کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 389
و قال: جمعتا الصلوات الخمس و مواقيتها. و اعلم أنه إنما خص هذه الأوقات بالتسبيح لأن أفضل الأعمال أدومها و الإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول و مشروب و غير ذلك فخفف اللّه عنه العبادة في غالب الأوقات و أمره بها في أول النهار و في أول الليل و آخره فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين و كذلك باقي الركعات و هي سبع عشرة ركعة مع ركعتي الفجر فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح اللّه سبع عشرة ساعة من الليل و النهار بقي عليه سبع ساعات في جميع الليل و النهار و هي مقدار النوم و النائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته في التسبيح و العبادة.
فصل في فضل التسبيح
عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من قال سبحان اللّه و بحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر». و عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من قال حين يصبح و حين يمسي سبحان اللّه و بحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه». أخرجهما الترمذي و قال فيهما حسن صحيح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان اللّه و بحمده سبحان اللّه العظيم». و هذا الحديث أخرجه في صحيح البخاري (م) عن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم رضي اللّه عنها: «أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم خرج ذات غداة من عندها و هي في مسجدها فرجع بعد ما تعالى النهار فقال ما زلت في مجلسك هذا مذ خرجت بعد؟ قالت نعم فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرار لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان اللّه و بحمده عدد خلقه و رضاء نفسه وزنة عرشه و مداد كلماته» (م) عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال «أ يعجز أحدكم أن يكتسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه قال كيف يكتسب ألف حسنة؟ قال: يسبح اللّه مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة و يحط عنه ألف خطيئة». و في رواية غير مسلم «يحط عنه أربعين ألفا» قوله تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 19 الى 27]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أي يخرج النطفة من الحيوان و يخرج الحيوان من النطفة. و قيل: يخرج الدجاجة من البيضة و البيضة من الدجاجة. و قيل يخرج المؤمن من الكافر و يخرج الكافر من المؤمن وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بالمطر و إخراج النبات منها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من القبور للبعث و الحساب وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلكم و هو
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 390
آدم من تراب ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي تنبسطون في الأرض وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي جنسكم من بني آدم و قيل خلق حواء من ضلع آدم لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا للأزواج و تألفوهن وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً أي جعل بين الزوجين المودة و الرحمة فهما يتوادان و يتراحمان من غير سابقة معرفة و لا قرابة و لا سبب يوجب التعاطف و ما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في عظمة اللّه و قدرته وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي اختلاف اللغات العربية و العجمية و غيرهما و قيل أراد أجناس النطق و أشكاله خالف بينهما حتى لا تكاد تسمع منطقين حتى لو تكلم جماعة من وراء حائط يعرف كل منهم بنطقه و نغمته لا يشبه صوت أحد صوت الآخر وَ أَلْوانِكُمْ أي أسود و أبيض و أشقر و أسمر و غير ذلك من اختلاف الألوان و أنتم بنو رجل واحد و من أصل واحد و هو آدم عليه السلام. و الحكمة في اختلاف الأشكال و الأصوات للتعارف أي ليعرف كل واحد بشكله و حليته و صوته و صورته فلو اتفقت الأصوات و الصور و تشاكلت و كانت ضربا واحدا لوقع التجاهل و الالتباس و لتعطلت مصالح كثيرة و ليعرف صاحب الخلق من غيره و العدو من الصديق و القريب من البعيد فسبحان من خلق الخلق على ما أراد و كيف أراد. و في ذلك دليل على سعة القدرة و كمال العظمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي لعموم العلم فيهم وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي منامكم الليل للراحة و ابتغاؤكم من فضله و هو طلب أسباب المعيشة بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي سماع تدبر و اعتبار وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً أي للمسافر ليستعد للمطر وَ طَمَعاً أي للمقيم ليستعد المحتاج إليه من أجل الزرع و تسوية طرق المصانع وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي قدرة اللّه و أنه القادر عليه وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قال ابن عباس و ابن مسعود قامتا على غير عمد و قيل يدوم قيامهما بأمره ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ قال ابن عباس من القبور إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي منها و قيل معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون قال ابن عباس كل له مطيعون في الحياة و البقاء و الموت و البعث و إن عصوا في العبادة وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت للبعث وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي هو هين عليه و ما من شيء عليه بعزيز و قيل معناه و هو أيسر عليه فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء و قيل: هو أهون على الخلق و ذلك لأنهم يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا و نساء. و هو رواية عن ابن عباس وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا قال ابن عباس: ليس كمثله شيء و قيل هو الذي لا إله إلا هو فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ أي في ملكه الْحَكِيمُ في خلقه. قوله عز و جل:
[سورة الروم (30): الآيات 28 الى 33]
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 391
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا أي بين لكم شبها بحالكم ذلك المثل مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بين المثل فقال تعالى هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي عبيدكم و إمائكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي من المال فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ يعني هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم و يقاسموكم كما يخاف الحر من شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمره دون شريكه و يخاف الرجل شريكه في الميراث و هو يحب أن ينفرد به. و قال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا فإذا لم تخافوا هذا من مماليككم و لا ترضوه لأنفسكم فكيف ترضون أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي و هم عبيدي كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي الدلالات و البراهين و الأمثال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ينظرون في هذه الدلائل و الأمثال بعقولهم بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني أشركوا باللّه أَهْواءَهُمْ أي في الشرك بِغَيْرِ عِلْمٍ جهلا بما يجب عليهم فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي عن طريق الهدى وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي مانعين يمنعونهم عن عذاب اللّه. قوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ يعني أخلص دينك للّه و قيل سدد عملك و الوجه ما يتوجه إلى اللّه تعالى به الإنسان و دينه و عمله مما يتوجه إليه ليسدده قوله تعالى حَنِيفاً أي مائلا إليه مستقيما عليه فِطْرَتَ اللَّهِ أي دين اللّه و المعنى الزموا فطرة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال ابن عباس خلق الناس عليها و المراد بالفطرة الدين و هو الإسلام (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم قال اقرءوا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ». زاد البخاري «فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا فطرة اللّه الآية و لهما في رواية «قالوا: يا رسول اللّه أ فرأيت من يموت صغيرا قال اللّه أعلم بما كانوا عاملين». قوله: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة» يعني على العهد الذي أخذ اللّه عليهم بقوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فكل مولود في العالم على ذلك الإقرار و هي الحنيفية التي وضعت الخلقة عليها و إن عبد غير اللّه قال اللّه تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ و لكن لا اعتبار بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا و إنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة و الفعل ألا ترى إلى قوله: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» فهو مع وجود الإيمان الفطري فإنه محكوم له بحكم أبويه الكافرين و هذا معنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث آخر «يقول اللّه عز و جل: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» و حكي عن عبد اللّه بن المبارك أنه قال: معنى الحديث أن كل مولود يولد على فطرته أي خلقته التي خلقه اللّه عليها في علم اللّه تعالى من السعادة و الشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه و عامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه على اعتقاد دينهما. و قيل معناه أن كل مولود في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة و الطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرت على لزومها لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول السليمة و إنما يعدل عنه من عدل إلى غيره لأنه من آفات التقليد و نحوه فمن سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ثم تمثل لأولاد اليهود و النصارى و اتباعهم لآبائهم و الميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة و الحجة المستقيمة بقوله «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء». أي كما تلد البهيمة بهيمة مستوية لم يذهب من بدنها شيء و قوله «هل تحسون فيها من جدعاء يعني هل تشعرون أو تعلمون فيها من جدعاء و هي المقطوعة الأذن و الأنف. قوله عز و جل لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تبدلوا دين اللّه و قيل معنى الآية الزموا فطرة اللّه و لا تبدلوا التوحيد بالشرك. و قيل معنى لا تبديل لخلق اللّه هو جبل عليه الإنسان من السعادة و الشقاوة فلا يصير السعيد شقيا و لا الشقي سعيدا. و قيل الآية في تحريم إخصاء البهائم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 392
المستقيم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قوله عز و جل مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي فأقم وجهك أنت و أمتك منيبين إليه لأن خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يدخل فيه الأمة و المعنى راجعين إلى اللّه تعالى بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة وَ اتَّقُوهُ أي و مع ذلك خافوه وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي داوموا على أدائها في أوقاتها وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً أي صاروا فرقا مختلفة و هم اليهود و النصارى و قيل هم أهل البدع من هذه الأمة كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي راضون بما عندهم. قوله تعالى وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي قحط و شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي مقبلين إليه بالدعاء ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خصبا و نعمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
[سورة الروم (30): الآيات 34 الى 42]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي ليجحدوا نعمة اللّه عليهم فَتَمَتَّعُوا فيه تهديد و وعيد خاطب به الكفار فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي حالكم هذه في الآخرة أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً قال ابن عباس حجة و عذرا و قيل كتابا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أي ينطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بشركهم و يأمرهم به وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي الخصب و كثرة المطر فَرِحُوا بِها أي فرحوا و بطروا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب و قلة مطر و قيل خوف و بلاء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من السيئات إذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي ييأسون من رحمة اللّه و هذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر ربه عند النعمة و يرجوه عند الشدة أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ تقدم تفسيره. قوله عز و جل فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من البر و الصلة وَ الْمِسْكِينَ أي حقه و هو التصدق عليه وَ ابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر و قيل الضيف ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يطلبون ثواب اللّه بما كانوا يعملون وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قوله عز و جل وَ ما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي في اجتلاب أموال الناس و اجتذابها قيل في معنى الآية هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهو جائز حلال و لكن لا يثاب عليها في القيامة و هذا قوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ و كان هذا حراما على النبي خاصة لقوله تعالى وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط و تطلب أكثر مما أعطيت و قيل هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله لا يريد به وجه اللّه. و قيل: هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه و يسافر معه فيجعل ربح ماله لالتماس عونه لا لوجه اللّه تعالى فلا يربو عند اللّه لأنه لم يرد بعمله وجه اللّه وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي أعطيتم من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي بتلك الصدقة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات.
قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ أي بسبب الشرك
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 393
و المعاصي ظهر قحط المطر و قلة النبات في البراري و البوادي و المفاوز و القفار و البحر. قيل المدائن و القرى التي هي على المياه الجارية و العرب تسمي المصر بحرا تقول: أجدب البر و انقطعت مادة البحر و قيل البر ظهر الأرض الأمصار و غيرها و البحر هو المعروف و قلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر بخلو أجواف الأصداف من اللؤلؤ و ذلك لأن الصدف إذا جاء المطر ترتفع على وجه الماء و تفتح أفواهها فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب شؤم ذنوبهم و قال ابن عباس الفساد في البر قتل أحد ابني آدم أخاه و في البحر غصب الملك الجائر السفينة. قيل كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة و كان البحر عذبا و كان لا يقصد البقر الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض و شاكت الأشجار و صار ماء البحر ملحا زعافا و قصد الحيوان بعضها بعضا. و قيل: إن الأرض امتلأت ظلما و ضلالة قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلما بعث رجع راجعون من الناس و قيل أراد بالناس كفار مكة لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا يعني عقوبة الذي عملوا من الذنوب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن الكفر و أعمالهم الخبيثة قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي لتروا منازلهم و مساكنهم خاوية كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يعني فأهلكوا بكفرهم قوله عز و جل:
[سورة الروم (30): الآيات 43 الى 54]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ يعني لدين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الخلق يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يعني يتفرقون ثم ذكر الفريقين فقال تعالى مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ يعني وبال كفره وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يوطئون المضاجع و يسوونها في القبور لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس: ليثيبهم اللّه ثوابا أكثر من أعمالهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فيه تهديد و وعيد لهم. قوله تعالى وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أي تبشر بالمطر وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي بالمطر و هو الخصب وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي بهذه الرياح بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ معناه لتطلبوا رزقه بالتجارة في البحر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي هذه النعم. قوله تعالى وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات الواضحات على صدقهم فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 394
أنا عذبنا الذين كذبوهم وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ أي مع إنجائهم من العذاب ففيه تبشير للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالظفر في العاقبة و النصر على الأعداء عن أبي الدرداء قال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا من كان حقا على اللّه أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة؛ ثم تلا هذه الآية: و كان حقا علينا نصر المؤمنين».
أخرجه الترمذي و لفظه: «من رد عن عرض أخيه رد اللّه عن وجهه النار يوم القيامة». و قال حديث حسن. قوله عز و جل اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً يعني تنشره فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ يعني مسيرة يوم أو يومين أو أكثر على ما يشاء وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا متفرقة فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من وسطه فَإِذا أَصابَ بِهِ يعني بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني يفرحون بالمطر وَ إِنْ كانُوا أي و قد كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ يعني آيسين فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعني المطر و المعنى انظر حسن تأثيره في الأرض و هو قوله تعالى كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني إن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي الزرع بعد الخضرة لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد اصفرار الزرع يَكْفُرُونَ أي يجحدون ما سلف من النعمة و المعنى أنهم يفرحون عند الخصب و لو أرسلت عذابا على زرعهم لجحدوا سالف نعمتي فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ تقدم تفسيره. قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي بدأكم و أنشأكم على ضعف و قيل من ماء ذي ضعف و قيل هو إشارة إلى أحوال الإنسان كان جنينا ثم طفلا مولودا و مفطوما فهذه أحوال الضعف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً يعني من بعد ضعف الصغر شبابا و هو وقت القوة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً يعني هرما وَ شَيْبَةً و هو تمام النقصان يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي من الضعف و القوة و الشباب و الشيبة و ليس ذلك من أفعال الطبيعة بل بمشيئة اللّه و قدرته وَ هُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على ما يشاء.
قوله تعالى:
[سورة الروم (30): الآيات 55 الى 60]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف المشركون ما لَبِثُوا أي في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ معناه أنهم استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة و قيل معناه ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يعني يصرفون عن الحق في الدنيا و ذلك أنهم كذبوا في قولهم ما لبثوا غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا يبعثوا.
و المعنى أن اللّه أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه و كان ذلك بقضاء اللّه و قدره ثم ذكر إنكار المؤمن عليهم كذبتهم فقال تعالى وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أي فيما كتب اللّه لكم في سابق علمه من اللبث في القبور و قيل معنى الآية و قال الذين أوتوا العلم في كتاب اللّه و الإيمان يعني الذين يقيمون كتاب اللّه قالوا للمنكرين قد لبثتم إلى يوم البعث أي في قبوركم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ أي الذي كنتم تنكرونه في الدنيا وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن بدليل قوله تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا تطلب منهم العتبى
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 395