کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 28
و كان كثير الذكر و قال ابن عباس من المصلحين و قيل من العابدين. قال الحسن ما كانت له صلاة في بطن الحوت و لكنه قدم عملا صالحا فشكر اللّه تعالى له طاعته القديمة قال بعضهم اذكروا اللّه في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس كان عبدا صالحا ذاكرا للّه تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر اللّه تعالى له ذلك فقال فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ .
[سورة الصافات (37): الآيات 144 الى 147]
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ و قيل لو لا أنه كان يسبح في بطن الحوت بقوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.
قوله عز و جل: فَنَبَذْناهُ أي طرحناه إنما أضاف النبذ إلى نفسه و إن كان الحوت هو النابذ لأن أفعال العباد كلها مخلوقة للّه تعالى: بِالْعَراءِ أي بالأرض الخالية عن الشجر و النبات. و قيل بالساحل وَ هُوَ سَقِيمٌ أي عليل كالفرخ الممعط و قيل كان قد بلي لحمه و رق عظمه و لم تبق له قوة قيل إنه لبث في بطن الحوت ثلاثة أيام و قيل سبعة و قيل عشرين يوما و قيل أربعين و قيل التقمه ضحى و لفظه عشية وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يعني القرع قيل إن كل نبت يمتد و ينبسط على وجه الأرض كالقرع و القثاء و البطيخ و نحوه فهو يقطين، قيل أنبتها اللّه تعالى له و لم تكن قبل ذلك و كانت معروشة ليحصل له الظل و في شجر القرع فائدة و هي أن الذباب لا يجتمع عندها فكان يونس يستظل بتلك الشجرة و لو كانت منبسطة على الأرض لم يكن أن يستظل بها قيل و كانت و علة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة و عشية حتى اشتد لحمه و نبت شعره و قوي فنام نومة ثم استيقظ و قد يبست الشجرة و أصابه حر الشمس فحزن حزنا شديدا و جعل يبكي فأرسل اللّه تعالى إليه جبريل و قال أ تحزن على شجرة و لا تحزن على مائة ألف من أمتك قد أسلموا و تابوا وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ قيل أرسله إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه و المعنى و كنا أرسلناه إلى مائة ألف فلما خرج من بطن الحوت أمر أن يرجع إليهم ثانيا و قيل كان إرساله إليهم بعد خروجه من بطن الحوت و قيل يجوز أن يكون إرساله إلى قوم آخرين غير القوم الأولين أَوْ يَزِيدُونَ قال ابن عباس معناه و يزيدون و قيل معناه بل يزيدون و قيل أو على أصلها و المعنى أو يزيدون في تقدير الرائي إذا رآهم قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على ذلك فالشك على تقدير المخلوقين و الأصح هو قول ابن عباس الأول.
و أما الزيادة فقال ابن عباس كانوا عشرين ألفا، و يعضده ما روي عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن قوله تعالى وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال يزيدون عشرين ألفا» أخرجه الترمذي و قال حديث حسن و قيل يزيدون بضعا و ثلاثين ألفا و قيل سبعين ألفا.
[سورة الصافات (37): الآيات 148 الى 160]
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 29
فَآمَنُوا يعني الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي إلى انقضاء آجالهم.
قوله عز و جل: فَاسْتَفْتِهِمْ أي فسل يا محمد أهل مكة و هو سؤال توبيخ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ و ذلك أن جهينة و بني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات اللّه.
و المعنى جعلوا للّه البنات و لهم البنين و ذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات و الشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف ينسب للخالق أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون خلقنا إياهم أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي من كذبهم لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أي في زعمهم وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما زعموا أَصْطَفَى الْبَناتِ أي في زعمكم عَلَى الْبَنِينَ و هو استفهام توبيخ و تقريع ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي بالبنات للّه و لكم بالبنين أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أي أفلا تتعظون أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي برهان بين على أن للّه ولدا فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ يعني الذي لكم فيه حجة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قيل أراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار.
قال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن و منهم إبليس قالوا هم بنات اللّه فقال لهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فمن أمهاتهم قالوا سروات الجن.
و قيل معنى النسب أنهم أشركوا في عبادة اللّه تعالى.
و قيل هو قول الزنادقة الخير من اللّه و الشر من الشيطان وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ يعني قائلي هذا القول لَمُحْضَرُونَ أي في النار سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ نزه اللّه تعالى نفسه عما يقولون إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ هذا استثناء من المحضرين و المعنى أنهم لا يحضرون.
[سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 171]
وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
فَإِنَّكُمْ يعني يا أهل مكة وَ ما تَعْبُدُونَ أي من الأصنام ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على ما تعبدون بِفاتِنِينَ أي بمضلين أحدا إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إلا من سبق له في علم اللّه تعالى الشقاوة و أنه سيدخل النار.
قوله تعالى إخبارا عن حال الملائكة وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يعني أن جبريل قال للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و ما منا معشر الملائكة ملك إلا له مقام معلوم يعبد ربه فيه. و قال ابن عباس ما في السموات موضع شبر إلا و عليه ملك يصلي أو يسبح. و روى أبو ذر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال «أطت السماء و حق لها أن تئط و الذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا و ملك واضع جبهته للّه ساجدا» أخرجه الترمذي. و هو طرف من حديث قيل الأطيط أصوات الأقتاب و قيل أصوات الإبل و حنينها، و معنى الحديث ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت و هذا مثل مؤذن بكثرة الملائكة و إن لم يكن ثم أطيط و قيل معنى إلا له مقام معلوم أي في القرب و المشاهدة و قيل يعبد اللّه على مقامات مختلفة كالخوف و الرجاء و المحبة و الرضا وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ يعني الملائكة صفوا أقدامهم في عبادة اللّه تعالى كصفوف الناس في الصلاة في الأرض وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المصلون للّه تعالى و قيل المنزهون للّه تعالى عن كل سوء يخبر جبريل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنهم يعبدون اللّه بالصلاة و التسبيح و أنهم ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار قوله عز و جل: وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ يعني كفار مكة قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني كتابا مثل كتاب الأولين لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لأخلصنا العبادة للّه فَكَفَرُوا بِهِ أي فلما
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 30
أتاهم الكتاب كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه تهديد لهم قوله عز و جل: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ يعني تقدم وعدنا لعبادنا المرسلين بنصرهم.
[سورة الصافات (37): الآيات 172 الى 182]
وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي بالحجة البالغة وَ إِنَّ جُنْدَنا أي حزبنا المؤمنين لَهُمُ الْغالِبُونَ أي لهم النصرة في العاقبة فَتَوَلَ أي أعرض عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس يعني الموت و قيل إلى يوم بدر و قيل حتى آمرك بالقتال و هذه الآية منسوخة بآية القتال و قيل إلى أن يأتيهم العذاب وَ أَبْصِرْهُمْ أي إذا نزل بهم العذاب فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي ذلك فعند ذلك قالوا متى هذا العذاب قال اللّه عز و جل: أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ يعني العذاب بِساحَتِهِمْ أي بحضرتهم و قيل بفنائهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا العذاب (ق) عن أنس رضي اللّه عنه «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم غزا خيبر فلما دخل القرية قال اللّه أكبر خربت خيبر إنا إذا أنزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات» ثم كرر ذكر ما تقدم تأكيدا لوعيد العذاب فقال تعالى: وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ و قيل المراد من الآية الأولى ذكر أحوالهم في الدنيا و هذه ذكر أحوالهم في الآخرة فعلى هذا القول يزول التكرار وَ أَبْصِرْ أي العذاب إذا نزل بهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ثم نزه نفسه فقال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أي الغلبة و القدرة و فيه إشارة إلى كمال القدرة و أنه القادر على جميع الحوادث عَمَّا يَصِفُونَ أي عن اتخاذ الشركاء و الأولاد وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي الذين بلغوا عن اللّه عز و جل التوحيد و الشرائع لأن أعلى مراتب البشر أن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره و هم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام فلا جرم يجب على كل أحد الاقتداء بهم و الاهتداء بهداهم وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على هلاك الأعداء و نصرة الأنبياء و قيل الغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوه و لا يخلوا به و لا يغفلوا عنه لما روي عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه قال «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين» و اللّه أعلم بمراده و أسرار كتابه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 31
سورة ص
و يقال لها سورة داود عليه الصلاة و السلام و هي مكية و هي ست و قيل ثمان و ثمانون آية و سبعمائة و اثنتان و ثلاثون كلمة و ثلاثة آلاف و سبعة و ستون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة ص (38): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: ص قيل هو قسم و قيل اسم للسورة و قيل هو مفتاح اسمه الصمد و صادق الوعد و الصبور و قيل معناه صدق اللّه و عن ابن عباس صدق محمد صلّى اللّه عليه و سلّم وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس أي ذي البيان و قيل ذي الشرف و هو قسم قيل و جوابه قد تقدم و هو قوله تعالى ص أقسم اللّه سبحانه و تعالى بالقرآن إن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم لصادق و قيل جواب القسم محذوف تقديره و القرآن ذي الذكر ما الأمر كما تقول الكفار دل على هذا المحذوف، قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا و قيل بل الذين كفروا موضع القسم و قيل فيه تقديم و تأخير تقديره بل الذين كفروا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ و القرآن ذي الذكر و قيل جوابه «إن كل إلا كذب الرسل» و قيل جوابه «إن هذا لرزقنا» و قيل «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار» و هذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم و هذا الجواب أقاصيص و أخبار كثيرة و قيل بل لتدارك كلام و نفي آخر و مجاز الآية أن اللّه تعالى أقسم بص و القرآن ذي الذكر بل الذين كفروا من أهل مكة في عزة أي حمية و جاهلية و تكبر عن الحق و شقاق أي خلاف و عداوة لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني من الأمم الخالية فَنادَوْا أي استغاثوا عند نزول العذاب و حلول النقمة وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين فرار و تأخر قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض مناص أي اهربوا و خذوا حذركم فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا مناص فأنزل اللّه عز و جل: وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أي ليس الحين حين هذا القول.
[سورة ص (38): الآيات 4 الى 8]
وَ عَجِبُوا يعني كفار مكة أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني رسولا من أنفسهم ينذرهم وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قوله عز و جل: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً و ذلك أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أسلم فشق ذلك على قريش و فرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش و هم الصناديد و الأشراف و كانوا خمسة و عشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة امشوا إلى أبي طالب فأتوا إلى أبي طالب و قالوا له أنت شيخنا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 32
و كبيرنا و قد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء و إنما أتيناك لتقضي بيننا و بين ابن أخيك فأرسل إليه أبو طالب فدعا به فلما أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم إليه قال له يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «و ماذا يسألونني» قالوا ارفض آلهتنا و ندعك و إلهك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «أ تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل للّه أبوك لنعطينكها و عشرة أمثالها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «قولوا لا إله إلا اللّه» فنفروا من ذلك و قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يسمع الخلق إله واحد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي عجب وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب أَنِ امْشُوا أي يقول بعضهم لبعض امشوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا و ذلك أن عمر رضي اللّه عنه لما أسلم و حصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم لشيء يراد بنا و قيل يراد بأهل الأرض و قيل يراد بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم أن يملك علينا ما سَمِعْنا بِهذا أي بالذي يقوله محمد من التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس يعنون النصرانية لأنها آخر الملل و إنهم لا يوحدون اللّه بل يقولون ثالث ثلاثة و قيل يعنون ملة قريش و هي دينهم الذي هم عليه إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي كذب و افتعال أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا أي يقول أهل مكة ليس هو بأكبرنا و لا أشرفنا قال اللّه تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي وحيي و ما أنزلت بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لما قالوا هذا القول.
[سورة ص (38): الآيات 9 الى 12]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا الْعَزِيزِ أي في ملكه الْوَهَّابِ الذي وهب النبوة لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما أي ليس لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ يعني إن ادعوا شيئا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء ليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون. و قيل أراد بالأسباب أبواب السماء و طرقها من سماء إلى سماء و هذا أمر توبيخ و تعجيز جُنْدٌ ما هُنالِكَ أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند ما هنالك مَهْزُومٌ أي مغلوب مِنَ الْأَحْزابِ يعني أن قريشا من جملة الأجناد الذين تجمعوا و تحزبوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا و أهلكوا أخبر اللّه سبحانه و تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر و هناك إشارة إلى مصارعهم ببدر ثم قال عز و جل معزيا لنبيه صلّى اللّه عليه و سلّم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عباس: ذو البناء المحكم. و قيل ذو الملك الشديد الثابت و العرب تقول هو في عز ثابت الأوتاد يريدون بذلك أنه دائم شديد و قال الأسود بن يعفر:
و لقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
و قيل ذو قوة و أصل هذا أن بيوتهم تثبت بالأوتاد، و قيل ذو القوة و البطش. و في رواية عن ابن عباس رضي اللّه عنهما و الجنود و الجموع الكثيرة يعني أنهم يقرون أمره و يشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء و سميت الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها و يوتدونها في أسفارهم و قيل الأوتاد جمع الوتد و كانت له أوتاد يعذب الناس عليها، فكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد يشد كل طرف منه إلى و تد فيتركه حتى يموت. و قيل يرسل عليه العقارب و الحيات. و قيل كانت له أوتاد و أحبال و ملاعب يلعب عليها بين يديه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 33
[سورة ص (38): الآيات 13 الى 17]
وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي الذين تحزبوا على الأنبياء فأعلم اللّه تعالى أن مشركي قريش حزب من أولئك الأحزاب إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي إن أولئك الطوائف و الأمم الخالية لما كذبوا أنبياءهم وجب عليهم العذاب فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل بهم العذاب و في الآية زجر و تخويف للسامعين وَ ما يَنْظُرُ أي ينتظر هؤُلاءِ أي كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي رجوع و المعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد و لم تصرف وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا و نصيبنا من الجنة التي تقول و قيل نصيبنا من العذاب قاله النضر بن الحارث استعجالا منه بالعذاب و قال ابن عباس يعني كتابنا و القط الصحيفة التي حصرت كل شيء قيل لما نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قالوا استهزاء عجل لنا كتابنا في الدنيا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و قيل قطنا أي حسابنا يقال لكتاب الحساب قط و قيل القط كتاب الجوائز، قال اللّه عز و جل لنبيه صلّى اللّه عليه و سلّم اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي على ما يقول الكفار من التكذيب وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ قال ابن عباس ذا القوة في العبادة (ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إن أحب الصيام إلى اللّه تعالى صيام داود كان يصوم يوما و يفطر يوما و أحب الصلاة إلى اللّه صلاة داود كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه» و قيل معناه ذا القوة في الملك إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى اللّه عز و جل بالتوبة عن كل ما يكره و قال ابن عباس مطيع للّه عز و جل و قيل مسبح بلغة الحبشة.
[سورة ص (38): الآيات 18 الى 20]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أي بتسبيحه إذا سبح بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ أي غدوة و عشية و الإشراق هو أن تشرق الشمس و يتناهى ضوءها و فسره ابن عباس بصلاة الضحى و روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في قوله بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ قال كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلّى الضحى فقال «يا أم هانئ إن هذه صلاة الإشراق» قلت و الذي أخرجاه في الصحيحين من حديث أم هانئ في صلاة الضحى، قالت أم هانئ: ذهبت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عام الفتح فوجدته يغتسل و فاطمة بنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحبا يا أم هانئ فلما فرغ من غسله قام و صلّى ثمان ركعات ملتحفا بثوب قالت أم هانئ و ذلك ضحى» و لهما عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال «ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يصلي الضحى غير أم هانئ فإنها قالت إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل و صلّى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع و السجود».
قوله تعالى: وَ الطَّيْرَ أي و سخرنا له الطير مَحْشُورَةً أي مجموعة إليه تسبح معه كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى طاعته مطيع له بالتسبيح معه وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ أي قويناه بالحرس و الجنود، قال ابن عباس كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابا كل ليلة ستة و ثلاثون ألف رجل. و روي عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل ادعى على رجل من عظمائهم، عند داود عليه الصلاة و السلام فقال هذا غصبني بقرة فسأله داود فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى اللّه إلى داود في منامه أن اقتل المدعى عليه فقال هذه رؤيا و لست أعجل عليه حتى أتثبت فأوحي إليه مرة أخرى فلم يفعل فأوحي إليه الثالثة أن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 34
يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل إليه داود فقال إن اللّه عز و جل أوحى إليّ أن أقتلك فقال تقتلني بغير بينة فقال داود نعم و اللّه لأنفذن أمر اللّه فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال لا تعجل حتى أخبرك إني و اللّه ما أخذت بهذا الذنب و لكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أوخذت فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود و اشتد به ملكه فذلك قوله تعالى وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة و الإصابة في الأمور وَ فَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس يعني بيان الكلام و قال ابن مسعود علم الحكم و التبصر بالقضاء و قال علي بن أبي طالب هو أن البينة على المدعي و اليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع و ينفصل به. و قال أبيّ بن كعب فصل الخطاب الشهود و الأيمان و قيل إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد اللّه تعالى و الثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر و أول من قاله داود عليه الصلاة و السلام.
[سورة ص (38): الآيات 21 الى 22]
قوله عز و جل: وَ هَلْ أَتاكَ أي و قد أتاك يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصم فاستمع له نقصصه عليك. و قيل ظاهره الاستفهام و معناه الدلالة على أنه من الأخبار العجيبة و التشويق إلى استماع كلام الخصماء و الخصم يقع على الواحد و الجمع إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي صعدوا و علوا المحراب أي بالبيت الذي كان يدخل فيه داود يشتغل بالطاعة و العبادة و المعنى أنهم أتوا المحراب من سوره و هو أعلاه، و في الآية قصة امتحان داود عليه الصلاة و السلام. و اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك و سأذكر ما قاله المفسرون ثم أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داود عليه الصلاة و السلام عما لا يليق بمنصبه صلّى اللّه عليه و سلّم لأن منصب النبوة أشرف المناصب و أعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها؛ و أما ما قاله المفسرون «1» إن داود عليه الصلاة و السلام تمنى يوما من الأيام منزلة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب و ذلك أنه كان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوم يقضي فيه بين الناس، و يوم يخلو فيه لعبادة ربه عز و جل و يوم لنسائه و أشغاله. و كان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم و إسحاق و يعقوب، فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى اللّه إليه أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلي إبراهيم عليه الصلاة و السلام بنمرود و ذبح ابنه، و ابتلي إسحاق بالذبح و بذهاب بصره و ابتلي يعقوب بالحزن على يوسف. فقال داود عليه الصلاة و السلام رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضا فأوحى اللّه عز و جلّ إنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاحترس. فلما كان اليوم الذي وعده اللّه به دخل داود محرابه و أغلق بابه و جعل يصلي و يقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان و قد تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن و جناحاها من الدر و الزبرجد فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها و يريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة اللّه تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها له، فأبصر امرأة في بستان على شاطئ بركة تغتسل و قيل رآها تغتسل على سطح لها فرآها من أجمل النساء خلقا فعجب داود من حسنها و حانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها فقيل هي شايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا و زوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود فكتب داود إلى ابن أخته أن أبعث أوريا إلى موضع كذا و قدمه قبل التابوت و كان من قدم