کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 314
قال ابن عباس: و بيناه بيانا و الترتيل التبيين في ترسل و تثبت و قيل فرقناه تفريقا آية بعد آية وَ لا يَأْتُونَكَ يعني يا محمد هؤلاء المشركون بِمَثَلٍ يعني يضربونه لك في إبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ أي بما ترد به ما جاءوا به من ما يوردون المثل، و تبطله فسمي ما يوردون من الشبه مثلا، و سمي ما يدفع به الشبه حقا وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً يعني أحسن بيانا و تفصيلا ثم ذكر ما لهؤلاء المشركين فقال تعالى الَّذِينَ يعني هم الذين يُحْشَرُونَ أي يساقون و يجرون عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً يعني منزلا و مصيرا وَ أَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا. قوله تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي معينا و ظهيرا فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القبط فَدَمَّرْناهُمْ فيه إضمار أي فكذبوهما فدمرناهم تَدْمِيراً يعني أهلكناهم إهلاكا وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني رسولهم و من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل فلذلك ذكره بلفظ الجمع أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة لمن بعدهم وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ في الآخرة عَذاباً أَلِيماً يعني سيرى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا وَ عاداً وَ ثَمُودَ أي أهلكنا عادا و ثمود وَ أَصْحابَ الرَّسِ قال وهب بن منبه كان أهل بئر الرس نزولا عليها، و كانوا أصحاب مواش يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا، يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم و آذوا شعيبا فبينما هم حول البئر في منازلهم، انهارت البئر و خسف بهم و بديارهم و رباعهم و قيل: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم اللّه. و قال سعيد بن جبير: كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم اللّه و قيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار هم الذين ذكرهم اللّه في سورة «يس» و قيل هم أصحاب الأخدود و الرس الأخدود وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي و أهلكنا قرونا كثيرا بين عاد و ثمود و أصحاب الرس وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكناهم إهلاكا قوله تعالى وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني الحجارة و هي قريات قوم لوط، و هي خمس قرى أهلك اللّه منها أربعا و نجت واحدة. و هي أصغرها و كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها يعني إذا مروا بها في أسفارهم فيعتبروا و يتعظوا لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم في ممرهم إلى الشأم بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً يعني لا يخافون بعثا. قوله تعالى:
[سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 48]
وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً نزلت في أبي جهل كان إذا مر مع أصحابه قال مستهزئا أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا يعني قد قارب أن يضلنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يعني على عبادتها و المعنى لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي في الآخرة عيانا مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ و ذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد حجرا، فإذا رأى حجرا أحسن منه رماه و أخذ الأحسن منه و عبده و قال ابن عباس: أ رأيت من ترك عبادة اللّه خالقه، ثم هوى
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 315
حجرا فعبده ما حاله عندي و قيل الهوى إله يعبد أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حافظا تحفظه من اتباع الهوى و عبادة ما يهواه من دون اللّه و المعنى لست كذلك و قال الكلبي نسختها آية القتال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أي ما تقول سماع طالب الإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ يعني ما يعاينون من الحجج و الأعلام و هذه المذمة أعظم من التي تقدمت، لأنهم لشدة عنادهم لا يسمعون القول و إذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنهم لا سمع لهم و لا عقل البتة فعند ذلك شبههم بالأنعام فقال تعالى إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي في عدم انتفاعهم بالكلام و عدم إقدامهم على التدبر و التفكير ثم قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها و مشاربها و تنقاد لأربابها الذين يتعاهدونها، و هؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق و لا يطيعون ربهم الذي خلقهم و رزقهم لأن الأنعام تسجد و تسبح و الكفار لا يفعلون ذلك.
قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا، لأنه ظل لا شمس معه وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً يعني دائما ثابتا لا يزول و لا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل، و لو لا النور لما عرفت الظلمة، و الأشياء تعرف بضدها ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني الظل إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني بالشمس التي تأتي عليه و المعنى أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس قبض اللّه الظل جزأ فجزأ قبضا خفيفا وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً يعني سترا تسترون به و المعنى أن الظلمة الليل تغشى كل شيء كاللباس، الذي يشتمل على لابسه وَ النَّوْمَ سُباتاً يعني راحة لأبدانكم و قطعا لأعمالكم وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً يعني يقظة و زمانا تنتشرون فيه لابتغاء رزقكم و طلب الاشتغال وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني المطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره فهو اسم لما يتطهر به بدليل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود و الترمذي و النسائي. و أراد به المطهر و الماء المطر لأنه يطهر الإنسان من الحدث و النجاسة فثبت أن التطهير مختص بالماء و ذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور و هو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل و الريق و نحوها، و لو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها و ذهب بعضهم إلى أن الطهور ما تكرر منه التطهير، و هو قول مالك حتى جوز الوضوء بالماء إذا توضئ به مرة، و إن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته نظر إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه، كالطين و التراب و أوراق الأشجار فتجوز الطهارة به كما لو تغير بطول المكث في قراره، و كذلك لو وقع فيه ما لا يختلط كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته تجوز الطهارة به لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة، و إن كان شيئا يمكن صون الماء عنه، و مخالطته كالخل و الزعفران و نحوهما تزول طهوريته فلا يجوز الوضوء به و إن لم يتغير أحد أوصافه نظر إن كان الواقع شيئا طاهرا لا يزيل طهوريته يجوز الوضوء به سواء كان الماء قليلا أو كثيرا، و إن كان الواقع شيئا نجسا نظر فيه فإن كان الماء، أقل من قلتين نجس الماء و إن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به و القلتان خمسمائة رطل بالبغدادي يدل عليه ما روي عن ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة، ترده السباع و الذئاب فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» أخرجه أبو داود و الترمذي. و هذا قول الشافعي و أحمد و إسحاق و جماعة من أهل الحديث، أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه، و ذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، و هذا قول الحسن و عطاء و النخعي و الزهري و احتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «قيل يا رسول اللّه إنه يستقى لك من بئر بضاعة و يلقى فيها لحوم الكلاب و خرق الحيض و عذر النساء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إن الماء طهور لا ينجسه شيء» و في رواية قال «قلت يا رسول اللّه أ يتوضأ من بئر بضاعة، و هي بئر تطرح فيها خرق الحيض و لحوم الكلاب و النتن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 316
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «الماء طهور لا ينجسه شيء» و قوله تعالى:
[سورة الفرقان (25): الآيات 49 الى 57]
لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قيل: أراد به موضع البلدة وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أي نسقي من ذلك الماء أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً أي بشرا كثيرا و الأناسي جمع إنسي و قيل جمع إنسان قوله عز و جل وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ يعني المطر مرة ببلدة و مرة ببلدة أخرى و قال ابن عباس ما عام بأمطر من عام و لكن اللّه يصرفه في الأرض و قرأ هذه الآية، و هذا كما روي مرفوعا «ما من ساعة من ليل و لا نهار إلا و السماء تمطر فيها يصرفه اللّه حيث يشاء» و روي عن ابن مسعود يرفعه، قال: ليس من سنة بأمطر من سنة أخرى و لكن اللّه عزّ و جلّ قسم هذه الأرزاق فجعلها في هذه السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، و وزن معلوم و إذا عمل قوم بالمعاصي حول اللّه ذلك إلى غيرهم و إذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك المطر إلى الفيافي و البحار، و قيل: المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا و طشا و رذاذا و نحوها و قيل التصريف راجع إلى الريح لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا و يتفكروا في قدرة اللّه تعالى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا في كفرهم هو أنهم إذا مطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا (ق) عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال «هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه و رسوله أعلم قال أصبح عن عبادي مؤمن بي و كافر فأما من قال مطرنا بفضل اللّه و رحمته فذلك مؤمن بي و كافر بالكواكب و أما من قال مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» قوله تعالى: وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي رسولا ينذرهم و لكن بعثناك إلى القرى كلها و حملناك ثقل النذارة لتستوجب بصبرك ما أعددنا لك من الكرامة و الدرجة الرفيعة فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم و مداهنتهم وَ جاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً أي شديدا. قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلطهما و أفاض أحدهما على الآخر و قيل أرسلهما في مجاريهما هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة يميل إلى الحلاوة وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة و قيل مر وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا بقدرته فلا يختلط العذب بالملح و لا الملح بالعذب وَ حِجْراً مَحْجُوراً أي سترا ممنوعا فلا يبغي أحدهما على الآخر و لا يفسد الملح العذب. قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً أي جعله ذا نسب و صهر و قيل النسب ما لا يحل نكاحه و الصهر ما يحل نكاحه و النسب ما يوجب الحرمة و الصهر ما لا يوجبها و قيل النسب من القرابة و الصهر الخلطة التي تشبه القرابة و هو النسب المحرم للنكاح و قد حرم اللّه بالنسب سبعا و بالسبب سبعا و يجمعها قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية و قد تقدم تفسير ذلك و بيانه في تفسير سورة النساء وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً على ما أراد حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر و الأنثى وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني هؤلاء المشركين ما لا يَنْفَعُهُمْ أي إن عبدوه وَ لا يَضُرُّهُمْ أي
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 317
إن تركوه وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا أعان الشيطان على ربه بالمعاصي لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان و قيل معنى ظهيرا هينا ذليلا من قولك ظهرت بفلان إذا جعلته وراء ظهرك و لم تلتفت إليه و قيل أراد بالكافر أبا جهل و الأصح أنه عام في كل كافر. و قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً أي بالثواب على الإيمان و الطاعة وَ نَذِيراً منذرا بالعقاب على الكفر و المعصية قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ فتقولون إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعوننا إليه فلا نتبعه إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا معناه لكن من شاء أن يتخذ بإنفاق ماله سبيلا إلى ربه فعلى هذا يكون المعنى لا أسألكم لنفسي أجرا، و لكن أمنع من إنفاق المال إلا في طلب مرضاة اللّه، و اتخاذ السبيل إلى جنته. قوله عز و جل:
[سورة الفرقان (25): الآيات 58 الى 64]
وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ معناه أنه سبحانه و تعالى لما أمر نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم بأن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره أن يتوكل عليه في جميع أموره، و إنما قال على الحي الذي لا يموت لأن من توكل على حي يموت انقطع توكله عليه بموته، و أما اللّه سبحانه و تعالى فإنه حي لا يموت فلا ينقطع توكل من توكل عليه، و لا يضيع البتة وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي صل له شكرا على نعمه و قيل: معناه قل سبحان اللّه و الحمد للّه وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يعني أنه تعالى عالم بجميع ذنوب عباده فيجازيهم بها. و قيل: معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قادر على مكافأتهم و فيه وعيد شديد، كأنه إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة. قوله عز و جل الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي فاسأل الخبير بذلك، يعني بما ذكر من خلق السموات و الأرض و الاستواء على العرش. و قيل: معناه أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم، بهذا إلى غيري و قيل معناه فاسأل عنه خبيرا و هو اللّه تعالى و قيل: هو جبريل عليه السلام وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب كانوا يسمونه رحمان اليمامة أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أنت يا محمد وَ زادَهُمْ يعني قول القائل اسجدوا للرحمن نُفُوراً يعني عن الإيمان و السجود.
فصل
و هذه السجدة من عزائم السجدات فيسن للقارئ، و المستمع أن يسجدا عند سماعها و قراءتها. قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قيل: البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها، و قيل: البروج قصور فيها الحرس. و قال ابن عباس: هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة، و هي الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة و الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت سميت بالبروج، التي هي القصور العالية لأنها للكواكب كالمنازل لسكانها وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً يعني الشمس وَ قَمَراً مُنِيراً وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً قال ابن عباس معناه خلفا، و عوضا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 318
فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. قال فاتتني الصلاة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإنّ اللّه جعل الليل و النهار خلفة لمن أراد أن يذكر. و قيل جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود و هذا أبيض و قيل يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب هذا جاء هذا فهما يتعقبان في الضياء، و الظلمة و الزيادة و النقصان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتذكر و يتعظ أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني شكر نعمة ربه عليه فيهما. قوله عز و جل وَ عِبادُ الرَّحْمنِ قيل هذه الإضافة للتخصيص، و التفضيل و إلا فالخلق كلهم عباد اللّه الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً يعني بالسكينة و الوقار متواضعين غير أشرين، و لا مرحين و لا متكبرين بل علماء حكماء، أصحاب و قار و عفة وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني السفهاء بما يكرهونه قالُوا سَلاماً يعني سدادا من القول يسلمون فيه لا يسفهون و إن سفه عليهم حلموا و لم يجهلوا و ليس المراد منه السلام المعروف و قيل هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال و يروى عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً قال هذا وصف ليلهم، و المعنى يبيتون لربهم في الليل بالصلاة سجدا على وجوههم و قياما على أقدامهم. قال ابن عباس، من صلّى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات للّه ساجدا و قائما (م) عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل و من صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» قوله عز و جل:
[سورة الفرقان (25): الآيات 65 الى 77]
وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي ملحا دائما لازما غير مفارق من عذب من الكفار. قال محمد بن كعب القرظي: سأل اللّه الكفار ثمن نعمته فلم يؤدوه فأغرمهم فبقوا في النار، و قال كل غريم مفارق غريمه إلا جهنم: و قيل: الغرام الشر اللازم و الهلاك الدائم إِنَّها يعني جهنم ساءَتْ بئست مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً أي موضع قرار و إقامة وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا قيل الإسراف النفقة في معصية اللّه، و إن قلت و الإقتار منع حقوق اللّه تعالى و هو قول ابن عباس. و قيل: الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق، حتى يدخل في حد التبذير و الإقتار التقصير عما لا بد منه و هو أن لا يجيع عياله و لا يعريهم و لا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي قصدا وسطا بين الإسراف و الإقتار و حسنة بين السيئتين قيل: هذه الآية في صفة أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم و اللذة لا يلبسون ثوبا للجمال، و لكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع و يقويهم على عبادة ربهم و من الثياب ما يسترون به العورة، و يقيهم من الحر و البرد. قال عمر بن الخطاب كفى سرفا أن لا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ (ق) عن ابن عباس «أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا و زنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: إن الذي تقول و تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ و نزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (ق) عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رجل «يا رسول اللّه أي الذنب أكبر عند اللّه قال:
تدعو للّه ندا و هو خلقك، قال: ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي قال أن تزاني حليلة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 319
جارك، فأنزل اللّه تعالى تصديقه، و الذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق و لا يزنون» وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي و من يفعل شيئا من ذلك يلق أثاما قال ابن عباس إنما يريد جزاء الإثم، و قيل عقوبة و قيل: الأثام واد في جهنم و يروى في الحديث «أن الغي و الأثام بئران في جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار» يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ و سبب تضعيف العذاب، أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك يضاعف له العذاب على شركه و معصيته وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا.
قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ أي عن ذنبه وَ آمَنَ يعني بربه وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً أي فيما بينه و بين ربه روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه عنهما قال: قرأناها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سنين و الذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر الآية ثم نزلت إلا من تاب فما رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فرح بشيء قط مثل ما فرح بها و فرحه بإنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك و ما تأخر». و قوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن عباس: يبدلهم اللّه بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانا، و بقتل المؤمنين قتل المشركين، و بالزنا عفة و إحصانا و قيل يبدل اللّه سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة (م) عن أبي ذر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، و آخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه و ارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها فيقال له: عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا و عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر، و هو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ضحك حتى بدت نواجذه و قيل إن اللّه تعالى يمحو بالندم جميع السيئات ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة.
[سورة الفرقان (25): الآيات 71 الى 77]
وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً قيل هذا في التوبة من غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل و الزنا و معناه، و من تاب من الشرك و عمل صالحا يعني أدّى الفرائض ممن لم يقتل و لم يزن فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي يعود إليه بعد الموت مَتاباً أي حسنا يفضل على غيره ممن قتل و زنا فالآية الأولى و هي قوله: و من تاب رجوع عن الشرك و الثانية رجوع إلى اللّه للجزاء و المكافأة. و قيل: هذه الآية أيضا في التوبة عن جميع السيئات و معناه و من أراد التوبة، و عزم عليها فليتب إلى اللّه فقوله يتوب إلى اللّه خبر بمعنى الأمر أي تب إلى اللّه و قيل معناه فليعلم أن توبته و مصيره إلى اللّه تعالى. قوله تعالى وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ يعني الشرك و قيل هي شهادة الزور (ق) عن أبي بكر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول اللّه قال:
الإشراك باللّه و عقوق الوالدين، و كان متكئا فجلس فقال ألا و قول الزور و شهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» و كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، و يسخم وجهه و يطوف به في الأسواق و قيل:
لا يشهدون الزور يعني أعياد المشركين و قيل: الكذب و قيل: النوح و قيل لا يساعد أهل الباطل على باطلهم و قيل الزور اللهو و اللعب و الغناء. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. و أصل الزور
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 320
حقيقة تحسين الشيء و وصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ هو كل ما يجب أن يلغى و يترك مَرُّوا كِراماً يعني إذا سمعوا من الكفار الشتم و الأذى أعرضوا و صفحوا فعلى هذا التفسير، تكون الآية منسوخة بآية القتال. و قيل: اللغو المعاصي كلها، و المعنى إذا مروا بمجالس اللهو و الباطل مروا كراما أي مسرعين معرضين، و هو أن ينزه المرء نفسه و يكرمها عن هذه المجالس السيئة وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً قيل: معناه أنه ليس فيه نفي الخرور إنما هو إثبات له و نفي الصمم و العمى و المعنى إذا ذكروا بها أكبوا على استماعها بأذان واعية و أقبلوا على المذكر بها بعيون مبصرة راعية.
و قيل: معناه لم يخروا أي لم يسقطوا و لم يقعوا عليها صما و عميانا، كأنهم بآذانهم صمم و بأعينهم عمى بل يسمعون ما يذكرون به، فيفهمونه و يرون الحق فيه فيتبعونه.
قوله عز و جل وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يعني أبرارا أتقياء فيقرون أعيننا بذلك قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته، و أولاده مطيعين للّه عز و جل فيطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره، و تقر عينه بذلك و قيل: إن العرب تذكر قرة العين عند السرور و الفرح و سخنة العين عند الغم و الحزن. و يقال: دمع العين عند السرور و الفرح بارد و عند الحزن حار و قيل معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يعني يقتدون في الخير بنا. و قيل: معناه نقتدي بالمتقين و تقتدي بنا المتقون و قال ابن عباس: اجعلنا أئمة هدى و قيل: معناه أنهم سألوا اللّه أن يبلغهم في الطاعات المبلغ الذي يشار إليهم فيه و يقتدي بهم. قال بعضهم: فيه دليل على أن الرياسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها و قيل هذا من المقلوب معناه، و اجعل المتقين لنا إماما و اجعلنا مقتدين مؤتمين بهم أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ أي يثابون الْغُرْفَةَ الدرجة العالية الرفيعة في الجنة و قيل: يريد غرف الدر و الزبرجد و اللؤلؤ و الياقوت في الجنة بِما صَبَرُوا يعني على طاعة اللّه تعالى و أوامره و على أذى المشركين و قيل: بما صبروا عن الشهوات وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً أي ملكا و قيل بقاء دائما وَ سَلاماً أي يسلم بعضهم على بعض أو يرسل الرب عز و جل إليهم السلام و قيل سلاما أي سلامة من الآفات. قوله تعالى خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً أي موضع قرار و إقامة. قوله تعالى قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي ما يصنع ما يفعل بكم فوجودكم و عدمكم سواء، و قيل: