کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 259
إليه و قال أبو حنيفة إن كان واجدا لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها و إن كان محتاجا إليه، و إن كان واجدا لثمن الرقبة لكنه محتاج إليه فله أن يصوم.
المسألة الثامنة: قال أصحاب الشافعي الشبق المفرط و الغلمة الهائجة عذر في الانتقال من الصيام إلى الإطعام و الدليل عليه ما روي عن سلمة بن صخر البياضي قال «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا تتايع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذا انكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر قال فقلت امشوا معي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قالوا لا و اللّه فانطلقت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبرته فقال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول اللّه مرتين و أنا صابر لأمر اللّه فاحكم بما أمرك اللّه به. قال حرر رقبة قلت و الذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها و ضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال و هل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا قلت و الذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر و كل أنت و عيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق و سوء الرأي و وجدت عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم السعة و حسن الرأي و قد أمر لي بصدقتكم و بنو بياضة بطن من بني زريق» أخرجه أبو داود.
قوله نزوت عليها أي و ثبت عليها و أراد به الجماع و قوله تتايع به التتايع الوقوع في الشر و اللجاج فيه و الوسق ستون صاعا، و قوله وحشين يقال رجل وحش إذا لم يكن له طعام و أوحش الرجل إذا جاع.
و عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت «ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أشكو إليه و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يجادلني فيه و يقول اتقي اللّه فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها إلى الفرض قال يعتق رقبة قلت لا يجد قال فليصم شهرين متتابعين قلت يا رسول اللّه إنه شيخ كبير ما به من صيام قال فليطعم ستين مسكينا قلت ما عنده شيء يتصدق به قال فإني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول اللّه و أنا أعينه بعرق آخر قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا ارجعي إلى ابن عمك» أخرجه أبو داود و في رواية «قلت إن أوسا ظاهر مني و ذكرت أن به لمما و قالت و الذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له في منافع و ذكرت نحوه» العرق بفتح العين و الراء المهملتين زنبيل يسع ثلاثين صاعا و قيل خمسة عشر صاعا و قولها إن به لمما اللمم طرف من الجنون و قال الخطابي لبس المراد من اللمم هنا الجنون و الخبل إن لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يلزمه شيء بل معنى اللمم هاهنا الإلمام بالنساء و شدة الحرص و الشبق و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 260
[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 8]
قوله عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي يعادون اللّه و رسوله و يشاقون و يخالفون أمرهما، كُبِتُوا أي ذلوا و أخزوا و أهلكوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما أخزي من كان قبلهم من أهل الشرك، وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ يعني فرائض و أحكاما. وَ لِلْكافِرِينَ أي الذين لم يعملوا بها و جحدوها عَذابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ أي حفظ اللّه أعمالهم وَ نَسُوهُ أي نسوا ما كانوا يعملون في الدنيا، وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أي ألم تعلم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يعني أنه سبحانه و تعالى عالم بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماوات ثم أكد ذلك بقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ أي من أسرار ثلاثة و هي المسارة و المشاورة و المعني ما من شيء يناجي به الرجل صاحبه و قيل ما يكون من متناجين ثلاثة يسارر بعضهم بعضا إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي بالعلم يعني يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم و مشاهدهم كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ فإن قلت لما خص الثلاثة و الخمسة.
قلت: أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض فيكون اثنان كالمتنازعين في النفي و الإثبات و الثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تحمد تلك المشاورة و يتم ذلك الغرض و هكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بد من واحد يكون حكما بينهم مقبول القول و قيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خص اللّه تعالى الثلاثة و الخمسة ثم قال تعالى: وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ يعني و لا أقل من ثلاثة و خمسة و لا أكثر من ذلك العدد إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي بالعلم و القدرة، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قوله عز و جل: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى نزلت في اليهود و المنافقين و ذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين و ينظرون إلى المؤمنين و يتغامزون بأعينهم و يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون بما يسوءهم فيحزن المؤمنين لذلك و يقولون ما نراهم إلا قد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو هزيمة فيقع ذلك في قلوبهم و يحزنهم فلما طال على المؤمنين و كثر شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فأنزل اللّه ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى أي المناجاة فيما بينهم، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ يعني ذلك السر الذي كان بينهم لأنه إما مكر و كيد بالمسلمين أي شيء يسوءهم و كلاهما إثم و عدوان، وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ و ذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه و عادوا إليها و قيل معناه يوصي بعضهم بعضا بمعصية الرسول وَ إِذا جاؤُكَ يعني اليهود حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ و ذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و يقولون السام عليك و السام الموت و هم يوهمونه بأنهم يسلمون عليه و كان النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يرد فيقول عليكم وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يعني إذا خرجوا من عنده قالوا لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ يريدون لو كان نبيا لعذبنا اللّه بما نقول من الاستخفاف به قال اللّه تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ المعنى أن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة و المصلحة و إذا لم تقتض المشيئة و المصلحة تقديم العذاب فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم (ق) عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت «دخل رهط من اليهود على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا السام عليك قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام و اللعنة قالت فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مهلا يا عائشة إن اللّه يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول اللّه أ لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد قلت عليكم» و للبخاري «إن اليهود أتوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا السام عليك فقال و عليكم فقالت عائشة السام عليكم و لعنكم اللّه و غضب عليكم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يا عائشة عليك بالرفق و إياك و العنف و الفحش قالت أو لم تسمع ما قالوا؟ قال أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم و لا يستجاب لهم في» السام الموت قال الخطابي عامة المحدثين يروون إذا سلم عليكم أهل الكتاب فإنما يقولون السام عليكم فقولوا و عليكم الحديث فيثبتون الواو في و عليكم و كان سفيان بن عيينة يرويه بغير و او قال و هو
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 261
الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه مردودا عليهم بعينه و إذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم لأن الواو تجمع بين الشيئين، و العنف ضد الرفق و اللين، و الفحش الرديء من القول.
[سورة المجادلة (58): الآيات 9 الى 10]
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ في المخاطبين بهذه الآية قولان أحدهما أنه خطاب للمؤمنين و ذلك أنه لما ذم اليهود و المنافقين على التناجي بالإثم و العدوان و معصية الرسول أتبعه بأن نهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم و أن يفعلوا كفعلهم فقال لا تتناجوا بالإثم و هو ما يقبح من القول و العدوان و هو ما يؤدي إلى الظلم و معصية الرسول و هو ما يكون خلافا عليه.
و القول الثاني: و هو الأصح أنه خطاب للمنافقين و المعنى. يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم و قيل آمنوا بزعمهم كأنه قال لهم لا تتناجوا بالإثم و العدوان و معصية الرسول وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى أي بالطاعة و ترك المعصية وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي من تزيين الشيطان و هو ما يأمرهم به. من الإثم و العدوان و معصية الرسول لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا إنما يزين ذلك ليحزن المؤمنين (ق) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» زاد ابن مسعود في رواية «فإن ذلك يحزنه» و هذه الزيادة لأبي داود وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً يعني ذلك التناجي و قيل الشيطان ليس بضارهم شيئا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا ما أراد اللّه تعالى و قيل إلا بإذن اللّه في الضر وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فليكل المؤمنون أمرهم إلى اللّه تعالى و يستعيذوا به من الشيطان فإن من توكل على اللّه لا يخيب أمله و لا يبطل سعيه.
[سورة المجادلة (58): آية 11]
قوله عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية قيل في سبب نزولها «إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يكرم أهل بدر من المهاجرين و الأنصار فجاء ناس منهم يوما و قد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فسلموا عليه فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ثم قاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا و شق ذلك على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال لمن حوله قم يا فلان و أنت يا فلان فأقام من المجلس بقدر أولئك النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه و عرف النبي صلّى اللّه عليه و سلّم الكراهية في وجوههم فأنزل اللّه هذه الآية» و قيل نزلت في ثابت بن قيس بن شماس و قد تقدمت القصة في سورة الحجرات، و قيل كانوا يتنافسون في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يحبون القرب منه فكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا تضاموا في مجلسهم فأمرهم اللّه أن يفسح بعضهم لبعض و قيل كان ذلك يوم الجمعة في الصفة و المكان ضيق و الأقرب أن المراد مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأنهم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و حرصا على استماع كلامه فأمر اللّه المؤمنين بالتواضع و أن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه و قرئ في المجلس لأن لكل واحد مجلسا و معناه ليفسح كل رجل في مجلسه فافسحوا أي فأوسعوا في المجلس أمروا بأن يوسعوا في المجالس لغيرهم، يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع اللّه لكم في الجنة و المجالس فيها (ق) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 262
يجلس فيه و لكن توسعوا و تفسحوا يفسح اللّه لكم»، (م) عن جابر بن عبد اللّه قال «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه و لكن يقول افسحوا» ذكره الحميدي في أفراد مسلم موقوفا على جابر و رفعه غير الحميدي و قيل في معنى الآية إن هذا في مجالس العرب و مقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم و هم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال و رغبتهم في الشهادة فأمروا بأن يوسعوا لإخوانهم لأن الرجل الشديد البأس قد يكون متأخرا عن الصف الأول و الحاجة داعية إلى تقدمه فلا بد من التفسح له ثم يقاس على ذلك سائر المجالس كمجالس العلم و القرآن و الحديث و الذكر و نحو ذلك لأن كل من وسع على عباد اللّه أنواع الخير و الراحة وسع اللّه عليه خيري الدنيا و الآخرة. وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا قيل ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا و قيل كان رجال يتثاقلون عن الصلاة في الجماعة إذا نودي لها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و المعنى إذا نودي إلى الصلاة فانهضوا إليها و قيل إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة و إلى الجهاد و إلى كل خير فانهضوا إليه و لا تقصروا عنه، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي بطاعتهم للّه و لرسوله و امتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم و توسعتهم لإخوانهم وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي و يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم و سابقتهم دَرَجاتٍ أي على من سواهم في الجنة قيل يقال للمؤمن الذي ليس بعالم إذا انتهى إلى باب الجنة أدخل و يقال للعالم قف فاشفع في الناس أخبر اللّه عز و جل أن رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم مصيب فيما أمروا أن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا و أن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا به من الإكرام وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال الحسن قرأ ابن مسعود هذه الآية و قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية و لنرغبنكم في العلم فإن اللّه تعالى يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات و قيل إن العالم يحصل له بعلمه من المنزلة و الرفعة ما لا يحصل لغيره لأنه يقتدي بالعالم في أقواله و في أفعاله كلها عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء و هو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي قال حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا قال ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال نعم قال فإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنة و إن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم و إن العالم ليستغفر له من في السموات و من في الأرض حتى الحيتان في الماء و فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما إنما أورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر» أخرجه الترمذي و لأبي داود نحوه، (ق) عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول «من يريد اللّه به خيرا يفقهه في الدين» و عن ابن عباس مثله أخرجه الترمذي و روى البغوي بسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون إلى اللّه و يرغبون إليه و الآخر يتعلمون الفقه و يعلمونه فقال كلا المجلسين على خير و أحدهما أفضل من صاحبه».
أما هؤلاء فيدعون إلى اللّه و يرغبون إليه و أما هؤلاء فيتعلمون الفقه و يعلمون الجاهل فهؤلاء أفضل و إنما بعثت معلما ثم جلس فيهم» قوله تعالى:
[سورة المجادلة (58): آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يعني إذا أردتم مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقدموا أمام ذلك صدقة و فائدة ذلك إعظام مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فإن الإنسان إذا وجد الشيء بمشقة استعظمه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 263
و إن وجده بسهولة استحقره و نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة قال ابن عباس إن الناس سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أكثروا حتى شق عليه فأراد اللّه تعالى أن يخفف على نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم و يثبطهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قيل نزلت في الأغنياء و ذلك أنهم كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيكثرون مناجاته و يغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم طول جلوسهم و مناجاتهم فلما أمروا بالصدقة كفوا عن مناجاته فأما الفقراء و أهل العسرة فلم يجدوا شيئا و أما الأغنياء و أهل الميسرة فضنوا و اشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت الرخصة و قال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب تصدق بدينار و ناجاه ثم نزلت الرخصة فكان علي يقول آية في كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي و هي آية المناجاة. و عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لي النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ما ترى دينارا قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال إنك لزهيد قال فنزلت.
[سورة المجادلة (58): الآيات 13 الى 16]
أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية قال فبي خفف اللّه عن هذه الأمة أخرجه الترمذي و قال حديث حسن غريب قوله قلت شعيرة أي وزن شعيرة من ذهب و قوله إنك لزهيد يعني قليل المال قدرت على قدر حالك.
فإن قلت في هذه الآية منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه إذ لم يعمل بها أحد غيره.
قلت هو كما قلت و ليس فيها طعن على غيره من الصحابة و وجه ذلك أن الوقت لم يتسع ليعملوا بهذه الآية و لو اتسع الوقت لم يتخلفوا عن العمل بها و على تقدير اتساع الوقت و لم يفعلوا ذلك إنما هو مراعاة لقلوب الفقراء الذين لم يجدوا ما يتصدقون به لو احتاجوا إلى المناجاة فيكون ذلك سببا لحزن الفقراء إذ لم يجدوا ما يتصدقون به عند مناجاته و وجه آخر و هو أن هذه المناجاة لم تكن من المفروضات و لا من الواجبات و لا من الطاعات المندوب إليها بلى إنما كلفوا هذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة و لما كانت هذه المناجاة أولى بأن تترك لم يعملوا بها و ليس فيها طعن على أحد منهم، و قوله: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني تقديم الصدقة على المناجاة لما فيه من طاعة اللّه و طاعة رسوله وَ أَطْهَرُ أي لذنوبكم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى رفع عنهم ذلك أَ أَشْفَقْتُمْ قال ابن عباس أ بخلتم و المعنى أخفتم العيلة و الفاقة إن قدمتم و هو قوله أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به، وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي تجاوز عنكم و نسخ الصدقة قال مقاتل بن حيان كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، و قال الكلبي ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَ آتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي فيما أمر و نهى وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي إنه محيط بأعمالكم و نيتكم.
قوله عز و جل: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين و ذلك أنهم تولوا اليهود و نصحوهم و نقلوا أسرار المؤمنين إليهم فأراد بقوله قوما غضب اللّه عليهم اليهود ما هُمْ يعني المنافقين مِنْكُمْ أي من المؤمنين في الدين و الولاء وَ لا مِنْهُمْ يعني و لا من اليهود وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 264
يَعْلَمُونَ أي أنهم كذبة «نزلت في عبد اللّه بن نبتل المنافق و كان يجالس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في حجرة من حجره إذ قال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعيني شيطان فدخل عبد اللّه بن نبتل و كان أزرق العينين فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم علام تشتمني أنت و أصحابك فحلف باللّه ما فعل و جاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما سبوه فأنزل اللّه هذه الآية» أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ يعني الكاذبة جُنَّةً أي يستجنون بها من القتل و يدفعون بها عن أنفسهم و أموالهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني أنهم صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل و أخذ أموالهم بسبب أيمانهم، و قيل معناه صدوا الناس عن دين اللّه الذي هو الإسلام فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يعني في الآخرة.
[سورة المجادلة (58): الآيات 17 الى 22]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ يوم القيامة مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ يعني كاذبين أنهم ما كانوا مشركين كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي في الدنيا و قيل كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنه ينفع في الآخرة أيضا وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ يعني من أيمانهم الكاذبة أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ يعني في أقوالهم و أيمانهم، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب و استولى عليهم و ملكهم فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ يعني في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا و الآخرة لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني.
و لما كانت عزة اللّه غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي أي قضى ذلك قضاء ثابتا قيل غلبة الرسل على نوعين فمنهم من يؤمر بالحرب فهو غالب بالحرب و من لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ أي على نصر رسله و أوليائه عَزِيزٌ أي غالب على أعدائه.
قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أخبر اللّه تعالى أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين و أن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر لأن من أحب أحدا امتنع أن يحب عدوه فإن قلت قد أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالفتهم و معاشرتهم فما هذه المودة المحظورة قلت المودة المحظورة هي مناصحتهم و إرادة الخير لهم دينا و دنيا مع كفرهم، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في الذكر عن مودتهم بقوله وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يعني أن الميل إلى هؤلاء من أعظم أنواع الميل و مع هذا فيجب أن يطرح الميل إلى هؤلاء و المودة لهم بسبب مخالفة الدين قيل نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة و ستأتي قصته في سورة الممتحنة و روي عن عبد اللّه بن مسعود في
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 265
هذه الآية قال و لو كانوا آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم أحد أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه دعا ابنه يوم بدر إلى البراز و قال يا رسول اللّه دعني أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «متعنا بنفسك يا أبا بكر» أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبد اللّه بن عمير أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر و علي بن أبي طالب و حمزة و أبا عبيدة قتلوا عتبة و شيبة ابني ربيعة و الوليد بن عتبة يوم بدر، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبت التصديق في قلوبهم فهي مؤمنة موقنة مخلصة و قيل حكم لهم بالإيمان و إنما ذكر القلوب لأنها موضعه وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي قواهم بنصر منه و إنما سمى نصره إياهم روحا لأن به حيي أمرهم.