کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 226
الميزان وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل و قيل أقيموا لسان الميزان بالعدل و قيل الإقامة باليد و القسط بالقلب وَ لا تُخْسِرُوا أي لا تنقصوا الْمِيزانَ أي لا تطففوا في الكيل و الوزن أمر بالتسوية و نهى عن الطغيان الذي هو اعتداء و زيادة و عن الخسران الذي هو تطفيف و نقصان و كرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به و تقوية للأمر باستعماله و الحث عليه وَ الْأَرْضَ وَضَعَها أي خفضها مدحوة على الماء لِلْأَنامِ يعني للخلق الذين بثهم فيها و هو كل ما ظهر عليها من دابة و قيل للإنس و الجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها فِيها يعني في الأرض فاكِهَةٌ يعني من أنواع الفاكهة و قيل ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ يعني الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف و هو الطلع ما لم ينشق و كل شيء ستر شيئا فهو كم و قيل أكمامها ليفها و اقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر لأنه أعظمها و أكثرها بركة.
[سورة الرحمن (55): الآيات 12 الى 15]
وَ الْحَبُ يعني جميع الحبوب التي يقتاب بها كالحنطة و الشعير و نحوهما و إنما أخّر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى لأن الحب أنفع من النخل و أعم وجودا في الأماكن ذُو الْعَصْفِ قال ابن عباس يعني التبن و عنه أنه ورق الزرع الأخضر إذ قطع رؤوسه و يبس و قيل هو ورق كل شيء يخرج منه الحب يبدو صلاحه و لا ورق و هو العصف ثم يكون سوقا ثم يحدث اللّه فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب وَ الرَّيْحانُ يعني الرزق قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كل ريحان في القرآن فهو رزق و قيل هو الريحان الذي يشم، و قيل:
العصف التبن و الريحان ثمرته فذكر قوت الناس و الأنعام ثم خاطب الجن و الإنس فقال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يعني أيها الثقلان يريد هذه الأشياء المذكورة و كرر هذه الآية في هذه الصورة في أحد و ثلاثين موضعا تقريرا للنعمة و تأكيدا في التذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه و فصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم و يقررهم بها كقول الرجل لمن أحسن إليه و تابع إليه بالأيادي و هو ينكرها و يكفرها ألم تكن فقيرا فأغنيتك أ فتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أ فتنكر هذا؟ ألم تكن حاملا فعززتك أ فتنكر هذا؟ و مثل هذا الكلام شائع في كلام العرب حسن تقريرا و ذلك لأن اللّه تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان و تعليمه البيان و خلق الشمس و القمر و السماء و الأرض إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه و خاطب الجن و الإنس فقال فبأي آلاء ربكما تكذبان من الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم. عن جابر رضي اللّه تعالى عنه قال «خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» أخرجه الترمذي و قال حديث غريب و في رواية غيره «كانوا أحسن منكم ردا و فيه و لا بشيء» قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ يعني من طين يابس له صلصلة و هو الصوت منه إذا نقر كَالْفَخَّارِ يعني الطين المطبوخ بالنار و هو الخزف.
فإن قلت قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم فقال تعالى من تراب و قال من حمإ مسنون و قال من طين لازب و قال من ماء مهين و قال هنا من صلصال كالفخار قلت ليس في هذه العبارات اختلاف بل المعنى متفق و ذلك أن اللّه تعالى خلقه أولا من تراب ثم جعله طينا لازبا لما اختلط بالماء ثم حمأ مسنونا و هو الطين الأسود المنتن فلما يبس صار صلصالا كالفخار وَ خَلَقَ الْجَانَ و هو أبو الجن. و قيل هو إبليس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يعني الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، و قيل هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر و الأصفر و الأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 227
[سورة الرحمن (55): الآيات 16 الى 25]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يعني مشرق الصيف و هو غاية ارتفاع الشمس و مشرق الشتاء و هو غاية انحطاط الشمس. وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ يعني مغرب الصيف و مغرب الشتاء، و قيل يعني مشرق الشمس و مشرق القمر و مغرب الشمس و مغرب القمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني أرسل البحرين العذب و الملح متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين لأن من شأنهما الاختلاط و هو قوله: يَلْتَقِيانِ لكن اللّه تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ و هو قوله: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة اللّه لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على صاحبه و قيل لا يختلطان و لا يتغيران و قيل لا يطغيان على الناس بالغرق و قيل مرج البحرين بحر الروم و بحر الهند و أنتم الحاجز بينهما و قيل بحر فارس و الروم بينهما برزخ يعني الجزائر و قيل بحر السماء و بحر الأرض يلتقيان في كل عام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا قيل إنما يخرج من البحر الملح دون العذب فهو كقوله وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً و قيل أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف و قيل لما التقى البحران فصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما كما يقال يخرج من البحر و لا يخرج من جميع البحر و لكن من بعضه و قيل يخرج من السماء و ماء البحر قيل إذا أمطرت السماء تفتح الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة، و قوله تعالى: اللُّؤْلُؤُ قيل هو ما عظم من الدر وَ الْمَرْجانُ صغاره و قيل بعكس ذلك و قيل المرجان هو الخرز الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَ لَهُ الْجَوارِ يعني السفن الكبار الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات التي يرفع خشبها بعضه على بعض و قيل هي ما رفع قلعها من السفن أما ما لم يرفع قلعها فليست من المنشآت و قيل معنى المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالجبال جمع علم و هو الجبل الطويل شبه السفن في البحر بالجبل في البر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قوله عز و جل:
[سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 31]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31)
كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من حيوان و إنما ذكره بلفظة من تغليبا للعقلاء فانٍ أي هالك لأن وجود الإنسان في الدنيا عرض فهو غير باق و ما ليس بباق فهو فان ففيه الحث على العبادة و صرف الزمن اليسير إلى الطاعة وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يعني ذاته و الوجه يعبر به عن الجملة.
و في المخاطب و جهان أحدهما أنه كل واحد و المعنى و يبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع.
و الوجه الثاني: أنه يحتمل أن الخطاب مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ذُو الْجَلالِ أي ذو العظمة و الكبرياء و معناه الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وَ الْإِكْرامِ أي المكرم لأنبيائه و أوليائه و جميع خلقه بلطفه و إحسانه إليهم مع جلاله و عظمته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «ألظوا بيا ذا الجلال و الإكرام» أخرجه الترمذي و قال الحاكم حديث صحيح الإسناد و معنى ألظوا الزموا هذه الدعوة و أكثروا منها.
قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني من ملك و إنس و جن فلا يستغني عن فضله أهل السموات و الأرض قال ابن عباس فأهل السموات يسألونه المغفرة و أهل الأرض يسألونه الرزق و المغفرة و قيل كل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 228
أحد يسأل الرحمة و ما يحتاج إليه في دينه أو دنياه و فيه إشارة إلى كمال قدرة اللّه تعالى و أن كل مخلوق و إن جل و عظم فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه مفتقر إلى اللّه تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قيل نزلت ردا على اليهود حيث قالوا إن اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا قال المفسرون من شأنه أنه يحيي و يميت و يرزق و يعز قوما و يذل قوما و يشفي مريضا و يمرض صحيحا و يفك عانيا و يفرج عن مكروب و يجيب داعيا و يعطي سائلا و يغفر ذنبا إلا ما لا يحصى من أفعاله و إحداثه في خلقه ما يشاء سبحانه و تعالى و روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن مما خلق اللّه عز و جل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور و كتابه نور ينظر اللّه فيه كل يوم ثلاثمائة و ستين نظرة يخلق و يرزق و يحيي و يميت و يعز و يذل و يفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال ابن عيينة الدهر كله عند اللّه يومان أحدهما مدة أيام الدنيا و الآخر يوم القيامة و الشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة أيام الدنيا الاختبار بالأمر و النهي و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع و شأن يوم القيامة الجزاء و الحساب و الثواب و العقاب، و قال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت و معناه إن اللّه عز و جل كتب ما يكون في كل يوم و قدر ما هو كائن فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيوجده في ذلك الوقت و قال أبو سليمان الداراني في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد بر جديد و قيل شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم و ليلة ثلاثة عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات و عسكرا من الأرحام إلى الدنيا و عسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى اللّه تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قيل هو وعيد من اللّه تعالى للخلق بالمحاسبة و ليس هو فراغ عن شغل لأن اللّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فهو كقول القائل لمن يريد تهديده لأتفرغن لك و ما به شغل و هذا قول ابن عباس و إنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن و قيل معناه سنقصدكم بعد الترك و الإمهال و نأخذ في أمركم فهو كقول للقائل الذي لا شغل له قد فرغت لك و قيل معناه أن اللّه وعد أهل التقوى و أوعد أهل الفجور فقال سنفرغ لكم مما وعدناكم و أخبرناكم فنحاسبكم و نجازيكم فننجز لكم ما وعدناكم فنتم ذلك و نفرغ منه فهو على طريق المثل و أراد بالثقلين الإنس و الجن سميا ثقلين لأنهما ثقلا على الأرض أحياء و أمواتا، و قيل كل شيء له قدر و وزن ينافس فيه فهو ثقل و منه قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي» فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما و قال جعفر بن محمد الصادق سمي الإنس و الجن ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب.
[سورة الرحمن (55): الآيات 32 الى 35]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أي تخرجوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي جوانبهما و أطرافهما فَانْفُذُوا أي فاخرجوا و المعنى إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات و الأرض فاهربوا و اخرجوا منها فحيثما كنتم يدرككم الموت و قيل يقال لهم هذا يوم القيامة و المعنى إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات و الأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا و قيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من قضائي و تخرجوا من ملكي و من سمائي و أرضي فافعلوا و قدم الجن على الإنس في هذه الآية لأنهم أقدر على النفوذ و الهرب من الإنس و أقوى على ذلك ثم قال تعالى: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يعني لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة و قهر و غلبة و أني لكم ذلك لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي و سلطاني و قال ابن عباس معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات و الأرض فاعلموا و لن تعلموه إلا بسلطان أي بينة من اللّه تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و في الخبر «يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار ثم ينادي» يا مَعْشَرَ
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 229
الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الآية فذلك قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قال أكثر المفسرين هو اللهب الذي لا دخان فيه و قيل هو اللهب الأخضر المنقطع من النار وَ نُحاسٌ و قيل هو الدخان و هو رواية عن ابن عباس و قيل هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم و هو الرواية الثانية عن ابن عباس و قال ابن مسعود النحاس المهل و قيل يرسل عليهما هذا مرة و هذا مرة و قيل يجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر فَلا تَنْتَصِرانِ أي فلا تمتنعان من اللّه و لا يكون لكم ناصر منه.
[سورة الرحمن (55): الآيات 36 الى 41]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انفرجت فصارت أبوابا لنزول الملائكة و قيل المراد منه خراب السماء و ذلك لما قال كل من عليها فان إشارة إلى أهل الأرض ذكر في هذه الآية بيان حال سكان السماء و قيل فيه تهويل و تعظيم للأمر لأن فيه إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس و الجن و هو تشقق السماء و ذوبانها و هو قوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ جمع دهن شبه تلون السماء عند انشقاقها بتلون الفرس الورد و هو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة و قيل إن السماء تتلون يومئذ ألوانا كألوان الفرس الورد يكون في الربيع أصفر و في أول الشتاء أحمر فإذا اشتد البرد صار أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه و قيل كالدهان أي كعصير الزيت لأنه يتلون في الساعة ألوانا و قيل تصير السماء كالدهن الذائب و ذلك حين يصلها حر جهنم و قيل كالدهان أي كالأديم الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ قيل لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم لأن اللّه تعالى علمها منهم و كتبتها الحفظة عليهم و هذه رواية عن ابن بعاس و عنه لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم دليله ما بعده و عن ابن عباس أيضا في الجمع بين هذه الآية و بين قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال لا يسألهم هل عملتم كذا و كذا لأنه أعلم بذلك منهم و لكنه يسألهم لم عملتم كذا و كذا و قيل إنها مواطن فيسأل في بعضها و لا يسأل في بعضها و عن ابن عباس أيضا قال لا يسألون سؤال شفقة و رحمة إنما يسألون سؤال تقريع و توبيخ و قيل لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ، يعني بسواد وجوههم و زرقة عيونهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ظهره و قيل تجعل رؤوسهم على ركبهم و نواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة و قيل يسحب بعضهم بالنواصي و بعضهم بالأقدام ثم يلقون في النار.
[سورة الرحمن (55): الآيات 42 الى 46]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم هذه جهنم ثم يلقون فيها الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يعني قد انتهى حره أي أنهم يسعون بين الحميم و بين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل و قال كعب الأحبار آن واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا فيلقون في النار فذلك قوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 230
تُكَذِّبانِ فإن قلت هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ إلى هنا ليست نعما فكيف عقبها بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ .
قلت المذكور في هذه الآيات مواعظ و زواجر و تخويف و كل ذلك نعمة من اللّه تعالى لأنها تزجر العبد عن المعاصي فصارت نعما فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه و خافه من عباده المؤمنين فقال تعالى: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يعني مقامه بين يدي ربه للحساب فترك الشهوة و المعصية و قيل قيام ربه عليه يعني اطلاعه عليه و هو الذي يهم بالمعصية فيذكر اللّه و اطلاعه عليه فيدعها من مخافة اللّه و قيل لمن راقب اللّه في السر و العلانية بعمله فما عرض له من محرم تركه من خشيته و ما عمل من خير أخلصه للّه و لا يحب أن يطلع عليه أحد قيل إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا للّه مع الإخلاص و دأبوا الليل و النهار جَنَّتانِ يعني جنة عدن و جنة نعيم و قيل جنة بخوفه ربه و جنة بتركه شهوته.
عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول «من خاف أدلج و من أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة اللّه غالية ألا إن سلعة اللّه الجنة» أخرجه الترمذي قوله أدلج الإدلاج مخففا سير أول الليل و مثقلا سير آخر الليل و المراد من الإدلاج التشمير و الجد و الاجتهاد في أول الأمر فإن من سار أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل و روى البغوي بسنده عن أبي ذر «أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقص على المنبر و هو يقول و لمن خاف مقام ربه جنتان فقلت و إن زنى و إن سرق؟ فقال و إن زنى و إن سرق ثم قال و لمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثانية و إن زنى و إن سرق يا رسول اللّه؟ فقال و إن زنى و إن سرق ثم قال و لمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة و إن زنى و إن سرق يا رسول اللّه؟ فقال و إن زنى و إن سرق على رغم أنف أبي ذر».
[سورة الرحمن (55): الآيات 47 الى 54]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: ذَواتا أَفْنانٍ أي أغصان واحدها فنن و هو الغصن المستقيم طولا و قيل ذواتا ظلال و هو ظل الأغصان على الحيطان، و قال ابن عباس ذواتا ألوان يعني ألوان الفواكه و جمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة و قيل ذواتا فضل وسعة على ما سواهما، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس بالكرامة و الزيادة لأهل الجنة و قيل تجريان بالماء الزلال إحداهما التسليم و الأخرى السلسبيل و قيل إحداهما من ماء غير آسن و الأخرى من خمر لذة للشاربين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي صنفان و نوعان و قيل معناه إن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبا و يابسا قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة و لا مرة إلا و هي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها جمع بطانة و التي تلي الأرض من تحت الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ و هو ما غلظ من الديباج قال ابن مسعود و أبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر و قيل لسعيد بن جبير البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال هي مما قال اللّه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، و عنه أيضا قال بطائنها من إستبرق و ظواهرها من نور جامد و قال ابن عباس وصف البطائن و ترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر و قيل ظواهرها من سندس و هو الديباج الرقيق الناعم و هذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق و لا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر، وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ يعني أن ثمرهما قريب يناله القائم و القاعد و النائم و هذا بخلاف ثمر الدنيا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 231
فإنها لا تنال إلا بكدّ و تعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي اللّه إن شاء قائما و إن شاء قاعدا و قيل لا يرد أيديهم عنها بعد و لا شوك.
[سورة الرحمن (55): الآيات 55 الى 58]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟
قلت إلى الجنتين و إنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن و قصور و مجالس قاصِراتُ الطَّرْفِ أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم و لا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها و عزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد للّه الذي جعلك زوجي و جعلني زوجتك لَمْ يَطْمِثْهُنَ أي لم يجامعهن و لم يفرعهن و المعنى لم يدمهن بالجماع و قيل معناه لم يمسهن و منه قول الفرزدق:
خرجن إلي لم يطمثن قبل
و هن أصح من بيض النعام
أي لم يمسسني و المعنى لم يطأهن و لم يغشهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي قبل أزواجهن من أهل الجنة، وَ لا جَانٌ قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجا في الجنة منهم و في الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي و سئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم و قرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس و الجنيات للجن و قال مجاهد في هذه الآية إذا جامع و لم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه و اختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن و قيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفهن.
لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد و قيل هن الآدميات اللاتي متن أبكارا و معنى الآية المبالغة في نفي الطمث عنهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان و هو صغار اللؤلؤ و أشده بياضا و قيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة و الأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه و قال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها و ذلك لأن اللّه تعالى يقول كأنهن الياقوت و المرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه أخرجه الترمذي قال و قد روي عن ابن مسعود بمعناه و لم يرفعه و هو أصح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر زاد في رواية ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها و لا يتمخطون و لا يتغوطون آنيتهم الذهب و الفضة و أمشاطهم الذهب و مجامرهم الألوة و رشحهم المسك و لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم و لا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون اللّه بكرة و عشيا، و للبخاري قلوبهم على قلب رجل واحد و زاد فيه و لا يسقمون قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 232
[سورة الرحمن (55): الآيات 59 الى 66]
مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة و قال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا اللّه و عمل بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم إلا الجنة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا اللّه و رسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة، و روى الواحدي بغير سند عن ابن عمر و ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال في هذه الآية يقول اللّه عز و جل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي و توحيدي إلا أن أسكنه جنتي و حظيرة قدسي برحمتي، و قيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن و في الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن اللّه وعد المؤمنين بالإحسان و هو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة و تركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل و العقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي و من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان و قال ابن عباس من دونهما في الدرج و قيل في الفضل و قال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين و جنتان من فضة للتابعين و قال ابن جريج هن أربع جنان: جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان و جنتان لأصحاب اليمين و التابعين فيهما فاكهة و نخل و رمان، (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال جنتان من فضة آنيتهما و ما فيهما و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما و ما بين القوم و بين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن و قال الكناني و من دونهما جنتان يعني أمامهما و قبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب و فضة و الجنتان الأخريان من ياقوت و زبرجد و هما أفضل من الأوليين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ أي سوداوان من ريهما و شدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوارتان بالماء لا ينقطعان و قال ابن عباس و الضحاك ينضخان بالخير و البركة على أهل الجنة و قال ابن مسعود ينضخان بالمسك و الكافور على أولياء اللّه و قال أنس بن مالك ينضخان بالمسك و العنبر في دور أهل الجنة كطش المطر.
[سورة الرحمن (55): الآيات 67 الى 76]