کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 263
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ يعني الجنة يكرمون به و لا ينالهم فيه مكروه وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بنياتهم حَلِيمٌ بالعفو عنهم. قوله عزّ و جلّ ذلِكَ أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ يعني جازى الظالم بمثل ظلمه و قيل يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا في المحرم فكره المسلمون قتالهم و سألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون و قاتلوهم فذلك بغيهم عليهم و ثبت المسلمون فنصرهم اللّه عليهم فذلك قوله تعالى لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يعني عن مساوي المؤمنين غَفُورٌ يعني لذنوبهم ذلِكَ يعني ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ في معنى هذا الإيلاج قولان، أحدهما: أنه يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار و ذلك بغيبوبة الشمس و يجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس. القول الثاني: هو ما يزيد في أحدهما و ينقص من الآخر من الساعات و ذلك لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي ذو الحق في قوله و فعله، و دينه حق و عبادته حق وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ يعني المشركين مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ يعني الأصنام التي ليس عندها ضر و لا نفع وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ أي العالي على كل شيء الْكَبِيرُ أي العظيم في قدرته و سلطانه. قوله عزّ و جلّ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً يعني بالنبات إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يعني باستخراج النبات من الأرض رزقا للعباد و الحيوان خَبِيرٌ يعني بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يعني عبيدا و ملكا وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يعني الغني عن عباده الحميد في أفعاله أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يعني الدواب التي تركب في البر وَ الْفُلْكَ أي و سخر لكم السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ يعني سخر لها الماء و الرياح و لو لا ذلك ما جرت وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ أي لكيلا تسقط عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه أنعم بهذه النعم الجامعة بمنافع الدنيا و الدين و قد بلغ الغاية في الإنعام و الإحسان فهو إذن رؤوف رحيم بكم وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أي أنشأكم و لم تكونوا شيئا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي يوم البعث للثواب و العقاب إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي لجحود
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 264
لنعم اللّه عزّ و جلّ. قوله تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً قال ابن عباس شريعة هُمْ ناسِكُوهُ هم عاملون بها و عنه أنه قال عيدا و قيل موضع قربان يذبحون فيه و قيل موضع عبادة فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي في أمر الذبائح نزلت في بديل بن ورقاء و بشر بن سفيان و يزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم و لا تأكلون مما قتله اللّه؟ و قيل معناه لا تنازعهم أنت. قوله تعالى وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى الإيمان به و إلى دينه إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي على دين واضح قويم وَ إِنْ جادَلُوكَ يعني خاصموك في أمر الذبح و غيره فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي من التكذيب اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني فتعلمون حينئذ الحق من الباطل و قيل حكم يوم القيامة يتردّد بين جنة و ثواب لمن قبل و بين نار و عقاب لمن رد و أبى. قوله عزّ و جلّ أَ لَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و يدخل فيه الأمة أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ يعني في اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعني علمه بجميعه عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي هين و قيل: إن كتب الحوادث مع أنها من الغيب على اللّه يسير وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني حجة ظاهرة من دليل سمعي وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهل لا عن علم و لا دليل عقلي وَ ما لِلظَّالِمِينَ يعني المشركين مِنْ نَصِيرٍ يعني مانع يمنعهم من العذاب.
[سورة الحج (22): الآيات 72 الى 77]
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني القرآن وصفه بذلك لأنه فيه بيان الأحكام و الفصل بين الحلال و الحرام تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يعني الإنكار و الكراهية يتبين ذلك في وجوههم يَكادُونَ يَسْطُونَ يعني يقعون و يبسطون إليكم أيديهم بالسوء و قيل يبطشوه بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي بمحمد و أصحابه من شدة الغيظ قُلْ يعني قل لهم يا محمد أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ يعني بشر لكم و أكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون النَّارُ يعني هي النار وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا. قلت لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل كلام كان كذلك مثلا. و قال في الكشاف قد سميت الصفة و القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان و الاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مسيرة عندهم مستحسنة مستغربة فَاسْتَمِعُوا لَهُ يعني تدبروه حق تدبره فإنّ الاستماع بلا تدبر و تعقل لا ينفع و المعنى جعل لي شبيه و شبه به الأوثان أي جعل المشركون الأصنام شركائي يعبدونها ثم بين حالها و صفتها فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً يعني واحدا في صغره و ضعفه و قلته لأنها لا تقدر على ذلك وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ يعني لخلقه، و المعنى أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة على ضعفها و صغرها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا له وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ قال ابن عباس: كانوا يطلون
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 265
الأصنام بالزعفران فإذا جف جاء الذباب فاستلبه منه. و قيل: كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام فيقع الذباب عليه و يأكل منه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم و المطلوب هو الصنم و قيل الطالب الصنم و المطلوب الذباب أي لو طلب الصنم أو يخلق الذباب لعجز عنه و قيل الطالب عابد الصنم و المطلوب هو الصنم ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني ما عظموه حق عظمته و ما عرفوه حق معرفته و لا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب و لا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ يعني غالب لا يقهر. قوله عزّ و جلّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ يعني يختار من الملائكة رُسُلًا جبريل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل و غيرهم وَ مِنَ النَّاسِ يعني يختار اللّه من الناس رسلا مثل إبراهيم و عيسى و محمد و غيرهم من الأنبياء و الرسل صلّى اللّه عليهم أجمعين. نزلت حين قال المشركون أ أنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر اللّه تعالى أن الاختيار إليه يختار من يشاء من عباده لرسالته إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يعني بأقوالهم بَصِيرٌ يعني لأفعالهم لا تخفى عليه خافية. قوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: ما قدموا وَ ما خَلْفَهُمْ يعني ما خلفوا و قيل يعلم ما عملوا ما هم عاملون و قيل يعلم ما بين أيدي ملائكته و رسله قبل أن يخلقهم و يعلم ما هو كائن بعد فنائهم وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني في الآخرة. قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا يعني صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع و السجود وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ يعني وحدوه و قيل أخلصوا له العبادة وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ قال ابن عباس: صلة الأرحام و مكارم الأخلاق و قيل فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر اللّه تعالى و إلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق اللّه و يدخل فيه البر و المعروف و الصدقة و حسن القول و غير ذلك من أعمال البر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يعني لكي تسعدوا و تفوزوا بالجنة.
فصل: في حكم سجود التلاوة هنا
لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة و اختلفوا في السجدة الثانية فروي عن عمر و علي و ابن عمر و ابن مسعود و ابن عباس و أبي الدرداء و أبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان و به قال ابن المبارك و الشافعي و أحمد و إسحاق، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول اللّه في الحج سجدتان قال:
«نعم و من لم يسجدهما فلا يقرأهما» أخرجه الترمذي و أبو داود. و عن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين و قال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ و ذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة و هي الأولى و ليس هذه بسجدة و هو قول الحسن و سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و سفيان الثوري و أبي حنيفة و مالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة و اختلف العلماء في عدة سجود التلاوة. فذهب الشافعي و أحمد و أكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لكن الشافعي قال في الحج سجدتان و أسقط سجدة ص. و قال أبو حنيفة في الحج سجدة و أثبت سجدة ص و به قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. و ذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب و ابن عباس و به قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «في القرآن إحدى عشرة سجدة» أخرجه أبو داود و قال إسناده واه.
و دليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل و في سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود و صح من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: «سجدنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في اقرأ و إذا السماء انشقت». أخرجه مسلم و سجود التلاوة سنة للقارئ و المستمع. و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة هو واجب. قوله عزّ و جلّ:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 266
[سورة الحج (22): آية 78]
وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي جاهدوا في سبيل اللّه أعداء اللّه و معنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قاله ابن عباس: و عنه قال لا تخافوا في اللّه لومة لائم فهو حق الجهاد كما تجاهدون في سبيل اللّه و لا تخافون لومة لائم و قيل معناه اعملوا للّه حق عمله و اعبدوه حق عبادته قيل نسخها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ و قال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصة للّه و لتكون كلمة اللّه هي العليا بدليل قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري و قيل مجاهدة النفس و الهوى هو حق الجهاد و هو الجهاد الأكبر روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لما رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار و بالأكبر جهاد النفس هُوَ اجْتَباكُمْ يعني اختاركم لدينه و الاشتغال بخدمته و عبادته و طاعته فأي رتبة أعلى من هذا و أي سعادة فوق هذا وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق و شدة و هو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل اللّه له منه مخرّجا بعضها بالتوبة و بعضها برد المظالم و القصاص و بعضها بأنواع الكفارات من الأمراض و المصائب و غير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلا إلى الخلاص من الذنوب و من العقاب لمن وفق.
و قيل: معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان و الفطر و وقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا. و قيل: معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة و الفطر في السفر و التيمم عند عدم الماء و أكل الميتة عند الضرورة و الصلاة قاعدا و الفطر مع العجز بعذر المرض و نحو ذلك من الرخص التي رخص اللّه لعباده، قيل أعطى اللّه هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحدا غيرهم جعلهم شهداء على الناس و ما جعل عليهم في الدين من حرج. و قال ابن عباس: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها اللّه عن هذه الأمة مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ لأنها داخلة في ملة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. فإن قلت لم يكن إبراهيم أبا للأمة كلها فكيف سماه أبا في قوله «ملة أبيكم إبراهيم». قلت إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة و إن كان الخطاب لكل المسلمين فهو أبو المسلمين. و المعنى وجوب احترامه و حفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب فهو كقوله «و أزواجه أمهاتهم» و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إنما أنا لكم كالوالد» و في قوله هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ قولان أحدهما: أن الكناية ترجع إلى اللّه تعالى يعني أن اللّه سماكم المسلمين في الكتب القديمة من قبل نزول القرآن القول الثاني: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني أنّ إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت و هو قوله رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ فاستجاب اللّه دعاءه فينا وَ فِي هذا أي و في القرآن سماكم المسلمين لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة أن قد بلغكم وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ يعني ثقوا به و توكلوا عليه و قيل تمسكوا بدين اللّه. و قال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره و قيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه. و قيل: الاعتصام هو التمسك بالكتاب و السنة هُوَ مَوْلاكُمْ يعني وليكم و ناصركم و حافظكم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ أي الناصر لكم و اللّه تعالى أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 267
سورة المؤمنين
و هي مكية و هي مائة و ثمان عشرة آية و ألف و ثمانمائة و أربعون كلمة و أربعة آلاف و ثمانمائة حرف و حرفان.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)
عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل اللّه عليه يوما فمكث ساعة ثم سري عنه فقرأ قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات من أولها. و قال: من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة ثم استقبل القبلة و رفع يديه و قال اللهم زدنا و لا تنقصنا و أكرمنا و لا تهنا و أعطنا و لا تحرمنا و آثرنا و لا تؤثر علينا اللهم أرضنا و ارض عنا» أخرجه الترمذي. قوله عزّ و جلّ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد و بقوا في الجنة و قيل الفلاح البقاء و النجاة الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال ابن عباس: مخبتون أذلّاء خاضعون. و قيل خائفون و قيل: متواضعون و قيل الخشوع من أفعال القلب كالخوف و الرهبة و قيل هو من أفعال الجوارح كالسكون و ترك الالتفات و غض البصر. و قيل لا بد من الجمع بين أفعال القلب و الجوارح و هو الأولى فالخاشع في صلاته لا بد و أن يحصل له الخشوع في جميع الجوارح، فأما ما يتعلق بالقلب من الأفعال فنهاية الخضوع و التذلل للمعبود و لا يلتفت الخاطر إلى شيء سوى ذلك التعظيم. و أما ما يتعلق بالجوارح فهو أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده. و قيل الخشوع هو أن لا يعرف من على يمينه و لا من على شماله (ق) عن عائشة قالت: «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» الاختلاس هو الاختطاف عن أبي ذر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا يزال اللّه مقبلا على العبد و هو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه». و في رواية «أعرض عنه» أخرجه أبو داود و النسائي. و قيل الخشوع هو أن لا يرفع بصره إلى السماء (خ) عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال:
لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» و قال أبو هريرة كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون» رمقوا بأبصارهم إلى موضع السجود. و قيل الخشوع هو أن لا يعبث بشيء من جسده في الصلاة لما روي «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه». ذكره البغوي بغير سند. عن أبي ذر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه» أخرجه أبو داود و الترمذي و النسائي. و قيل الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة و الإعراض عمّا سوى اللّه و التدبر فيما يجري على لسانه من القراءة و الذكر. قوله تعالى:
[سورة المؤمنون (23): الآيات 3 الى 10]
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 268
وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال ابن عباس عن الشرك و قيل عن المعاصي و قيل هو كل باطل و لهو و ما لا يجمل من القول و الفعل و قيل هو معارضة الكفار الشتم و السب وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي الزكاة الواجبة مؤدّون فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل و قيل الزكاة ها هنا هي العمل الصالح و الأول أولى وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الفرج اسم لسوأة الرجل و المرأة و حفظه التعفف عن الحرام إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ على بمعنى من أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني الإماء و الجواري و الآية في الرجال خاصة لأن المرأة لا يجوز لها أن تستمتع بفرج مملوكها فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ يعني بعدم حفظ فرجه من امرأته و أمته فإنه لا يلام على ذلك و إنما لا يلام فيما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي و في حال الحيض و النفاس فإنه محظور فلا يجوز و من فعله فإنه ملوم فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي التمس و طلب سوى الأزواج و الولائد و هن الجواري المملوكة فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الظالمون المجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام. و فيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام و هو قول أكثر العلماء. سئل عطاء عنه فقال: مكروه سمعت أن قوما يحشرون و أيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء و قال سعيد بن جبير عذب اللّه أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. قوله عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ أي حافظون يحفظون ما ائتمنوا عليه و العقود التي عاقدوا الناس عليها يقومون بالوفاء بها. و الأمانات تختلف فمنها ما يكون بين العبد و بين اللّه تعالى كالصلاة و الصوم و غسل الجنابة و سائر العبادات التي أوجبها اللّه تعالى على العباد فيجب الوفاء بجميعها. و منها ما يكون بين العباد كالودائع و الصنائع و الأسرار و غير ذلك فيجب الوفاء به أيضا وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يداومون و يراعون أوقاتها و إتمام أركانها و ركوعها و سجودها و سائر شروطها. فإن قلت كيف كرر ذكر الصلاة أولا و آخرا. قلت هما ذكران مختلفان فليس تكرارا وصفهم أولا بالخشوع في الصلاة و آخرا بالمحافظة عليها. قوله عزّ و جلّ أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة هُمُ الْوارِثُونَ يعني يرثون منازل أهل النار من الجنة. عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «ما منكم من أحد إلا و له منزلان منزل في الجنة و منزل في النار فمن مات و دخل النار ورث أهل الجنة منزله» و ذلك قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ذكره البغوي بغير سند و قيل معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة و ينالوها كما يئول أمر الميراث إلى الوارث.
[سورة المؤمنون (23): الآيات 11 الى 18]
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هو أعلى الجنة. عن عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة و درجة كما بين السماء و الأرض و الفردوس أعلاها درجة و منها تفجر أنهار الجنة الأربعة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 269
و من فوقها يكون العرش فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس» أخرجه الترمذي هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها و لا يموتون. قوله عزّ و جلّ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم الإنسان اسم جنس مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قال ابن عباس السلالة صفوة الماء و قيل هي المني لأن النطفة تسل من الظهر من طين يعني طين آدم لأن السلالة تولدت من طين خلق منه آدم و قيل: المراد من الإنسان هو آدم، و قوله من سلالة أي سل من كل تربة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي حريز و هو الرحم و سمي مكينا لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي صيرنا النطفة قطعة دم جامد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي جعلنا الدم الجامد قطعة لحم صغيرة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً و ذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة له. قيل إن بين كل خلق و خلق أربعين يوما ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي مباينا للخلق الأول قال ابن عباس: هو نفخ الروح فيه و قيل جعله حيوانا بعد ما كان جمادا و ناطقا بعد ما كان أبكم و سميعا و كان أصم و بصيرا و كان أكمه و أودع باطنه و ظاهره عجائب صنعه و غرائب فطره و عن ابن عباس قال: إن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الرضاع إلى القعود و القيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل و يشرب إلى أن يبلغ الحلم و يتقلب في البلاد إلى ما بعدها فَتَبارَكَ اللَّهُ أي استحق التعظيم و الثناء بأنه لم يزل و لا يزال أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المصورين و المقدرين. فإن قلت كيف الجمع بين هذه الآية و بين قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ و قوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟ . قلت الخلق له معان: منها الإيجاد و الإبداع و لا موجد و لا مبدع إلّا اللّه تعالى. و منها التقدير كما قال الشاعر:
و لأنت تفري ما خلقت و بعض
القوم يخلق ثم لا يفري
معناه أنت تقدّر الأمور و تقطعها و غيرك لا يفعل ذلك فعلى هذا يكون معنى الآية اللّه أحسن المقدرين.