کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 101
[سورة الشورى (42): الآيات 29 الى 33]
وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَ أي أوجد فِيهِما أي في السموات و الأرض مِنْ دابَّةٍ .
فإن قلت كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة.
قلت الدبيب في اللغة المشي الخفيف على الأرض، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما يوصف به الإنسان، و قيل: يحتمل أن اللّه تعالى خلق في السموات أنواعا من الحيوانات يدبون دبيب الإنسان وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يعني يوم القيامة.
قوله عز و جل: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الأوجاع و الأسقام و القحط و الغلاء و الغرق و الصواعق و غير ذلك من المصائب فبما كسبت أيديكم من الذنوب و المعاصي وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «و الذي نفسي بيده ما من خدش عود و لا عثرة قدم و لا اختلاج عرق إلا بذنب و ما يعفو اللّه عنه أكثر» و روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سخيلة قال: قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب اللّه حدثنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ و سأفسرها لكم يا علي ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أي من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ و اللّه أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة و ما عفا اللّه عنه في الدنيا فاللّه أحلم من أن يعود بعد عفوه» و قال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن اللّه ليغفر له إلا بها أو درجة لم يكن اللّه ليرفعه لها إلا بها (ق). عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه اللّه بها درجة و حط عنه بها خطيئة» وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين فِي الْأَرْضِ هربا يعني لا تعجزوني حيثما كنتم وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ قوله عز و جل: وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ يعني السفن و هي السيارة فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالقصور و كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ أي التي تجري بها السفن فَيَظْلَلْنَ يعني السفن الجواري رَواكِدَ أي ثوابت عَلى ظَهْرِهِ أي ظهر البحر لا تجري إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ و هذه صفة المؤمن لأنه يصبر في الشدة و يشكر في الرخاء.
[سورة الشورى (42): الآيات 34 الى 39]
وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
أَوْ يُوبِقْهُنَ أي يغرقهن و يهلكهن بِما كَسَبُوا أي بما كسبت ركابها من الذنوب وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي من ذنوبهم فلا يعاقب عليها وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يعني يعلم الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى اللّه تعالى ما لهم من مهرب من عذابه فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي من زينة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ليس هو من زاد المعاد وَ ما عِنْدَ اللَّهِ أي من الثواب خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 102
و المعنى أن المؤمن و الكافر يستويان في متاع الحياة الدنيا فإذا صارا إلى اللّه تعالى كان ما عند اللّه من الثواب خيرا و أبقى للمؤمن وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ يعني كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل و الزنا و السرقة و شبه ذلك وَ الْفَواحِشَ يعني ما عظم قبحه من الأقوال و الأفعال وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يعني يكظمون الغيظ و يجهلون وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ يعني أجابوا إلى ما دعاهم إليه من طاعته وَ أَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يعني يتشاورون فيما يبدو لهم و لا يعجلون و لا ينفردون برأي ما لم يجتمعوا عليه قيل.
ما تشاور قوم إلا هدوا إلى أرشد أمرهم وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ يعني الظلم و العدوان هُمْ يَنْتَصِرُونَ يعني ينتقمون من ظالمهم من غير تعد قال ابن زيد جعل اللّه تعالى المؤمنين صنفين صنف يعفون عمن ظلمهم فبدأ بذكرهم و هو قوله تعالى: وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ و صنف ينتصرون من ظالمهم و هم الذين ذكروا في هذه الآية، و قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فإذا قدروا عفوا.
و قيل: إن العفو إغراء للسفيه و قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة و بغوا عليهم ثم مكنهم اللّه عز و جل في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم ثم بين اللّه تعالى أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال تعالى:
[سورة الشورى (42): الآيات 40 الى 44]
وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها سمي الجزاء سيئة و إن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة و قيل لأن الجزاء يسوء من ينزل به، و قيل هو جزاء القبيح إذا قال أخزاك اللّه فقل له أخزاك اللّه و لا تزد و إذا شتمك فاشتمه بمثلها و لا تعتدوا و قيل هو في القصاص في الجراحات و الدماء يقتص بمثل ما جنى عليه و قيل إن اللّه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بين أنه مشروع ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى: فَمَنْ عَفا أي عمن ظلمه وَ أَصْلَحَ أي بالعفو بينه و بين الظالم فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قال الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على اللّه أجر فليقم فلا يقوم إلا من عفا ثم قرأ هذه الآية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس: الذين يبدؤون بالظلم وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ظلم الظالم إياه فَأُولئِكَ يعني المنتصرين ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي بعقوبة و مؤاخذة إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدؤون بالظالم وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ أي يعملون فيها بالمعاصي أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ لَمَنْ صَبَرَ أي لم ينتصر وَ غَفَرَ تجاوز عن ظالمه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر و التجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني تركه الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة التي أمر اللّه عز و جل بها و قيل إن الصابر يؤتي بصبره الثواب فالرغبة في الثواب أتم عزما وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يعني ماله من أحد يلي هدايته بعد إضلال اللّه إياه أو يمنعه من عذابه وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يعني يوم القيامة يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ يعني أنهم يسألون الرجعة إلى الدنيا.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 103
[سورة الشورى (42): الآيات 45 الى 49]
وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ أي خاضعين متواضعين يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ يعني يسارقون النظر إلى النار خوفا منها و ذلة في أنفسهم، و قيل ينظرون بطرف خفي أي ضعيف من الذل، و قيل ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا و النظر بالقلب خفي وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بأن صاروا إلى النار. وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني و خسروا أهليهم بأن صاروا لغيرهم في الجنة أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي وصول إلى الحق في الدنيا و الجنة في العقبى فقد استدت عليهم طرق الخير اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا داعي اللّه يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يقدر أحد على دفعه و هو يوم القيامة و قيل هو يوم الموت ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي ما لكم من مخلص من العذاب و قيل من الموت وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي ينكر حالكم و قيل النكير الإنكار يعني لا تقدرون أن تنكروا من أعمالكم شيئا فَإِنْ أَعْرَضُوا أي عن الإجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي تحفظ أعمالهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي ليس عليك إلا البلاغ و فيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً قال ابن عباس: يعني الغنى و الصحة فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي قحط بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الأعمال الخبيثة فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي لما تقدم من نعمة اللّه تعالى عليه.
قوله عز و جل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني له التصرف فيهما بما يريد يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لا يقدر أحد أن يعترض عليه في ملكه و إرادته يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً أي فلا يولد له ذكر وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أي فلا يولد له أنثى.
[سورة الشورى (42): الآيات 50 الى 52]
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً أي يجمع بينهما فيولد له الذكور و الإناث وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي فلا يولد له ولد، و قيل هذا في الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. فقوله يهب لمن يشاء إناثا يعني لوطا لم يولد له ذكر إنما ولد له ابنتان و يهب لمن يشاء الذكور يعني إبراهيم عليه الصلاة و السلام لم يولد له أنثى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم ولد له أربع بنين و أربع بنات و يجعل من يشاء عقيما يعني يحيى و عيسى عليهما الصلاة و السلام لم يولد لهما و هذا على وجه التمثيل و إلا فالآية عامة في جميع الناس إِنَّهُ عَلِيمٌ أي بما يخلق قَدِيرٌ أي على ما يريد أن يخلق.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 104
قوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً قيل في سبب نزولها: إن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم ألا تكلم اللّه و تنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى صلّى اللّه عليه و سلّم و نظر إليه فقال لم ينظر موسى إلى اللّه تعالى فأنزل اللّه تعالى:
وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام كما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح ولده و هو وحي و كما ألهمت أم موسى أن تقذفه في البحر أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي يسمعه كلامه من وراء حجاب و لا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة و السلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يعني من الملائكة إما جبريل أو غيره فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ يعني يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن اللّه ما يشاء و هذه الآية محمولة على أنه لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب في الدنيا و يأتي بيان هذه المسألة إن شاء اللّه تعالى في سورة النجم إِنَّهُ عَلِيٌ أي عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ أي في جميع أفعاله.
قوله عز و جل: وَ كَذلِكَ أي و كما أوحينا إلى سائر رسلنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قال ابن عباس: نبوة، و قيل: قرآنا لأن به حياة الأرواح، و قيل: رحمة و قيل جبريل ما كُنْتَ تَدْرِي أي قبل الوحي مَا الْكِتابُ يعني القرآن وَ لَا الْإِيمانُ اختلف العلماء في هذه الآية مع اتفاقهم على أن الأنبياء قبل النبوة كانوا مؤمنين فقيل معناه ما كنت تدري قبل الوحي شرائع الإيمان و معالمه.
و قال محمد بن إسحاق عن ابن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة دليله وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ يعني صلاتكم و لم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار باللّه تعالى لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان قبل النبوة يوحد اللّه تعالى و يحج و يعتمر و يبغض اللات و العزى و لا يأكل ما ذبح على النصب و كان يتعبد على دين إبراهيم عليه الصلاة و السلام و لم تتبين له شرائع دينه إلا بعد الوحي إليه وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً قال ابن عباس يعني الإيمان و قيل القرآن لأنه يهتدي به من الضلالة و هو قوله تعالى: نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي أي لتدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى دين الإسلام.
[سورة الشورى (42): آية 53]
صِراطِ اللَّهِ يعني دين اللّه الذي شرعه لعباده الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ يعني أمور الخلائق في الآخرة فيثيب المحسن و يعاقب المسيء و اللّه سبحانه و تعالى أعلم بمراده و أسرار كتابه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 105
سورة الزخرف
مكية و هي تسع و ثمانون آية و ثلاث و ثلاثون كلمة «1» و ثلاثة آلاف و أربعمائة حرف.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
قوله عز و جل: حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ أقسم بالكتاب و هو القرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة و أبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة و قيل المبين يعني الواضح للمتدبرين و جواب القسم إِنَّا جَعَلْناهُ أي صيرنا هذا الكتاب عربيا و قيل بيناه و قيل سميناه و قيل وصفناه و قيل أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يعني معانيه و أحكامه وَ إِنَّهُ يعني القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ، قال ابن عباس: أول ما خلق اللّه عز و جل القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق في الكتاب عنده ثم قرأ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا أي عندنا فالقرآن مثبت عند اللّه تعالى في اللوح المحفوظ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أخبر عن شرفه و علو منزلته، و المعنى إن كذبتم يا أهل مكة بالقرآن فإنه عندنا لعليّ أي رفيع شريف، و قيل على علي جميع الكتب حكيم أي محكم لا يتطرق إليه الفساد و البطلان.
قوله تعالى: أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً معناه أ فنترك عنكم الوحي و نمسك عن إنزال القرآن فلا نأمر و لا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم و تركتم الإيمان و هو قوله تعالى: أَنْ كُنْتُمْ أي لأن كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ و المعنى لا نفعل ذلك قال قتادة و اللّه لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا و لكن اللّه عز و جل عاد بعائدته و كرامته فكرره عليهم عشرين سنة أو ما شاء اللّه، و قيل: معناه أ فنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين أي معرضين عنكم، و قيل: معناه أ فنطوي الذكر عنكم طيا فلا تدعون و لا توعظون و قيل أ فنترككم فلا نعاقبكم على كفركم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 12]
(1) (قوله و ثلاث و ثلاثون كلمة) كذا بالأصل و لا يخفى ما فيه ا ه مصححه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 106
وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني كاستهزاء قومك بك و فيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي أقوى من قومك قوة وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي صفتهم و المعنى أن كفار قريش سلكوا في الكفر و التكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين من الخزي و العقوبة.
قوله عز و جل: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي و لئن سألت يا محمد قومك مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ يعني أنهم أقروا بأن اللّه تعالى خلقهما و أقروا بعزته و علمه و مع إقرارهم بذلك عبدوا غيره و أنكروا قدرته على البعث لفرط جهلهم ثم ابتدأ تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً معناه واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها و لما كان المهد موضع راحة الصبي فلذلك سمى الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحة للخلق وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني إلى مقاصدكم في أسفاركم وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بقدر حاجاتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح حتى أهلكهم فَأَنْشَرْنا بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من قبوركم أحياء وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف و الأنواع كلها قيل إن كل ما سوى اللّه تعالى فهو زوج و هو الفرد المنزه عن الأضداد و الأنداد و الزوجية وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ يعني في البر و البحر.
[سورة الزخرف (43): الآيات 13 الى 18]
أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي على ظهور الفلك و الأنعام ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعني بتسخير المركب في البر و البحر وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي ذلل لنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين و قيل ضابطين وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي لمنصرفون في المعاد (م) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد اللّه تعالى و سبح و كبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر و التقوى و من العمل ما ترضى اللهم هون سفرنا هذا و اطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر و الخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر و كآبة المنظر و سوء المنقلب في الأهل و المال و الولد و إذا رجع قالهن و زاد فيهم آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» قوله وعثاء السفر: يعني تعبه و شدته و مشقته و كآبة المنظر و سوء المنقلب الكآبة الحزن و المنقلب المرجع و ذلك أن يعود من سفره حزينا كئيبا أو يصادف ما يحزنه في أهل أو مال.
عن علي بن أبي ربيعة قال «شهدت علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه و قد أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم اللّه فلما استوى على ظهرها قال الحمد للّه سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد للّه ثلاث مرات ثم قال اللّه أكبر ثلاث مرات ثم قال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقلت يا أمير المؤمنين مم ضحكك قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فعل كما فعلت فقلت يا رسول اللّه من أي شيء ضحكت قال إن ربك يعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك» أخرجه الترمذي، و قال حديث حسن غريب.
قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً يعني ولدا و هو قولهم الملائكة بنات اللّه لأن الولد جزء من الأب
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 107
و معنى جعلوا هنا حكموا و أثبتوا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي لجحود نعم اللّه تعالى عليه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ هذا استفهام إنكار و توبيخ يقول اتخذ ربكم لنفسه البنات وَ أَصْفاكُمْ أي أخلصكم بِالْبَنِينَ وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بالجنس الذي جعله للرحمن شبها لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد و المعنى أنهم نسبوا إليه البنات و من حالهم أن أحدهم إذا قيل له و قد ولد لك بنت اغتم و تربد وجهه غيظا و أسفا و هو قوله تعالى: ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار وجهه مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ أي من الحزن و الغيظ قيل إن بعض العرب ولد له أنثى فهجر بيت امرأته التي ولدت فيه الأنثى فقالت المرأة:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
ليس لنا من أمرنا ما شينا
و إنما نأخذ ما أعطينا
حكمة ربي ذي اقتدار فينا
قوله عز و جل: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا يعني أو من يتربى فِي الْحِلْيَةِ يعني في الزينة و النعمة و المعنى أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته و لو لا نقصانها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ثم بين نقصان حالها بوجه آخر و هو قوله وَ هُوَ فِي الْخِصامِ أي المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ للحجة و ذلك لضعف حالها و قلة عقلها قال قتادة قلما تكلمت امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
[سورة الزخرف (43): الآيات 19 الى 23]
وَ جَعَلُوا أي و حكموا و أثبتوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ و قرئ عند الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي حضروا خلقهم حين خلقوا و هذا استفهام إنكار أي لم يشهدوا ذلك سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ أي على الملائكة أنهم بنات اللّه وَ يُسْئَلُونَ أي عنها، قيل لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: و ما يدريكم أنهم بنات اللّه، قالوا: سمعنا من آبائنا و نحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال اللّه تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ و يسألون عنها في الآخرة وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة و قيل الأصنام و إنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بذلك قال اللّه تعالى ردا عليهم.