کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 275
إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم و غلمانهم معهم الفؤوس و المساحي فهدموا صومعة برصيصا و أنزلوه منها و كتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه و ذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل و مكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله و صلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أ تعرفني؟ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات و كنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت اللّه في أمانتك خنت أهلها و إنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره و يعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك و فضحت أشباهك من الناس و فضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبدا و لن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم و أخرجك من مكانك قال و ما هي؟ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قال اللّه تعالى:
[سورة الحشر (59): آية 17]
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني الشيطان و ذلك الإنسان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس ضرب اللّه هذا المثل ليهود بني النضير و المنافقين من أهل المدينة و ذلك أن اللّه تعالى أمر نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود و قالوا لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم و لا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم و إن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم و دربوا على حصونهم و تحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم و تبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا و خذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية و الكتمان و طمع أهل الفسق و الفجور في الأحبار و رموهم بالبهتان و القبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه اللّه مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده و ظهروا للناس و كانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم و صاحب جريج و صاحب يوسف و كان جريج رجلا صالحا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه و هو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي و صلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي و صلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي و صلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجا و عبادته و كانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم، فقالت إن شئتم لافتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه و هدموا صومعته و جعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى؟ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه و قال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه و يتمسحون به و قالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. و بينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي و أقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال و مر بجارية و هم يضربونها و يقولون زنيت و سرقت و هي تقول حسبي اللّه و نعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع و نظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث،
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 276
فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله و مروا بهذه الأمة و هم يضربونها و يقولون زنيت و سرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله و إن هذه يقولون لها زنيت و لم تزن و سرقت و لم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها» أخرجه مسلم بتمامه و هذا لفظه و أخرجه البخاري مفرقا حديث جريج تعليقا و حديث المرأة و ابنها خاصة.
مومسات الزواني جمع مومسة و هي المرأة الفاجرة و البغيّ الزانية أيضا و قوله يتمثل بحسنها أي يتعجب منه و يضرب به المثل و قوله ذو شارة حسنة أي صاحب جمال ظاهر في الهيئة و الملبس و المركب و نحو ذلك و الجبار العاتي المتكبر القاهر للناس.
[سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 23]
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه و المراد بالغد يوم القيامة و قربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غدا و كل ما هو آت فهو قريب، وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيدا و قيل معنى الأول اتقوا اللّه في أداء الواجبات و معنى الثاني و اتقوا اللّه فلا تأتوا المنهيات وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمر اللّه فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا ينفعها و عنده أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله «و لتنظر نفس ما قدمت لغد هدد الكافرين بقوله نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم و أصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون و معلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزا عظيما.
قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزا و عقلا كما جعل فيكم و أنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ و خضع و تشقق و تصدع من خشية اللّه و المعنى أن الجبل مع صلابته و رزانته مشقق من خشية اللّه، و حذر من أن لا يؤدي حق اللّه تعالى في تعظيم القرآن و الكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر و الأحكام كأنه لم يسمعها.
وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ و الأمثال و الوعيد و تمييز الحق من الباطل و الواجب مما لا يجب بأحسن بيان و أوضح برهان و من وقف على هذا و فهمه أوجب له الخشوع و الخشية و هذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع و الخشية إلا أن يخلق اللّه تعالى له تمييزا و عقلا يدل على أنه تمثيل.
قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار و قساوتها و غلظ طباعهم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 277
و لما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه و لم يعلموه و علم ما شاهدوه و ما علموه و قيل استوى في علمه تعالى السر و العلانية و الموجود و المعدوم و قيل علم حال الدنيا و الآخرة هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة و هما صفتان للّه تعالى و معناهما ذو الرحمة و رحمة اللّه إرادته الخير و النعمة و الإحسان إلى خلقه و قيل إن الرّحمن أشد مبالغة من الرّحيم و لهذا قيل هو رحمن الدنيا و رحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن و الكافر و في الآخرة يختص إحسانه و إنعامه بالمؤمنين هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر و النهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه و قهره و إرادته الْقُدُّوسُ أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به و قيل هو الذي كثرت بركته السَّلامُ أي الذي سلم من النقائص و كل آفة تلحق الخلق.
فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس و السلام فرق فيكون كالتكرار و ذلك لا يليق بفصاحة القرآن.
قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب و النقائص في الماضي و الحاضر و السلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب و النقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته و لا يبقى سليما، و قيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه، الْمُؤْمِنُ قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه و أمن من آمن به من عذابه و قيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم و المصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب و بما أوعد الكافرين من العذاب الْمُهَيْمِنُ قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء و قيل هو القائم على خلقه برزقه و أنشد في معناه:
ألا إن خير الناس بعد نبيه
مهيمنه التاليه في العرب و النكر
أي القائم على الناس بعده و قيل هو الرقيب الحافظ، و قيل هو المصدق و قيل هو القاضي و قيل هو بمعنى الأمين و المؤتمن و قيل بمعنى العلي و منه قول العباس يمدح النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في أبيات منها:
حتى احتوى بينك المهيمن من
خندف عليا زانها النطق
و قيل: المهيمن اسم من أسماء اللّه تعالى هو أعلم بتأويله و أنشدوا في معناه:
جل المهيمن عن صفات عبيده
و لقد تعالى عن عقول أولي النهى
راموا بزعمهم صفات مليكهم
و الوصف يعجز عن مليك لا يرى
الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير و قيل الغالب القاهر الْجَبَّارُ قال ابن عباس الجبار هو العظيم و جبروت اللّه عظمته فعلى هذا هو صفة ذات و قيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير و يجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل و هو سبحانه و تعالى كذلك يجبر كل كسير و يغني كل فقير و قيل هو الذي يجبر الخلق و يقهرهم على ما أراد: و سئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز و قيل الجبار هو الذي لا ينال و لا يداني و الجبار في صفة اللّه تعالى صفة مدح و في صفة الناس صفة ذم و كذلك الْمُتَكَبِّرُ في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر و ذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر و لا علو بل له الحقارة و الذلة فإذا أظهر الكبر كان كذابا في فعله فكان مذموما في حق الناس و أما المتكبر في صفة اللّه تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو و العظمة و لهذا قال في آخر الآية سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصا في حقه أما اللّه تعالى فله العلو و العظمة و العزة و الكبرياء فإن أظهر ذلك
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 278
كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله و قيل هو الذي تكبر عن كل سوء و قيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله و جلاله و قيل هو المتكبر عن ظلم عباده و قيل الكبر و الكبرياء الامتناع، و قيل هو ذو الكبرياء و هو الملك سبحان اللّه عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم.
[سورة الحشر (59): آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدر لما يوجده فهو سبحانه و تعالى قدر أفعاله على وجوه مخصوصة فهو راجع إلى الإرادة، و قيل المقدر لقلب الشيء بالتدبير إلى غيره الْبارِئُ أي المخترع المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود الْمُصَوِّرُ أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده و قيل معناه الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض و قيل الخالق المبدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق البارئ المنشئ لما يريد بخلقه فيظهره من العدم إلى الوجود المصور لما خلقه و أنشأه على صور مختلفة و أشكال متباينة و قيل معنى التصوير التخطيط و التشكيل فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا و إنما قدم الخالق على البارئ لأن تأثير الإرادة مقدم على تأثير القدرة و قدم البارئ على المصور لأن إيجاد الذات مقدم على إيجاد الصفات لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عن معقل بن يسار رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم و قرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر و كل به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا و من قالها حين يمسي كان كذلك» أخرجه الترمذي و قال حديث غريب و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 279
سورة الممتحنة
(مدنية و هي ثلاث عشرة آية و ثلاثمائة و ثمان و أربعون كلمة و ألف و خمسمائة و عشرة أحرف) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الممتحنة (60): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ الآية (ق) عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال «بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنا و الزبير و المقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، قال فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يا حاطب ما هذا فقال يا رسول اللّه لا تعجل علي إني كنت امرا ملصقا في قريش و لم أكن من أنفسهم و كان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم و أموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي و ما فعلته كفرا و لا ارتدادا عن ديني و لا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إنه قد شهد بدرا و ما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل اللّه عز و جل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إلى قوله سَواءَ السَّبِيلِ روضة خاخ موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة و قيل إنه موضع قريب من مكة و الأول أصح و الظعينة المرأة المسافرة سميت بذلك لملازمتها الهودج و العقاص الشعر المضفور قال المفسرون نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث و ذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أ مسلمة جئت؟ قالت لا قال أ مهاجرة جئت؟ قالت لا قال فما جاء بك؟ قالت كنتم الأهل و العشيرة و الموالي و قد ذهبت موالي و قد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني و تكسوني و تحملوني فقال لها و أين أنت من شباب مكة و كانت مغنية نائحة قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فحث عليها بني عبد المطلب فأعطوها نفقة و كسوها و حملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة و أعطاها عشرة دنانير و كساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة و كتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة و نزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 280
صلّى اللّه عليه و سلّم بما فعل فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عليا و عمارا و الزبير و طلحة و المقداد بن الأسود و أبا مرثد فرسانا فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها و خلوا سبيلها و إن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت باللّه ما معها من كتاب فبحثوا و فتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع، فقال علي و اللّه ما كذبنا و لا كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و سل السيف و قال أخرجي الكتاب و إلا لأجردنك و لأضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها و كانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها و لم يتعرضوا لها و لا لما معها و رجعوا بالكتاب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت؟ فقال و اللّه ما كفرت منذ أسلمت و لا غششتك منذ نصحتك و لا أحببتهم منذ فارقتهم و لكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا و له بمكة من يمنع عشيرته و كنت غريبا منهم و كان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ لي عندهم يدا و قد علمت أن اللّه تعالى ينزل بهم بأسه و أن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عذره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ما يدريك يا عمل لعل اللّه قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل اللّه في شأن حاطب بن أبي بلتعة: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء يعني أصدقاء و أنصارا تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بأسباب المحبة و قيل معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و سره بالمودة التي بينكم و بينهم وَ قَدْ كَفَرُوا أي و حالهم أنهم كفروا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ يعني القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي لأن آمنتم، كأنه قال يفعلون ذلك لإيمانكم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ هذا شرط جوابه متقدم و المعنى إن كنتم خرجتم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي فلا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء.
و قوله: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ أي من المودة للكفار وَ ما أَعْلَنْتُمْ أي أظهرتم بألسنتكم منها وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي الإسرار و إلقاء المودة إليهم فقال: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ طريق الهدى ثم أخبر عن عداوة الكفار فقال تعالى:
[سورة الممتحنة (60): الآيات 2 الى 5]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي يظفروا بكم و يروكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بالضرب و القتل و الشم و السب وَ وَدُّوا أي تمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي ترجعون إلى دينهم كما كفروا و المعنى أن أعداء اللّه لا يخلصون المودة لأولياء اللّه و لا يناصحونهم لما بينهم من الخلاف فلا تناصحوهم أنتم و لا توادوهم لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ أي لا يدعونكم و لا يحملنكم ذوو أرحامكم و قراباتكم و أولادكم الذين بمكة إلى خيانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين و ترك مناصحتهم و نقل أخبارهم و موالاة أعدائهم فإنه لا تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم الذين عصيتم اللّه لأجلهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي يدخل أهل طاعته الجنة و أهل معصيته النار وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ يخاطب حاطبا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 281
و المؤمنين و يأمرهم بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة و السلام، وَ الَّذِينَ مَعَهُ أي من أهل الإيمان إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ يعني المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بريء وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي جحدناكم و أنكرنا دينكم وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و المعنى أن إبراهيم عليه السلام و أصحابه تبرؤوا من قومهم و عادوهم لكفرهم فأمر حاطبا و المؤمنين أن يتأسوا بهم إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يعني لكم أن تتأسوا بإبراهيم في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك فلا تتأسوا به فإن إبراهيم كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ هذا من قول إبراهيم لأبيه يعني ما أغني عنك و لا أدفع عنك عذاب اللّه إن عصيته و أشركت به و إنما وعده بالاستغفار رجاء إسلامه و كان من دعاء إبراهيم و من معه من المؤمنين رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، و قيل معناه لا تعذبنا بأيديهم و لا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
[سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 8]