کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 496
الإهراع هو مشي بين مشيين و قال شمر هو بين الهرولة و الخبب و الجمز وَ مِنْ قَبْلُ يعنى و من قبل مجيء الرسل إليهم قيل و من قبل مجيئهم إلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الفعلات الخبيثة و الفاحشة القبيحة و هي إتيان الرجال في أدبارهم قالَ يعني: قال لوط لقومه حين قصدوا أضيافه و ظنوا أنهم غلمان من بني آدم يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي يعني أزوجكم إياهن وقى أضيافه ببناته قيل إنه كان في ذلك الوقت و في تلك الشريعة تزويج المرأة المسلمة بالكافر، و قال الحسن بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، و قال مجاهد و سعيد بن جبير: أراد ببناته نساء قومه و أضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته و هو كالوالد لهم و هذا القول هو الصحيح و أشبه بالصواب إن شاء اللّه تعالى و الدليل عليه أن بنات لوط كانتا إثنتين و ليستا بكافيتين للجماعة و ليس من المروءة أن يعرض الرجل بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم فكيف يليق ذلك بمنصب الأنبياء أن يعرضوا بناتهم على الكفار و قيل إنما قال ذلك لوط على سبيل الدفع لقومه لا على سبيل التحقيق و في قوله هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ سؤال و هو أن يقال أن قوله هن أطهر لكم من باب أفعل التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهرا و معلوم أنه محرم فاسد نجس لا طهارة فيه البتة فكيف قال هن أطهر لكم و الجواب عن هذا السؤال إن هذا جار مجرى قوله ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم و معلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها و كقوله صلى اللّه عليه و سلم لما قال يوم أحد اعل هبل قال اللّه أعلى و أجل إذ لا مماثلة بين اللّه عز و جل و الصنم و إنما هو كلام خرج مخرج المقابلة و لهذا نظائر كثيرة.
و قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني خافوه و راقبوه و اتركوا ما أنتم عليه من الكفر و العصيان وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي يعني و لا تسوءني في أضيافي و لا تفضحوني معهم أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي صالح سديد عاقل، و قال عكرمة: رجل يقول لا إله إلا اللّه، و قال محمد بن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر حتى ينهى عن هذا الفعل القبيح قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ يعني ليس لنا بهن حاجة و لا لنا فيهن شهوة و قيل معناه ليست بناتك لنا بأزواج و لا مستحقين نكاحهن و قيل معناه مالنا في بناتك من حاجة لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان و لا نريد ذلك وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ يعني من إتيان الرجال في أدبارهم فعند ذلك قالَ لوط عليه السلام لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي لو أني أقدر أن أتقوى عليكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يعني أو أنضم إلى عشيرة يمنعوني منكم، و جواب لو محذوف تقديره لو وجدت قوة لقاتلتكم أو لوجدت عشيرة لانضممت إليهم قال أبو هريرة: ما بعث اللّه نبيا بعده إلا في منعة من عشيرته (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «يرحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد و لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه اللّه: المراد بالركن الشديد هو اللّه عز و جل فإنه أشد الأركان و أقواها و أمنعها و معنى الحديث أن لوطا عليه السلام لما خاف على أضيافه و لم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه و اشتد خزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في تلك الحال لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم و قصد لوط إظهار العذر عند أضيافه و أنه لو استطاع لدفع المكروه عنهم و معنى باقي الحديث فيما يتعلق بيوسف عليه السلام يأتي في موضعه من سورة يوسف إن شاء اللّه تعالى، قال ابن عباس و أهل التفسير: أغلق لوط بابه و الملائكة معه في الدار و جعل يناظر قومه و يناشدهم من وراء الباب و قومه يعالجون سور الدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 497
[سورة هود (11): الآيات 81 الى 82]
قالُوا يا لُوطُ ركنك شديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ يعني بمكروه فافتح الباب و دعنا و إياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه عز و جل في عقوبتهم فأذن له فتحول إلى صورته التي يكون فيها و نشر جناحيه و عليه و شاح من در منظوم و هو براق الثنايا أجلى الجبين و رأسه حبك مثل المرجان كأنه كالثلج بياضا و قدماه إلى الخضرة فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم و أعمالهم فصاروا لا يعرفون الطريق و لا يهتدون إلى بيوتهم فانصرفوا و هم يقولون النجاء النجاء في بيت لوط أسحر قوم في الأرض قد سحرونا و جعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبح و سترى ما تلقى منا غدا يوعدونه بذلك فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ يعني ببيتك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس: بطائفة من الليل، و قال الضحاك: لبقية من الليل، و قال قتادة: بعد مضي أوله و قيل أنه السحر الأول وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يعني و لا يلتفت منكم أحد إلى ورائه و لا ينظر إلى خلفه إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها من الملتفتات فتهلك مع من هلك من قومها و هو قوله سبحانه و تعالى: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فقال لوط: متى يكون هذا العذاب قالوا إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال لوط إنه بعيد أريد أسرع من ذلك فقالوا له أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فلما خرج لوط من قريته أخذ أهله معه و أمرهم ألا يلتفت منهم أحد فقبلوا منه إلا امرأته فإنها لما سمعت هذه العذاب و هو نازل بهم التفتت و صاحت وا قوماه فأخذتها حجارة فأهلكتها معهم فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني أمرنا بالعذاب جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها و ذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط و هي خمس مدائن أكبرها سدوم و هي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة و يقال كان فيها أربعمائة ألف و قيل أربعة آلاف ألف فرفع جبريل المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة و نباح الكلاب لم يكفأ لهم إناء و لم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها يعني على شذاذها و من كان خارجا عنها من مسافريها و قيل بعد ما قلبها أمطر عليهم حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قال ابن عباس و سعيد بن جبير: معناه سنك كل فارسي معرب لأن العرب تكلمت بشيء من الفارسي صارت لغة للعرب و لا يضاف إلى الفارسي مثل قوله سندس و إستبرق و نحو ذلك فكل هذه ألفاظ فارسية تكلمت بها العرب و استعملتها في ألفاظهم فصارت عربية، قال قتادة و عكرمة: السجيل الطين دليله قوله في موضع آخر حجارة من طين. و قال مجاهد: أولها حجر و آخرها طين، و قال الحسن: أصل الحجارة طين فشدت، و قال الضحاك: يعني الآجر و قيل: السجيل اسم سماء الدنيا، و قيل:
هو جبل في سماء الدنيا مَنْضُودٍ قال ابن عباس: متتابع يتبع بعضها بعضا مفعول من النضد و هو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
[سورة هود (11): الآيات 83 الى 85]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ صفة للحجارة يعني معلمة قال ابن جريج: عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض، و قال قتادة و عكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع و قال الحسن و السدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم، و قيل: كان مكتوبا عليها أي على كل حجر اسم صاحبه الذي يرمى به وَ ما هِيَ يعني تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ يعني مشركي مكة بِبَعِيدٍ قال قتادة و عكرمة: يعني ظالمي هذه الآمة و اللّه ما أجار اللّه منها ظالما بعد و في بعض الآثار ما من ظالم إلا و هو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة، و قيل: إن الحجارة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 498
اتبعت شذاذ قوم لوط حتى إن واحدا منهم دخل الحرم فوجد الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج ذلك الرجل من الحرم فسقط عليه الحجر فأهلكه.
قوله عز و جل: وَ إِلى مَدْيَنَ يعني و أرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً مدين اسم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم صار اسما للقبيلة من أولاده و قيل هو اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم فعلى هذا يكون التقدير و أرسلنا إلى أهل مدين فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعني وحّدوا اللّه و لا تعبدوا معه غيره كانت عادة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام يبدءون بالأهم فالأهم و لما كانت الدعوة إلى توحيد اللّه و عبادته أهم الأشياء قال شعيب اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره ثم بعد الدعوة إلى التوحيد شرع فيما هم فيه و لما كان المعتاد من أهل مدين البخس في الكيل و الوزن دعاهم إلى ترك هذه العادة القبيحة و هي تطفيف الكيل و الوزن فقال وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ النقص في الكيل و الوزن على وجهين أحدهما: أن يكون الاستنقاص من قبلهم فيكيلون و يزنون للغير ناقصا، و الوجه الآخر: هو استيفاء الكيل و الوزن لأنفسهم زائدا عن حقهم فيكون نقصا في مال الغير و كلا الوجهين مذموم فلهذا نهاهم شعيب عن ذلك بقوله و لا تنقصوا المكيال و الميزان إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس: كانوا موسرين في نعمة و قال مجاهد: كانوا في خصب و سعة فحذرهم زوال تلك النعمة و غلاء السعر و حصول النقمة إن لم يتوبوا و لم يؤمنوا و هو قوله: وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يعني: يحيط بكم فيهلككم جميعا و هو عذاب الاستئصال في الدنيا أو حذرهم عذاب الآخرة و منه قوله سبحانه و تعالى و إن جهنم لمحيطة بالكافرين وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أي أتموهما و لا تطففوا فيهما بِالْقِسْطِ أي بالعدل، و قيل: بتقويم لسان الميزان و تعديل المكيال وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أي: و لا تنقصوا الناس أَشْياءَهُمْ يعني أموالهم فإن قلت قد وقع التكرار في هذه القصة من ثلاثة أوجه لأنه قال و لا تنقصوا المكيال و الميزان، ثم قال: أوفوا المكيال و الميزان و هذا عين الأول ثم قال و لا تبخسوا الناس أشياءهم و هذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرار.
قلت: إن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح و هو تطفيف الكيل و الوزن و منع الناس حقوقهم احتيج في المنع منه إلى المبالغة في التأكيد و التكرير يفيد شدة الاهتمام و العناية بالتأكيد فلهذا كرر ذلك ليقوى الزجر و المنع من ذلك الفعل و لأن قوله و لا تنقصوا المكيال و الميزان نهى عن التنقيص و قوله أوفوا المكيال و الميزان أمر بإيفاء العدل و هذا غير الأول و مغاير له و لقائل أن يقول النهي ضد الأمر فالتكرار لازم على هذا الوجه قلنا الجواب عن هذا قد يجوز أن ينهى عن التنقيص و لا يأمر بإيفاء الكيل و الوزن فلهذا جمع بينهما فهو كقولك صل رحمك و لا تقطعها فتريد المبالغة في الأمر و النهي و أما قوله ثانيا و لا تبخسوا الناس أشياءهم فليس بتكرير أيضا لأنه سبحانه و تعالى لما خصص النهي عن التنقيص و الأمر بإيفاء الحق في الكيل و الوزن عمم الحكم في جميع الأشياء التي يجب إيفاء الحق فيها فيدخل فيه الكيل و الوزن و الزرع و غير ذلك فظهر بهذا البيان فائدة التكرار و اللّه أعلم؟ و قوله سبحانه و تعالى: وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني بتنقيص الكيل و الوزن و منع الناس حقوقهم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 499
[سورة هود (11): الآيات 86 الى 89]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قال ابن عباس يعني ما أبقى اللّه لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل و الوزن خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف و قال مجاهد بقية اللّه يعني طاعة اللّه خير لكم و قيل بقية اللّه يعني ما أبقاه لكم من الثواب في الآخرة خير لكم مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بما قلت لكم و أمرتكم به و نهيتكم عنه وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني أحفظ أعمالكم قال بعضهم إنما قال لهم شعيب ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا يعني من الأصنام أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعني من الزيادة و النقصان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة فلذلك قالوا هذا و قيل إنهم كانوا يمرون به فيرونه يصلي فيستهزءون به و يقولون هذه المقالة، و قال الأعمش: أ قراءتك لأن الصلاة تطلق على القراءة و الدعاء و قيل المراد بالصلاة هنا الدين يعني أدينك يأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا و أن نفعل في أموالنا ما نشاء و ذلك أنهم كانوا ينقصون الدراهم و الدنانير فكان شعيب عليه السلام ينهاهم عن ذلك و يخبرهم أنه محرم عليهم و إنما ذكر الصلاة لأنها من أعظم شعائر الدين إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قال ابن عباس: أرادوا السفيه الغاوي لأن العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون للديغ سليم و للفلاة المهلكة مفازة، و قيل: هو على حقيقته و إنما قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء و السخرية، و قيل: معناه إنك لأنت الحليم الرشيد في زعمك و قيل هو على بابه من الصحة و معناه إنك يا شعيب فينا حليم رشيد فلا يحمل بك شق عصا قومك و مخالفتهم في دينهم قالَ يعني قال لهم شعيب يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني: على بصيرة و هداية و بيان وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يعني حلالا قيل كان شعيب كثير المال الحلال و النعمة و قيل الرزق الحسن ما أتاه اللّه من العلم و الهداية و النبوة و المعرفة و جواب إن الشرطية محذوف تقديره أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و رزقني المال الحلال و الهداية و المعرفة و النبوة فهل يسعني مع هذه النعمة أن أخون في وحيه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءهم، و هذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم ذلك أنهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد و المعنى فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه و له عليه نعم كثيرة و قوله: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ قال صاحب الكشاف يقول خالفني فلان إلى كذا إذا قصده و أنت مول عنه و خالفني عنه إذا ولى عنه و أنت قاصده و يقال الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه واردا و أنا ذاهب عنه صادرا و منه قوله وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم. قال الإمام فخر الدين الرازي: و تحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا فيها بأنه حليم رشيد و ذلك يدل على كمال العقل و كمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعملوا أن الذي اخترته لنفسي هو أصوب الطرق و أصلحها و هو الدعوة إلى توحيد اللّه و ترك البخس و النقصان فأنا مواظب عليها غير تارك لها فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق و أشرفها لا ما أنتم عليه و قال الزجاج: معناه إني لست أنهاكم عن شيء و أدخل فيه إنما أختار لكم لنفسي و قال ابن الأنباري بين أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة اللّه و ترك البخس و التطفيف هو ما يرتضيه لنفسه و هو لا ينطوي إلا عليه فكان هذا محض النصيحة لهم إِنْ أُرِيدُ يعني ما أريد فيما آمركم به و أنهاكم عنه إِلَّا الْإِصْلاحَ يعني فيما بيني و بينكم مَا اسْتَطَعْتُ يعني ما استطعت إلا الإصلاح و هو الإبلاغ و الإنذار فقط و لا أستطيع إجباركم على الطاعة لأن ذلك إلى اللّه فإنه يهدي من يشاء و يضل من يشاء وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ التوفيق تسهيل سبيل الخير و الطاعة على العبد و لا يقدر على ذلك إلا اللّه تعالى فلذلك قال تعالى: وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني على اللّه اعتمدت في جميع أموري وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ يعني و إليه
أرجع فيما ينزل من النوائب
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 500
و قيل إليه أرجع في معادي روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا ذكر شعيبا قال ذلك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه.
و قوله تعالى: وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا يحملنكم خلافي و عداوتي أَنْ يُصِيبَكُمْ يعني عذاب العاجلة على كفركم و أفعالكم الخبيثة مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ يعني الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ يعني الريح التي أهلكتهم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ يعني ما أصابهم من الصيحة حتى هلكوا جميعا وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ و ذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم و قيل معناه و ما ديار قوم لوط منكم ببعيد و ذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط و بلادهم قريبة من بلادهم.
[سورة هود (11): الآيات 90 الى 93]
وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ يعني من عبادة الأصنام ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني من البخس و النقصان في الكيل و الوزن إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ يعني بعباده إذا تابوا و استغفروا وَدُودٌ قال ابن عباس: الودود المحبّ لعباده المؤمنين فهو من قولهم وددت الرجل أوده إذا أحببته، و قيل: يحتمل أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول و معناه أن عباده الصالحين يودونه و يحبونه لكثرة إفضاله و إحسانه إليهم. و قال الحليمي: هو الوادّ لأهل طاعته أي الراضي عنهم بأعمالهم و المحسن إليهم لأجلها و المادح لهم بها، و قال أبو سليمان الخطابي: و قد يكون معناه من تودد إلى خلقه قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ يعني ما نفهم ما تدعونا إليه و ذلك أن اللّه سبحانه و تعالى ختم على قلوبهم فصارت لا تعي و لا تفهم ما ينفعها و إن كانوا في الظاهر يسمعون و يفهمون وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً قال ابن عباس و قتادة: كان أعمى، قال الزجاج: و يقال إن حمير كانوا يسمون المكفوف ضعيفا و قال الحسن و أبو روق و مقاتل: يعني ذليلا، قال أبو روق: إن اللّه سبحانه و تعالى لم يبعث نبيا أعمى و لا نبيا به زمانة، و قيل: كان ضعيف البصر و قيل المراد بالضعف العجز عن الكسب و التصرف و قيل هو الذي يتعذر عليه المنع عن نفسه و يدل على صحة هذا القول ما بعده و هو قوله وَ لَوْ لا رَهْطُكَ يعني جماعتك و عشيرتك قيل الرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة، و قيل: إلى السبعة لَرَجَمْناكَ يعني لقتلناك بالحجارة و الرجم بالحجارة أسوأ القتلات و شرها، و قيل:
معناه لشتمناك و أغلظنا لك القول وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ يعني بكريم و قيل بممتنع منا و المقصود من هذا الكلام و حاصله أنهم بينوا لشعيب عليه السلام أنه لا حرمة له عندهم و لا في صدورهم و أنهم إنما لم يقتلوه و لم يسمعوه الكلام الغليظ الفاحش لأجل احترامهم رهطه و عشيرته و ذلك لأنهم كانوا على دينهم و ملتهم و لما قالوا لشعيب عليه السلام هذه المقالة أجابهم بقوله قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ يعني أهيب عندكم من اللّه و أمنع حتى تركتم قتلي لمكان رهطي عندكم فالأولى أن تحفظوني في اللّه و لأجل اللّه لا لرهطي لأن اللّه أعز و أعظم وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يعني و نبذتم أمر اللّه وراء ظهوركم و تركتموه كالشيء الملقى الذي لا يلتفت إليه إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أنه سبحانه و تعالى عالم بأحوالكم جميعا لا يخفى عليه منها شيء فيجازيكم بها يوم القيامة وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يعني على تؤدتكم و تمكنكم من أعمالكم و قيل المكانة الحالة و المعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بعناية المكنة و القدرة من الشر إِنِّي عامِلٌ يعني ما أقدر عليه من الطاعة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 501
و الخير و هذا الأمر في قوله اعملوا فيه وعيد و تهديد عظيم و يدل على ذلك قوله سبحانه و تعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله.
فإن قلت أي فرق بين إدخال الفاء و نزعها في قوله سوف تعلمون.
قلت إدخال الفاء في قوله: فسوف تعلمون، وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل و نزعها في قوله سوف تعلمون وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا و عملت أنت فقال سوف تعلمون يعني عاقبة ذلك فوصل تارة بالفاء و تارة بالاستئناف للتفنن في البلادة كما هو عادة بلغاء العرب و أقوى الوصلين و أبلغهما الاستئناف و هو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه و المعنى سوف تعلمون مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني بسبب عمله السيء أو أينا الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ يعني فيما يدعيه وَ ارْتَقِبُوا يعني و انتظروا العاقبة ما يؤول إليه أمري و أمركم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي منتظر، و الرقيب بمعنى المراقب.
[سورة هود (11): الآيات 94 الى 101]
وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا يعني بعذابهم و إهلاكهم نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا يعني بفضل منا بأن هديناهم للإيمان و وفقناهم للطاعة وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بالشرك و البخس الصَّيْحَةُ و ذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم و ماتوا جميعا، و قيل: أتتهم صيحة واحدة من السماء فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ يعني ميتين و هو استعارة من قولهم جثم الطير إذا قعد و لطأ بالأرض كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يعني كأن لم يقيموا بديارهم مدة من الدهر مأخوذ من قولهم غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنيا به عن غيره أَلا بُعْداً يعني هلاكا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ قال ابن عباس «لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد إلا قوم شعيب و قوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم و أما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم» قوله عز و جل: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني بحججنا و البراهين التي أعطيناه الدالة على صدقه و نبوته وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ يعني و معجزة باهرة ظاهرة دالة على صدقة أيضا قال بعض المفسرين المحققين سميت الحجة سلطانا لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه كالسلطان يقهر غيره، و قال الزجاج: السلطان هو الحجة و سمي السلطان سلطانا لأنه حجة اللّه في الأرض إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ يعني أتباعه و أشراف قومه فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ يعني ما هو عليه من الكفر و ترك الإيمان بما جاءهم به موسى وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يعني و ما طريق فرعون و ما هو عليه بسديد و لا حميد العاقبة و لا يدعو إلى خير يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ يعني كما تقدم قومه فأدخلهم البحر في الدنيا كذلك يتقدم قومه يوم القيامة فيدخلهم النار و يدخل هو أمامهم، و المعنى كما كان قدوتهم في الضلال و الكفر في الدنيا فكذلك هو قدوتهم و إمامهم في النار وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ يعني: و بئس الدخل المدخول فيه و قيل شبه اللّه تعالى فرعون في تقدمه على قومه إلى النار بمن يتقدم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 502
على الوارد إلى الماء و شبه أتباعه بالواردين بعده و لما كان ورود الماء محمودا عند الواردين لأنه يكسر العطش قال في حق فرعون و أتباعه فأوردهم النار و بئس الورد المورود لأن الأصل فيه قصد الماء و استعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ يعني في هذه الدنيا لَعْنَةً يعني طردا و بعدا عن الرحمة وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني و أتبعوا لعنة أخرى يوم القيامة مع اللعنة التي حصلت لهم في الدنيا بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ يعني بئس العون المعان و ذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعنة في الآخرة و قيل معناه بئس العطاء المعطى و ذلك أنه ترادف عليهم لعنتان لعنة في الدنيا و لعنة في الآخرة.
و قوله سبحانه و تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى يعني من أخبار أهل القرى و هم الأمم السالفة و القرون الماضية نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يعني نخبرك به يا محمد لتخبر قومك أخبارهم لعلهم يعتبرون بهم فيرجعوا عن كفرهم أو ينزل بهم مثل ما نزل بهم من العذاب مِنْها يعني من القرى التي أهلكنا أهلها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ يعني منها عامر و منها خراب و قيل منها قائم يعني الحيطان بغير سقوف و منها ما قد محي أثره بالكلية شبهها اللّه تعالى بالزرع الذي بعضه قائم على سوقه و بعضهم قد حصد و ذهب أثره و الحصيد بمعنى المحصود وَ ما ظَلَمْناهُمْ يعني بالعذاب و الإهلاك وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالكفر و المعاصي فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني بعذابهم أي لم تنفعهم أصنامهم و لم تدفع عنهم العذاب وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ يعني غير تخسير و قيل غير تدمير.
[سورة هود (11): الآيات 102 الى 106]
وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ يعني و هكذا أخذ ربك إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ الضمير في و هي عائد على القرى و المراد أهلها إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (ق) عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد» فالآية الكريمة في الحديث دليل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب أن يتدارك ذلك بالتوبة و الإنابة ورد الحقوق إلى أهلها إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم و العذاب الشديد و لا يظن أن هذه الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية بل هو عام في كل ظالم و يعضده الحديث و اللّه أعلم.
قوله عز و جل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما ذكر من عذاب الأمم الحالية و إهلاكهم لعبرة و موعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يعني أن إهلاك أولئك عبرة يعتبر بها و موعظة يتعظ بها من كان يخشى اللّه و يخاف عذابه في الآخرة لأنه إذا نظر ما أحل اللّه بأولئك الكفار في الدنيا من أليم عذابه و عظيم عقابه و هو كالأنموذج مما أعد لهم في الآخرة اعتبر به فيكون زيادة في خوفه و خشيته من اللّه ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يعني يوم القيامة تجمع فيه الخلائق من الأولين و الآخرين للحساب و الوقوف بين يدي رب العالمين وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يعني يشهده أهل السماء و أهل الأرض وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يعني و ما نؤخر ذلك اليوم و هو يوم القيامة إلا إلى وقت معلوم محدود و ذلك الوقت لا يعلمه أحد إلا اللّه تعالى: يَوْمَ يَأْتِ يعني ذلك اليوم لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ قيل: إن جميع الخلائق يسكتون في ذلك اليوم فلا يتكلم أحد فيه إلا بإذن اللّه تعالى.