو قول أكثر المحققين و يعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة. و قيل: المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها. و قيل معناه من أطاقها و أحسن المراعاة لها و المحافظة على ما تقتضيه و صدق بمعانيها و عمل بمقتضاها دخل الجنة و قيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه و تفكر في مدلولها معتبرا متدبرا ذاكرا راغبا راهبا معظما لها و لمسماها و مقدسا لذات اللّه سبحانه و تعالى و أن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه، و قوله و اللّه وتر يحب الوتر الوتر الفرد و معناه في وصف اللّه تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له و لا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر و فيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه و تعالى اللّه لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف و الكريم و اللطيف من أسماء اللّه و لا يقال من أسماء اللّه الرؤوف و الكريم و اللطيف اللّه و قد قيل إن لفظة اللّه هو الاسم الأعظم. قال أبو
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 276
القاسم القشيري: فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره و قد قال «و للّه الأسماء الحسنى فادعوه بها» و قال الإمام فخر الدين الرازي: دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء اللّه كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع و هو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء اللّه كثيرة و لا شك أن اللّه واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى و أيضا قوله سبحانه و تعالى: و للّه الأسماء يقتضي إضافة الأسماء إلى اللّه و إضافة الشيء إلى نفسه محال. و قال غيره: الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره. و قال أهل اللغة: إنما جعل الاسم تنويها على المعنى لأن المعنى تحت الاسم و التسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء و الاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة و الفرق ظاهر. قال العلماء: و كما يجب تنزيه اللّه عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضا و قوله سبحانه و تعالى: فَادْعُوهُ بِها يعني ادعوا اللّه بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء اللّه تعالى توقيفية لا اصطلاحية و مما يدل على صحة هذا القول و يؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد و لا يجوز أن يقال يا سخي و يجوز أن يقال يا عالم و لا يجوز أن يقال يا عاقل و يجوز أن يقال يا حكيم و لا يجوز أن يقال يا طبيب و للدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها و يستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه و تعالى و يخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم و التبجيل و التقديس للّه و يعزم المسألة مع رجاء الإجابة و يعترف اللّه سبحانه و تعالى بالربوبية و على نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موقع الدعاء و كان له تأثير عظيم وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد و العدول عن الاستقامة. و قال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحادا إذا عدل عنه و مال إلى غيره. قال المحققون: الإلحاد يقع في أسماء اللّه تعالى على وجوه:
أحدها: إطلاق أسماء اللّه عز و جل على غيره و ذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة و اشتقوا لها أسماء من أسماء اللّه تعالى فسموا اللات و العزى و مناة و اشتقاق اللات من الإله و العزى من العزيز و مناة من المنان و هذا معنى قول ابن عباس و مجاهد.
الوجه الثاني: و هو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء اللّه هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه و لم يرد فيه نص من كتاب و لا سنة لأن أسماء اللّه سبحانه و تعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو اللّه بأسمائه التي وردت في الكتاب و السنة على وجه التعظيم.
الوجه الثالث: مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضار يا نافع يا خالق الخلق.
الوجه الرابع: أن لا يسمي اللّه العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال اللّه سبحانه و تعالى و لا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة.
و قوله سبحانه و تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني في الآخرة ففيه وعيد و تهديد لمن ألحد في أسماء اللّه عز و جل.
[سورة الأعراف (7): الآيات 181 الى 183]
قوله عز و جل: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يعني جماعة و عصابة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ قال ابن عباس: يريد أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم و هم المهاجرون و الأنصار و التابعون لهم بإحسان. قال قتادة: بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان إذا قرأ هذه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 277
الآية قال «هذه لكم و قد أعطى القوم بين أيديكم مثلها و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون» (ق) عن معاوية قال و هو يخطب سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر اللّه لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه و هم على ذلك» و في الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به و يهدي إليه وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يريد به جميع المكذبين بآيات اللّه و هم الكفار. و قيل: المراد بهم أهل مكة و الأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون و ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به و يركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون و قيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم و يضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح اللّه عليهم من أبواب الخير و النعمة في الدنيا فيزدادون تماديا في الغيّ و الضلال و يندرجون في الذنوب و المعاصي فيأخذهم اللّه أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه. و قال الضحاك: معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة. و قال الكلبي: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها، و قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر.
روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. قال أهل المعاني: الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلا و منه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي و منه درج الكتاب إذا أطواه شيئا بعد شيء وَ أُمْلِي لَهُمْ يعني و أمهلهم و أطيل مدة أعمارهم.
و الإملاء في اللغة الإمهال و إطالة المدة و المعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر و المعاصي و لا أعاجلهم بالعقوبة و لا أفتح لهم باب التوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ يعني إن أخذي شديد و المتين من كل شيء هو القوي الشديد. و قال ابن عباس: معناه إن مكري شديد. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش و ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة و في هذه الآية دليل على مسألة القضاء و القدر و أن اللّه سبحانه و تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 184 الى 187]
قوله سبحانه و تعالى: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ يعني محمدا صلى اللّه عليه و سلم مِنْ جِنَّةٍ يعني من جنون قال قتادة ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه و سلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا «يا بني فلان يا بني فلان إني لكم نذير مبين» و كان يحذرهم بأس اللّه و وقائعه فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح فأنزل اللّه عز و جل: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا و التفكر التأمل و إعمال الخاطر في عاقبة الأمر و المعنى أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم يعني محمدا صلى اللّه عليه و سلم من جنة و الجنة. حالة من الجنون و إدخال لفظة من في قوله من جنة يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون و إنما نسبوه إلى الجنون و هو بريء منه لأنهم رأوا أنه صلى اللّه عليه و سلم خالفهم في الأقوال و الأفعال لأنه كان معرضا عن الدنيا و لذاتها مقبلا على الآخرة و نعيمها مشتغلا بالدعاء إلى اللّه عز و جل و إنذارهم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 278
بأسه و نقمته ليلا و نهارا من غير ملال و لا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى الجنون فبرأه اللّه سبحانه و تعالى من الجنون فقال تعالى: إِنْ هُوَ يعني ما هو إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ثم حثّهم على النظر المؤدي إلى العلم بالوحدانية فقال سبحانه و تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر اعتبار و استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ و المقصود التنبيه على أن الدلالة على الوحدانية و وجود الصانع القديم غير مقصورة على ملك السموات و الأرض بل كل شيء خلقه اللّه سبحانه و تعالى و برأه فيه دليل على وحدانية اللّه سبحانه و تعالى و آثار قدرته كما قال الشاعر:
و في كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ و المعنى و لعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار و إذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر و الاعتبار و النظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يعني بعد القرآن يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون. و المعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه و سلم يصدقون و ليس بعد محمد نبي و لا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء و كتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى اللّه عليه و سلم ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال سبحانه و تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ يعني أن إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال اللّه إياهم فلو هداهم لآمنوا وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعني و يتركهم في ضلالتهم و تماديهم في الكفر يترددون متحيرين لا يهتدون سبيلا.
قوله عز و جل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قال قتادة: قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن بيننا و بينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. و قال ابن عباس: قال جبل بن أبي قشير و شمول بن زيد، و هما من اليهود، لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى الساعة فأنزل اللّه عز و جل: يسألونك عن الساعة يعني عن خبر القيامة. سميت ساعة لأنها تقوم في ساعة غفلة و بغتة أو لأن حساب الخلائق ينقضي فيها في ساعة واحدة أيان سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة و معناه متى مرساها. قال ابن عباس: يعني منتهاها أي متى وقوعها. قالوا و الساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق و أصل الإرساء الثبات يقول رسا يرسو إذا ثبت قُلْ أي قل لهم يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه إلا اللّه استأثر اللّه بعلمها فلم يطلع عليه أحد و مر حديث الإيمان و الإسلام و الإحسان و سؤال جبريل للنبي صلى اللّه عليه و سلم فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
قال المحققون: و سبب إخفاء علم الساعة و وقت قيامها عن العباد ليكونوا على خوف و حذر منها لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت كانوا على وجل و خوف و إشفاق منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة و التوبة و أزجر لهم عن المعصية لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ قال مجاهد لا يأتي بها إلا هو، و قال السدي: لا يرسلها لوقتها إلا هو و التجلية إظهار الشيء بعد خفائه، و المعنى: لا يظهرها لوقتها المعين إلا اللّه و لا يقدر على ذلك غيره ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني ثقل أمرها و خفي علمها على أهل السموات و الأرض فكل شيء خفي فهو ثقيل شديد. و قال الحسن: إذا جاءت ثقلت و عظمت على أهل السموات و الأرض و إنما ثقلت عليهم لأن فيها فناءهم و موتهم و ذلك ثقيل على القلوب لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يعني فجأة على حين غفلة من الخلق (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «لتقومن الساعة و قد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه و لا يطويانه و لتقومن الساعة و قد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه و لتقومن الساعة و هو يليط حوضه فلا يسقي فيه و لتقومن الساعة و قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» اللّقحة بفتح اللام و كسرها: الناقة القريبة العهد بالنتاج.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 279
قوله: يليط حوضه و يروى يلوط حوضه يعني يطينه و يصلحه يقال لاط حوضه يليطه أو يلوطه إذا طينه و أصله من اللصوق. الأكلة: بضم الهمزة اللقمة.
و قوله سبحانه و تعالى: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها يعني يسألونك قومك عن الساعة كأنك حفي بهم بمعنى بارّ بهم شفيق عليهم فعلى هذا القول فيه تقديم و تأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم. قال ابن عباس: يقول كأن بينك و بينهم مودة و كأنك صديق لهم. قال ابن عباس لما سأل الناس محمدا صلى اللّه عليه و سلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا صلى اللّه عليه و سلم حفي بهم فأوحى اللّه عز و جل إليه إنما علمها عنده استأثر بعلمها فلم يطلع عليها ملكا و لا رسولا و قيل معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها قُلْ يعني يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ يعني استأثر اللّه بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا اللّه عز و جل.
فإن قلت: قوله سبحانه و تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها و قوله سبحانه و تعالى ثانيا يسألونك كأنك حفي عنها فيه تكرار؟
قلت: ليس فيه تكرار لأن السؤال الأول سؤال عن وقت قيام الساعة و السؤال الثاني سؤال عن أحوالها من ثقلها و شدائدها فلم يلزم التكرار.
فإن قلت: عبر عن الجواب في السؤال الأول بقوله تعالى: علمها عند ربي و عن الجواب في السؤال الثاني بقوله تعالى: علمها عند اللّه فهل من فرق بين الصورتين في الجوابين.
قلت: فيه فرق لطيف و هو أنه لما كان السؤال الأول واقعا عن قيام وقت الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى علم وقت قيامها عند ربي.
و لما كان السؤال الثاني واقعا عن أحوالها و شدائدها و ثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه و تعالى عند اللّه لأنه أعظم الأسماء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يعني لا يعملون أن علمها عند اللّه و أنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
و قيل: و لكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفى علم وقت قيامها المغيب عن الخلق قوله سبحانه و تعالى:
[سورة الأعراف (7): الآيات 188 الى 189]