کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 366
و أنزلنا إليك كتابا فيه هذه الأخبار لتتلوها عليه و لو لا ذلك لما علمتها أنت و لم تخبرهم بها.
[سورة القصص (28): الآيات 46 الى 53]
وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ أي بناحية الجبل الذي كلم اللّه موسى عليه إِذْ نادَيْنا أي موسى خذ الكتاب بقوة و قال وهب قال موسى: يا رب أرني محمدا و أمته قال إنك لن تصل إلى ذلك و لكن إن شئت ناديت أمته و أسمعتك صوتهم قال بلى يا رب قال اللّه تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم. و قال ابن عباس قال اللّه تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء و الأرحام أي أرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك. قال اللّه تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي و عفوي سبق عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني و قد أجبتكم قبل أن تدعوني و قد غفرت لكم قبل أن تستغفروني و من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا عبدي و رسولي دخل الجنة و إن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي رحمناك رحمة بإرسالك و الوحي إليك و اطلاعك على الأخبار الغائبة عنك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني أهل مكة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اعلم أن اللّه تعالى لما بين قصة موسى عليه الصلاة و السلام لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم فجمع بين هذه الأحوال الثلاثة العظيمة التي اتفقت لموسى؛ فالمراد بقوله: «إذ قضينا إلى موسى الأمر» هو إنزال التوراة عليه حتى تكامل دينه و استقر شرعه و المراد بقوله «و ما كنت ثاويا في أهل مدين» أول أمر موسى و المراد بقوله إذ نادينا ليلة المناجاة فهذه أعظم أحوال موسى و لما بينها لرسوله و لم يكن في هذه الأحوال حاضرا بين اللّه أنه بعثه و عرفه هذه الأحوال الدالة على نبوته صلّى اللّه عليه و سلّم و معجزته كأنه قال في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور و لا مشاهدة دلالة ظاهرة على نبوتك.
قوله تعالى وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة و نقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني من الكفر و المعاصي فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أي هلّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و معنى الآية لو لا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم و قيل معناه لما بعثناك إليهم رسولا و لكنا بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم قالُوا يعني كفار مكة لَوْ لا أي هلا أُوتِيَ محمد مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى يعني من الآيات كالعصا و اليد البيضاء. و قيل:
أوتي كتابا جملة واحدة كما أوتي موسى التوراة قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قيل إن اليهود أرسلوا إلى قريش أن يسألوا محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم مثل ما أوتي موسى فقال اللّه تعالى: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل يعني اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا يعني التوراة و القرآن يقوي كل واحد
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 367
منهما الآخر و قيل ساحران يعني محمدا و موسى. و قيل إن مشركي مكة بعثوا إلى رؤوس اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود فقالوا ساحران تظاهرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ يعني بالتوراة و القرآن و قيل بمحمد و موسى قُلْ يا محمد فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما يعني من التوراة و القرآن أَتَّبِعْهُ يعني الكتاب الذي تأتون به من عند اللّه و هذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يأتوا بما طلبت فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ يعني أن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه و إنما آثروا أتباعهم ما هم عليه من الهوى وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قوله عز و جل وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال ابن عباس: بينا و قيل أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا، و قيل بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم، و قيل وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و قيل من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه و قيل بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة و آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة و الخصاصة قالوا: يا رسول اللّه إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا فواسوا بها المسلمين. فنزلت هذه الآيات إلى قوله «و مما رزقناهم ينفقون» و قال ابن عباس:
نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران و اثنان و ثلاثون من الحبشة و ثمانية من الشام ثم وصفهم اللّه تعالى فقال وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا و ذلك أن ذكر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أي من قبل القرآن مخلصين للّه التوحيد و مؤمنين بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم إنه نبي حق.
[سورة القصص (28): الآيات 54 الى 61]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ يعني بإيمانهم بالكتاب الأول و الكتاب الآخر بِما صَبَرُوا أي على دينهم و على أذى المشركين (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه و آمن بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و العبد المملوك إذا أدى حق اللّه و حق مواليه و رجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها و علمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها ثم تزوجها فله أجران» وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 368
السَّيِّئَةَ قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا اللّه و قيل يدفعون ما سمعوا من أذى المشركين و شتمهم بالصفح و العفو وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في الطاعة وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي القول القبيح أَعْرَضُوا عَنْهُ و ذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل مكة و يقولون تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم و لا يردون عليهم وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لنا ديننا و لكم دينكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ليس المراد منه سلام التحية و لكن سلام المتاركة و المعنى سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ يعني لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. و قيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل و السفه و هذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ثم نسخ ذلك بالقتال.
قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي هدايته و قيل أحببته لقرابته وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و ذلك أن اللّه تعالى يقذف في القلب نور الهداية فينشرح الصدر للإيمان وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي بمن قدر له الهدى (م) عن أبي هريرة قال «إنك لا تهدي من أحببت، نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حيث راود عمه أبا طالب على الإسلام و ذلك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأبي طالب عند الموت: «يا عم قل لا إله إلا اللّه أشهد لك بها يوم القيامة قال لو لا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك» ثم أنشد:
و لقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
و لكن على ملة الأشياخ عبد المطلب و عبد مناف ثم مات فأنزل اللّه هذه الآية وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يعني نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنه قال للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق و لكن إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرض مكة قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً و ذلك أن العرب كانت في الجاهلية يغير بعضهم على بعض و يقتل بعضهم بعضا و أهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم. و من المعروف أنه كان تأمن فيه الظباء من الذئاب و الحمام من الحدأة يُجْبى إِلَيْهِ يعني يجلب و يجمع إليه و يحمل إلى الحرم من الشام و مصر و العراق و اليمن ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن أكثر أهل مكة لا يعلمون ذلك. قوله عز و جل وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني من أهل قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ي أشرت و طغت و قيل عاشوا في البطر فأكلوا رزق اللّه و عبدوا الأصنام فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: لم يسكنها إلا المسافرون سكونا قليلا و قيل لم يعمروا منها إلا أقلها و أكثرها خراب وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ يعني لم يخلفهم فيها أحد بعد هلاكهم و صار أمرها إلى اللّه تعالى لأنه الباقي بعد فناء الخلق وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني الكافرة أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا ينذرهم و خص الأم ببعثة الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف و هم سكان المدن و قيل حتى يبعث في أم القرى و هي مكة رسولا يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم لأنه خاتم الأنبياء يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي أنه يؤدي إليهم و يبلغهم و قيل يخبرهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ أي مشركون.
قوله عز و جل وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها أي تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء و انقضاء وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لأن منافع الآخرة خالصة عن الشوائب و هي دائما غير منقطعة و منافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر العظيم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي أن الباقي خير من الفاني و قيل من لم يرجح الآخرة على الدنيا فليس بعاقل. و لهذا قال الشافعي: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة اللّه لأن أعقل الناس من أعطي القليل و أخذ الكثير و ما هم إلا المشتغلون بطاعة اللّه تعالى أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً يعني الجنة فَهُوَ لاقِيهِ أي مصيبه و صائر إليه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي و تزول عنه عن قريب ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي في النار، قيل هذا في المؤمن و الكافر و قيل نزلت في
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 369
النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أبي جهل، و قيل في علي و حمزة و أبي جهل و قيل في عمار بن ياسر و الوليد بن المغيرة. قوله عز و جل:
[سورة القصص (28): الآيات 62 الى 75]
وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي في الدنيا أنهم من شركائي قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب عليهم العذاب و هم رؤوس الضلالة رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي دعوناهم إلى الغي و هم الأتباع أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أضللناهم كما ضللنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ معناه تبرأ بعضهم من بعض و صاروا أعداء وَ قِيلَ يعني للكفار ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام لتخلصكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي لم يجيبوهم وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ معناه لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي يسأل الكفار فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ أي خفيت و اشتبهت عليهم الْأَنْباءُ يعني الأخبار و الأعذار و الحجج يَوْمَئِذٍ فلم يكن لهم عذر و لا حجة فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يجيبون و لا يحتجون و قيل يسكتون فلا يسأل بعضهم بعضا فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي من السعداء الناجين و عسى من اللّه واجب.
قوله تعالى وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا «لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر اللّه تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق و له أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على اللّه. و قيل معناه و يختار اللّه ما كان هو الأصلح و الخير لهم فيه، ثم نزه اللّه تعالى نفسه فقال سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُ أي تخفي صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ أي يظهرون وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ أي يحمده أولياؤه في الدنيا و يحمدونه في الآخرة في الجنة وَ لَهُ الْحُكْمُ أي فصل القضاء بين الخلق و قال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة و لأهل المعصية
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 370
بالشقاوة وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قوله عز و جل قُلْ أي قل يا محمد لأهل مكة أَ رَأَيْتُمْ يعني أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا نهار فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أي بنهار تطلبون فيه المعيشة أَ فَلا تَسْمَعُونَ أي سماع فهم و قبول قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا ليل فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة اللّه تعالى على الخلق أن جعل الليل و النهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا و في حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه و لا يتم له ذلك لو لا ضوء النهار و لأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات و معلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة و السكون بالليل فلا بد منهما فأما في الجنة فلا تعب و لا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل و لذلك يدوم لهم الضياء أبدا فبين اللّه تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي يتعاقبان بالظلمة و الضياء لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بالنهار وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعم اللّه فيهما وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع و التوبيخ وَ نَزَعْنا يعني أخرجنا و قيل ميزنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم و نصح لهم فَقُلْنا يعني للأمم المكذبة لرسلهم هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم بأن معي شريكا فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي التوحيد للّه وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقون في الدنيا من الكذب على اللّه. قوله عز و جل:
[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 79]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قيل كان ابن عم موسى لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب و موسى بن عمران بن قاهث. و قيل كان عم موسى و لم يكن في بني إسرائيل أقرأ منه للتوراة و لكنه نافق كما نافق السامري فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فظلمهم و بغى عليهم و قيل بغى عليهم بكثرة ماله و قيل زاد في طول ثيابه شبرا (ق) عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جر ثيابه خيلاء». أخرجاه في الصحيحين و قيل بغى عليهم بالكبر و العلو وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح و هو الذي يفتح به الباب و قيل مفاتحه يعني خزائنه لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ معناه لثقلهم و تميل بهم إذا حملوها لتثقلها. قيل العصبة ما بين العشرة إلى الخمسة عشر و قال ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة و قيل إلى الأربعين. و قيل إلى السبعين قال ابن عباس: كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال و قيل كان قارون أينما ذهب تحمل معه مفاتيح كنوزه و كانت من حديد فلما كثرت و ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر كل مفتاح على قدر الأصبع و كانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ يعني لا تبطر و لا تأشر و لا تمرح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون اللّه على ما أعطاهم قيل إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها و اطمأن إليها فأما من يعلم أنه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح و لقد أحسن من قال:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 371
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني اطلب فيما أعطاك اللّه من الأموال الجنة و هو أن تقوم بشكر اللّه فيما أنعم عليك و تنفقه في رضا اللّه وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل فيها للآخرة بالصدقة و صلة الرحم و قيل لا تنس صحتك و قوتك و شبابك و غناك أن تطلب بها الآخرة. عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لرجل و هو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك و صحتك قبل سقمك و غناك قبل فقرك و فراغك قبل شغلك و حياتك قبل موتك» هذا حديث مرسل و عمرو بن ميمون لم يلق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي أحسن بطاعة اللّه كما أحسن إليك بنعمته و قيل أحسن إلى الناس وَ لا تَبْغِ أي و لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ و كل من عصى اللّه فقد طلب الفساد في الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ يعني قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي على فضل و خير علمه اللّه عندي فرآني أهلا لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. و قيل هو علم الكيمياء و كان موسى يعلمه فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم و علم كالب بن يوقنا ثلثه و علم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يصنع من الرصاص فضة و من النحاس ذهبا و كان ذلك سبب كثرة أمواله و قيل كان علمه حسن التصرف في التجارات و الزراعات و أنواع المكاسب قال اللّه عز و جل أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً أي للأموال وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ قيل معناه أن اللّه تعالى إذا أراد عقاب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم لأنه عالم بحالهم و قيل لا يسألون سؤال استعلام و إنما يسألون سؤال توبيخ و تقريع و قيل لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قوله عز و جل فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قيل: خرج هو و قومه و هم سبعون ألفا عليهم الثياب الحمر و الصفر و المعصفرات و قيل خرج على براذين بيض عليها سرج الأرجوان.
و قيل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب و عليه الأرجوان و معه أربعة آلاف فارس و عليهم و على دوابهم الأرجوان و معه ثلاثمائة جارية بيضاء عليهم الحلي و الثياب الحمر و هن على البغال الشهب قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من المال.
[سورة القصص (28): الآيات 80 الى 82]
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بما وعد اللّه في الآخرة و قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ أي ما عند اللّه من الثواب و الخير خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ أي صدق بتوحيد اللّه وَ عَمِلَ صالِحاً أي ذلك خير مما أوتي قارون في الدنيا وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ أي لا يؤتى الأعمال الصالحة إلا الصابرون و قيل لا يؤتى هذه الكلمة و هي قوله وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ أي على طاعة اللّه و عن زينة الدنيا. قوله تعالى فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ .
ذكر قصة قارون:
قال أهل العلم بالأخبار و السير: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى و هارون و أقرأهم للتوراة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 372
و أجملهم و أغناهم. و كان حسن الصوت فبغى و طغى و كان أول طغيانه و عصيانه أن اللّه تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء و يعلمون أني منزل منها كلامي. فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تستصغر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى فقال إن اللّه يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى و استكبر قارون فلم يطعه و قال: إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم فكان هذا بدء عصيانه و بغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون، و هي رئاسة المذبح فكان بنو إسرائيل يأتون بقربانهم إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله فوجد قارون من ذلك في نفسه فأتى إلى موسى فقال له يا موسى لك الرسالة و لهارون الحبورة و لست في شيء من ذلك، و أنا أقرأ التوراة لا صبر لي على هذا فقال أما أنا ما جعلتها لهارون بل اللّه جعلها له فقال له قارون: و اللّه لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فحزمها و ألقاها في قبته التي يتعبد فيها و جعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر و كانت من شجر اللوز فقال موسى يا قارون ترى هذا فقال له قارون و اللّه ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر و اعتزل قارون موسى بأتباعه و جعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما و هو يؤذيه كل وقت و لا يزيد إلا عتوا و تجبرا و معاداة لموسى حتى بنى دارا و جعل لها بابا من الذهب. و ضرب على جدرانها صفائح الذهب و كان الملأ من بني إسرائيل يغدون و يروحون فيطعمهم الطعام و يحدثونه و يضاحكونه.
قال ابن عباس: فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه على كل ألف دينار عنها دينار و على كل ألف درهم عنها درهم و كل ألف شاة عنها شاة و كذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده شيئا كثيرا فلم تسمح نفسه بذلك فجمع بني إسرائيل و قال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه و هو يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت قال آمركم أن تجيئوا فلانة البغي و تجعلوا عليكم لها جعلا على أن تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل فرفضوه فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار و ألف درهم. و قيل طستا من ذهب و قيل قال لها قارون أنزلك و أخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم و تنهاهم فخرج إليهم موسى و هم في مرج من الأرض فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده و من افترى جلدناه ثمانين و من زنى و ليست له امرأة جلدناه مائة جلدة و من زنى و له امرأة رجمناه إلى أن يموت فقال قارون و إن كنت أنت؟ قال: و إن كنت أنا قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي قال: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: بالذي فلق البحر لبني إسرائيل و أنزل التوراة إلا صدقت فتداركها اللّه بالتوفيق فقالت في نفسها أحدث توبة أفضل من أن أوذي رسول اللّه فقالت لا و اللّه و لكن قارون جعل لي جعلا على أن أقذفك بنفسي فخرّ موسى ساجدا يبكي. و يقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى اللّه إليه أني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى: يا بني إسرائيل إن اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه و من كان معي فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى يا أرض خذيهم فأخذتهم بأقدامهم. و قيل كان على سريره و فرشه فأخذته الأرض حتى غيبت سريره ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق و أصحابه في ذلك يتضرعون إلى موسى و يناشده قارون اللّه و الرحم، حتى قيل إنه ناشده أربعين مرة.