کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 89
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال ابن عباس أمره بالصبر عند الغضب و بالحلم عند الجهل و بالعفو عند الإساءة فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي صديق قريب، قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب و ذلك حيث لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه و بين النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة وَ ما يُلَقَّاها أي و ما يلقى هذه الخصلة و الفعلة و هي دفع السيئة بالحسنة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي على تحمل المكاره و تجرع الشدائد و كظم الغيظ و ترك الانتقام و ما يلقاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من الخير و الثواب و قيل الحظ العظيم الجنة يعني ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ شبه النخس و الشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه أي يبعثه إلى ما لا ينبغي و معنى الآية و إن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي من شره إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لاستعاذتك الْعَلِيمُ بأحوالك.
قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أي و من دلائل قدرته و حكمته الدالة على وحدانيته اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ أي إنهما مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ أي المستحق للسجود و التعظيم هو اللّه خالق الليل و النهار و الشمس و القمر إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني أن ناسا كانوا يسجدون للشمس و القمر و الكواكب و يزعمون أن سجودهم لهذه الكواكب هو سجود للّه عز و جل فنهوا عن السجود لهذه الوسائط و أمروا بالسجود للّه الذي خلق هذه الأشياء كلها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي عن السجود للّه فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يفترون و لا يملون.
(فصل) و هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة و في موضع السجود فيها قولان للعلماء و هما و جهان لأصحاب الشافعي أحدهما أنه عند قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ و هو قول ابن مسعود و الحسن و حكاه الرافعي عن أبي حنيفة و أحمد لأن ذكر السجدة قبله و الثاني و هو الأصح عند أصحاب الشافعي و كذلك نقله الرافعي أنه عند قوله تعالى: وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ و هو قول ابن عباس و ابن عمر و سعيد بن المسيب و قتادة و حكاه الزمخشري عن أبي حنيفة لأن عنده يتم الكلام.
[سورة فصلت (41): الآيات 39 الى 43]
وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ أي يميلون عن الحق فِي آياتِنا أي في أدلتنا قيل بالمكاء و التصدية و اللغو و اللغط و قيل يكذبون بآياتنا و يعاندون و يشاقون لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا تهديد و وعيد قيل نزلت في أبي جهل أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ هو أبو جهل خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ المعنى الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار و الذين يؤمنون بآياتنا آمنون يوم القيامة قيل هو حمزة و قيل عثمان و قيل عمار بن ياسر اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر تهديد و وعيد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه عالم بأعمالكم فيجازيكم عليها
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 90
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن و في جواب إن و جهان أحدهما أنه محذوف تقديره إن الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم، و الثاني جوابه أولئك ينادون من مكان بعيد ثم أخذ في وصف الذكر فقال تعالى: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ قال ابن عباس: كريم على اللّه تعالى، و قيل: العزيز العديم النظير و ذلك أن الخلق عجزوا عن معارضته و قيل أعزه اللّه بمعنى منعه فلا يجد الباطل إليه سبيلا و هو قوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ قيل الباطل هو الشيطان فلا يستطيع أن يغيره و قيل إنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيأتيه الباطل من خلفه فعلى هذا يكون معنى الباطل الزيادة و النقصان و قيل لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله و لا يجيء بعده كتاب فيبطله و قيل معناه أن الباطل لا يتطرق إليه و لا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه و قيل: لا يأتيه الباطل عما أخبر فيما تقدم من الزمان و لا فيما تأخر تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ أي في جميع أفعاله حَمِيدٍ أي إلى جميع خلقه بسبب نعمه عليهم ثم عزى اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم على تكذيبهم إياه فقال عز و جل: ما يُقالُ لَكَ أي من الأذى و التكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يعني أنه قد قيل للأنبياء قبلك ساحر كما يقال لك و كذبوا كما كذبت إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي لمن تاب و آمن بك وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي لمن أصر على التكذيب.
[سورة فصلت (41): الآيات 44 الى 47]
قوله عز و جل: وَ لَوْ جَعَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس قُرْآناً أَعْجَمِيًّا يعني بغير لغة العرب لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ يعني هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ يعني أ كتاب أعجمي و رسول عربي و هذا استفهام إنكار و المعنى لو نزل الكتاب بلغة العجم لقالوا كيف يكون المنزل عليه عربيا و المنزل أعجميا، و قيل في معنى الآية: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا كيف أنزلنا الكلام العجمي إلى القوم العرب و لصح قولهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة و في آذاننا وقر لأنا لا نفهمه و لا نحيط بمعناه، و أنا لما أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب و هم يفهمونه فكيف يمكنهم أن يقولوا قلوبنا في أكنة و في آذاننا وقر و قيل إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي و كان يهوديا أعجميا يكنى أبا فكيهة فقال المشركون إنما يعلمه يسار فضربه سيده و قال إنك تعلم محمدا فقال هو و اللّه يعلمني فأنزل اللّه تعالى هذه الآية قُلْ يا محمد هُوَ يعني القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يعني من الضلالة وَ شِفاءٌ يعني لما في القلوب من مرض الشرك و الشك و قيل شفاء من الأوجاع و الأسقام وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يعني صموا عن استماع القرآن و عموا عنه فلا ينتفعون به أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعني كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع و لم يفهم كذلك هؤلاء في قلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ يعني فمصدق به و مكذب كما اختلف قومك في كتابك وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني لفرغ من عذابهم و عجل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 91
إهلاكهم وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ يعني من كتابك و صدقك مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ يعني يعود نفع إيمانه و عمله لنفسه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يعني ضرر إساءته أو كفره يعود على نفسه أيضا وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني فيعذب غير المسيء.
قوله عز و جل: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ يعني إذا سأل عنها سائل قيل له لا يعلم وقت قيام الساعة إلا اللّه تعالى و لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي من أوعيتها، و قال ابن عباس:
هو الكفرى قبل أن ينشق وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي يعلم قدر أيام الحمل و ساعاته و متى يكون الوضع و ذكر الحمل هو أم أنثى و معنى الآية كما يرد إليه علم الساعة فكذلك يرد إليه علم ما يحدث من كل شيء كالثمار و النتاج و غيره.
فإن قلت قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشف قولا فيصيب فيه و كذلك الكهان و المنجمون.
قلت أما أصحاب الكشف إذا قالوا قولا فهو من إلهام اللّه تعالى و اطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه و أما الكهان و المنجمون فلا يمكنهم القطع و الجزم في شيء مما يقولونه البتة، و إنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد لا يصيب و علم اللّه تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي اللّه تعالى المشركين فيقول أَيْنَ شُرَكائِي أي الذين تدعون أنها آلهة قالُوا يعني المشركين آذَنَّاكَ أي أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي يشهد أن لك شريكا و ذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام.
[سورة فصلت (41): الآيات 48 الى 53]
وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي يعبدون في الدنيا وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب.
قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي لا يمل الكافر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ يعني لا يزال يسأل ربه الخير و هو المال و الغنى و الصحة وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة و الفقر فَيَؤُسٌ أي من روح اللّه تعالى قَنُوطٌ أي من رحمته وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا أي آتيناه خيرا و عافية و غنى مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي من بعد شدة و بلاء أصابه لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي أستحقه بعملي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي و لست على يقين من البعث وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي يقول هذا الكافر أي فإن كان الأمر على ذلك و رددت إلى ربي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي الجنة و المعنى كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا قال ابن عباس لنوقفنهم على مساوي أعمالهم وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ أي ذهب بنفسه و تكبر و تعظم وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة و الفقر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير قُلْ أي قل يا محمد لكفار مكة أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي هذا القرآن ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ أي جحدتموه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف للحق بعيد عنه و المعنى فلا أحد أضل منكم سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قال ابن عباس يعني منازل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 92
الأمم الخالية وَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي البلاء و الأمراض و قيل ما نزل بهم يوم بدر و قيل في الآفاق هو ما يفتح من القرى و البلاد على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و المسلمين و في أنفسهم هو فتح مكة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ يعني دين الإسلام، و قيل يتبين القرآن أنه من عند اللّه و قيل يتبين لهم أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم مؤيد من قبل اللّه تعالى و قيل في الآفاق يعني أقطار السموات و الأرض من الشمس و القمر و النجوم و الأشجار و الأنهار و النبات و في أنفسهم يعني من لطيف الحكمة و بديع الصنعة حتى يتبين لهم أنه الحق يعني لا يقدر على هذه الأشياء إلا اللّه تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعني يشهد أن القرآن من عند اللّه تعالى، و قيل أولم يكفهم الدلائل الكثيرة التي أوضحها اللّه لهم على التوحيد و أنه شاهد لا يغيب عنه شيء.
[سورة فصلت (41): آية 54]
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من القيامة أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، أحاط بكل شيء علما و أحصى كل شيء عددا و اللّه أعلم بمراده و أسرار كتابه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 93
سورة حم عسق
و تسمى سورة الشورى و هي مكية، في قول ابن عباس و الجمهور و حكي عن ابن عباس إلا أربع آيات نزلت بالمدينة أولها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً و قيل فيها من المدني ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى قوله تعالى:
بِذاتِ الصُّدُورِ و قوله وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ إلى قوله مِنْ سَبِيلٍ و هي ثلاث و خمسون آية و ثمانمائة و ستون كلمة و ثلاثة آلاف و خمسمائة و ثمانية و ثمانون حرفا و اللّه أعلم.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: حم عسق سئل الحسين بن الفضل لم قطع حروف حم عسق و لم يقطع حروف المص و المر و كهيعص، فقال: لأنها بين سور أوائلها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ و عسق خبره لأن حم عسق عدت آيتين وعدت أخواتها التي لم تقطع آية واحدة. و قيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص و أخواتها أنها حروف التهجي و اختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف و جعلها فعلا فقال معناها حم الأمر أي قضى و بقي عسق على أصله. و قال ابن عباس ح حلمه م مجده ع علمه س سناه ق قدرته أقسم اللّه عز و جل بها. و قيل إن العين من العزيز و السين من قدوس و القاف من قاهر و قيل ح حرب في قريش يعز فيها الذليل و يذل فيها العزيز م ملك يتحول من قوم إلى قوم ع عدو لقريش يقصدهم س سنون كسني يوسف ق قدرة اللّه في خلقه، و قيل هذا في شأن محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فالحاء حوضه المورود و الميم ملكه الممدود و العين عزه الموجود و السين سناؤه المشهود و القاف قيامه في المقام المحمود و قربه من الملك المعبود و قال ابن عباس ليس من نبي صاحب كتاب إلا و قد أوحي إليه حم عسق فلذلك قال اللّه تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ و قيل معناه كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى الذين من قبلك اللَّهُ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه، و المعنى كأنه قيل من يوحي فقال اللّه العزيز الحكيم ثم وصف نفسه وسعة ملكه فقال تعالى:
[سورة الشورى (42): الآيات 4 الى 7]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ أي من فوق الأرضين و قيل تنفطر كل واحدة فوق التي تليها من عظمة اللّه تعالى و قيل من قول المشركين اتخذ اللّه ولدا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 94
وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه عما لا يليق بجلاله و قيل يصلون بأمر ربهم وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي من المؤمنين دون الكفار، لأن الكافر لا يستحق أن تستغفر له الملائكة، و قيل يحتمل أن يكون لجميع من في الأرض أما في حق الكافرين فبواسطة طلب الإيمان لهم و يحتمل أن يكون المراد من الاستغفار لا يعاجلهم بالعقاب و أما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، و قيل استغفارهم لمن في الأرض هو سؤال الرزق لهم فيدخل فيه المؤمن و الكافر أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يعني أنه تعالى يعطي المغفرة التي سألوها و يضم إليها بمنه و كرمه الرحمة العامة الشاملة.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي جعلوا له شركاء و أندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يعني رقيب على أحوالهم و أعمالهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني لم توكل بهم حتى تؤخذ بهم إنما أنت نذير وَ كَذلِكَ أي و مثل ما ذكرنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني مكة و المراد أهلها وَ مَنْ حَوْلَها يعني قرى الأرض كلها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي و تنذرهم بيوم الجمع و هو يوم القيامة يجمع اللّه سبحانه و تعالى فيه الأولين و الآخرين و أهل السموات و أهل الأرضين لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد ذلك يتفرقون و هو قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال «خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم قابضا على كفه و معه كتابان فقال أ تدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول اللّه فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة و أسماء آبائهم و عشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب و قبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم و لا ناقص منهم إجمال من اللّه تعالى عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يساره هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار و أسماء آبائهم و عشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب و قبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم و لا ناقص منهم إجمال من اللّه تعالى عليهم إلى يوم القيامة فقال عبد اللّه بن عمرو ففيم العمل إذا؟ قال اعملوا و سددوا و قاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة و إن عمل أي عمل ثم قال فريق في الجنة و فريق في السعير عدل من اللّه تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.
[سورة الشورى (42): الآيات 8 الى 11]
قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً قال ابن عباس: على دين واحد و قيل على ملة الإسلام وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دين الإسلام وَ الظَّالِمُونَ أي الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ أي يدفع عنهم العذاب وَ لا نَصِيرٍ أي يمنعهم من العذاب أَمِ اتَّخَذُوا يعني الكفار مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ قال ابن عباس هو وليك يا محمد و ولي من تبعك وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أن من يكون بهذه الصفة فهو الحقيق بأن يتخذ وليا و من لا يكون بهذه الصفة فليس بولي وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي من أمر الدين فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي يقضي فيه و يحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب و قيل علمه إلى اللّه و قيل تحاكموا فيه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأن حكمه من حكم اللّه تعالى و لا تؤثروا حكومة غيره على حكومته ذلِكُمُ اللَّهُ يعني الذي يحكم بين المختلفين هو اللّه رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني في جميع أموري وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 95
يعني و إليه أرجع في كل المهمات فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني من جنسكم أَزْواجاً يعني حلائل، و إنما قال من أنفسكم لأن اللّه تعالى خلق حواء من ضلع آدم وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكرانا و إناثا يَذْرَؤُكُمْ يعني يخلقكم و قيل يكثركم فِيهِ يعني في الرحم و قيل في البطن لأنه قد تقدم ذكر الأزواج و قيل نسلا بعد نسل حتى كان بين ذكورهم و إناثهم التوالد و التناسل و قيل الضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطب من الناس و الأنعام إلا أنه غلب جانب الناس و هم العقلاء على غير العقلاء من الأنعام، و قيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به أي يكثركم بالتزويج لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ المثل صلة أي ليس كهو شيء و قيل الكاف صلة مجازه ليس مثله شيء، قال ابن عباس: ليس له نظير.
فإن قلت هذه الآية دالة على نفي المثل و قوله تعالى: وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يقتضي إثبات المثل فما الفرق.
قلت المثل الذي يكون مساويا في بعض الصفات الخارجية على الماهية فقوله ليس كمثله شيء معناه ليس له نظير، كما قاله ابن عباس أو يكون معناه ليس لذاته سبحانه و تعالى مثل و قوله وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى معناه و له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله و لا يشاركه فيه أحد فقد ظهر بهذا التفسير معنى الآيتين و حصل الفرق بينهما وَ هُوَ السَّمِيعُ يعني لسائر المسموعات الْبَصِيرُ يعني المبصرات.
[سورة الشورى (42): الآيات 12 الى 15]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني مفاتيح الرزق في السموات يعني المطر و في الأرض يعني النبات يدل عليه قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ أي أنه يوسع على ن يشاء و يضيق على من يشاء لأن مفاتيح الرزق بيده إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي من البسط و التضييق.
قوله عز و جل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ أي ما بين و سن لكم طريقا واضحا من الدين، أي دينا تطابقت على صحته الأنبياء و هو قوله تعالى: ما وَصَّى بِهِ نُوحاً أي أنه أول الأنبياء أصحاب الشرائع و المعنى قد وصيناه و إياك يا محمد دينا واحدا وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي من القرآن و شرائع الإسلام وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء و أصحاب الشرائع المعظمة و الأتباع الكثيرة و أولو العزم.