کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 300
قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يستغفر لك فلوى رأسه و قال أمرتموني أن أؤمن فآمنت و أمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم فأنزل اللّه وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ الآية و نزل.
[سورة المنافقون (63): الآيات 7 الى 9]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا عنه وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه و لا يمنعه إلا بمشيئته وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يعني أن أمر اللّه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ يعني من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ فرد اللّه عليهم بقوله وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ فعزة اللّه تعالى قهره و غلبته على من دونه و عزة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم إظهار دينه على الأديان كلها و عزة المؤمنين نصر اللّه إياهم على أعدائهم وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى و مات على نفاقه.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أي لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعني عن الصلوات الخمس و المعنى لا تشغلكم أموالكم و لا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر اللّه وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي و من شغله ماله و ولده عن ذكر اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي.
[سورة المنافقون (63): الآيات 10 الى 11]
وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ قال ابن عباس يريد زكاة الأموال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي دلائل الموت و مقدماته و علاماته فيسأل الرجعة فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي أي هلا أمهلتني و قيل لو أخرت أجلي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ أي فأزكي مالي وَ أَكُنْ و قرئ و أكون مِنَ الصَّالِحِينَ أي المؤمنين و قيل نزلت هذه الآية في المنافقين و يدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة و قيل نزلت في المؤمنين و المراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس: ما من أحد يموت و كان له مال و لم يؤد زكاته أو أطاق الحج و لم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت و قرأ هذه الآية وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي أحج و أزكي وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله و انقضت مدته وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنه لو رد إلى الدنيا و أجيب إلى ما سأل ما حج و ما زكى و قيل هو خطاب شائع لكل عامل عملا من خير أو شر، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 301
سورة التغابن
و هي مدنية في قول الأكثر و قيل هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ إلى آخر ثلاث آيات و هي ثماني عشرة آية و مائتان و إحدى و أربعون كلمة و ألف و سبعون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ يعني أنه تعالى متصرف في ملكه كيف يشاء تصرف اختصاص لا شريك له فيه و له الحمد لأن أصول النعم كلها منه و هو الذي يحمد على كل حال فلا محمود في جميع الأحوال إلا هو وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه سبحانه و تعالى يفعل ما يشاء كما يشاء بلا مانع و لا مدافع هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال ابن عباس: إن اللّه تعالى خلق بني آدم مؤمنا و كافرا ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا و كافرا (م) عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «إن اللّه خلق للجنة أهلا خلقهم لها و هم في أصلاب آبائهم و خلق للنار أهلا خلقهم لهم و هم في أصلاب آبائهم» (ق) عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «و كل اللّه بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال يا رب أ ذكر أم أنثى أ شقي أم سعيد فما الزرق فما الأجل فيكتب ذلك و هو في بطن أمه» و قال جماعة في معنى الآية إن اللّه تعالى خلق الخلق ثم كفروا و آمنوا لأن اللّه ذكر الخلق ثم وصفهم بفعلهم فقال فمنكم كافر و منكم مؤمن ثم اختلفوا في تأويلها فروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة و منكم مؤمن حياته كافر في العاقبة و قال عطاء بن أبي رباح فمنكم كافر باللّه مؤمن بالكواكب و منكم مؤمن باللّه كافر بالكواكب و قيل فمنكم كافر أي بأن اللّه خلقه و هم الدهرية و أصحاب الطبائع و منكم مؤمن أي بأن اللّه خلقه و جملة القول فيه أن اللّه تعالى خلق الكافر و كفره فعلا له و كسبا و خلق المؤمن و إيمانه فعلا له و كسبا فلكل واحد من الفريقين كسب و اختيار و كسبه و اختياره بتقدير اللّه و بمشيئته فالمؤمن بعد خلق اللّه إياه يختار الإيمان لأن اللّه تعالى أراد ذلك منه و قدره عليه و علمه منه و الكافر بعد خلق اللّه إياه يختار الكفر لأن اللّه تعالى قدر ذلك عليه و علمه منه هذا طريق أهل السنة فمن سلك هذا أصاب الحق و سلم من مذهب الجبرية و القدرية وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي أنه عالم بكفر الكافر و إيمان المؤمن.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 302
[سورة التغابن (64): الآيات 3 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي إنه أتقن و أحكم صوركم على وجه لا يوجد مثله في الحسن و المنظر من حسن القامة و المناسبة في الأعضاء و قد علم بهذا أن صورة الإنسان أحسن صورة و أكملها وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع في القيامة يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ معناه أنه لا تخفى عليه خافية فاستوى في علمه الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم قوله تعالى: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ يخاطب كفار مكة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني خبر الأمم الخالية فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي جزاء أعمالهم و هو ما لحقهم من العذاب في الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة ذلِكَ أي الذي نزل بهم من العذاب بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا معناه أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرا و ذلك لقلة عقولهم و سخافة أحلامهم و لم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فَكَفَرُوا أي جحدوا و أنكروا وَ تَوَلَّوْا أي أعرضوا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ أي عن إيمانهم و عبادتهم وَ اللَّهُ غَنِيٌ أي عن خلقه حَمِيدٌ أي في أفعاله ثم أخبر اللّه تعالى عن إنكارهم البعث فقال تعالى:
[سورة التغابن (64): الآيات 7 الى 13]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ أي قل لهم يا محمد بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَ أي يوم القيامة ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ أي لتخبرن بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أمر البعث و الحساب يوم القيامة فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ لما ذكر حال الأمم الماضية المكذبة و ما نزل بهم من العذاب قال فآمنوا أنتم باللّه و رسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني القرآن سماه نورا لأنه يهتدى به في ظلمات الضلال كما يهتدى بالنور في الظلمة وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يعني أنه مطلع عليكم عالم بأحوالكم جميعا فراقبوه و خافوه.
قوله عز و جل: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يعني يوم القيامة يجمع اللّه فيه الأولين و الآخرين و أهل السموات و أهل الأرضين ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ من الغبن و هو فوت الحظ و المراد في المجازاة و التجارة و ذلك أنه إذا أخذ الشيء بدون قيمته فقد غبن و المغبون من غبن أهله و منازله في الجنة و ذلك لأن كل كافر له أهل و منزل في الجنة لو أسلم فيظهر يومئذ غبن كل كافر يتركه الإيمان و يظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان و قيل إن قوما في النار يعذبون و قوما في الجنة ينعمون فلا غبن أعظم من هذا و قل هو غبن المظلوم للظالم لأن المظلوم مغبون في الدنيا فصار في الآخرة غابنا لظالمه و أصل الغبن في البيع و الشراء و قد ذكر اللّه في حق الكافرين «انهم خسروا و غبنوا في شرائهم فقال تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ و قال في حق المؤمنين
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 303
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ و قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فخسرت صفقة الكافرين و ربحت صفقة المؤمنين وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ على ما جاءت به الرسل من الإيمان بالبعث و الجنة و النار وَ يَعْمَلْ صالِحاً أي في إيمانه إلى أن يموت على ذلك يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بوحدانية اللّه و قدرته وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي الدالة على البعث أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بقضاء اللّه و قدره و إرادته وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق أنه لا يصيبه مصيبة من موت أو مرض أو ذهاب مال و نحو ذلك إلا بقضاء اللّه و قدره و إذنه يَهْدِ قَلْبَهُ أي يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه و ما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم لقضاء اللّه تعالى و قدره و قيل يهد قلبه للشكر عند الرخاء و الصبر عند البلاء وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ أي فيما أمر وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ أي فيما جاء به عن اللّه و ما أمركم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود و لا مقصود إلا هو وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .
[سورة التغابن (64): الآيات 14 الى 16]
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ عن ابن عباس قال هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة و أرادوا أن يأتوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فأبى أزواجهم و أولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فلما أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الآية أخرجه الترمذي و قال حديث حسن صحيح و عنه قالوا لهم صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم فأطاعوهم و تركوا الهجرة فقال تعالى فاحذروهم أي أن تطيعوهم و تدعوا الهجرة وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا هذا فيمن أقام على الأهل و الولد و لم يهاجر ثم هاجر فرأى الذين قد سبقوه بالهجرة فقد فقهوا في الدين فهم أن يعاقب زوجته و ولده الذين ثبطوه و منعوه عن الهجرة لما لحقوا به و لا ينفق عليهم و لا يصيبهم بخير فأمره اللّه بالعفو و الصفح عنهم و قال عطاء بن يسار نزلت في عوف بن مالك الأشجعي و كان ذا أهل و ولد فإذا أراد أن يغزو بكوا عليه و رققوه و قالوا إلى من تدعنا فيرق عليهم فيقيم فأنزل اللّه تعالى إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم بحملهم إياكم على ترك طاعة اللّه فاحذروهم أي أن تقبلوا منهم و إن تعفوا و تصفحوا و تغفروا أي فلا تعاقبوهم على خلافكم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء و اختبار و شغل عن الآخرة و قد يقع الإنسان بسببهم في العظائم و منع الحق و تناول الحرام و غصب مال الغير و نحو ذلك وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني الجنة و المعنى لا تباشروا المعاصي بسبب أولادكم و لا تؤثروهم على ما عند اللّه من الأجر العظيم قال بعضهم لما ذكر اللّه العداوة أدخل من للتبعيض فقال إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم لأنهم كلهم ليسوا بأعداء و لم يذكر من في قوله إنما أموالكم و أولادكم فتنة لأنهم لم يخلوا من الفتنة و اشتغال القلب بهم و كان عبد اللّه بن مسعود يقول لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى أهل و مال و ولد إلا يشتمل على فتنة و لكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 304
عن بريدة رضي اللّه تعالى عنه قال «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يخطبنا فجاء الحسن و الحسين و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال صدق اللّه إنما أموالكم و أولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما» أخرجه الترمذي و قال حديث حسن غريب.
و قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ما أطقتم و هذه الآية ناسخة لقوله «اتقوا اللّه حق تقاته» وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا أي للّه و لرسوله فيما يأمركم به و ينهاكم عنه وَ أَنْفِقُوا أي من أموالكم حق اللّه الذي أمركم به خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي ما أنفقتم في طاعة اللّه وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تقدم تفسيره.
[سورة التغابن (64): الآيات 17 الى 18]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً القرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيبة نفس يعني إن تقرضوا أي تنفقوا في طاعة اللّه متقربين إليه بالإنفاق يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يجزكم بالضعف إلى سبعمائة إلى ما يشاء من الزيادة وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ يعني يحب المتقربين إليه حَلِيمٌ أي لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 305
سورة الطلاق
مدنية و هي اثنتا عشرة آية و مائتان و تسع و أربعون كلمة و ألف و ستون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الطلاق (65): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نادى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ثم خاطب أمته لأنه المقدم عليهم فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب و قيل معناه يا أيها النبي قل لأمتك فأضمر القول إذا طلقتم النساء أي إذا أردتم تطليقهن فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ أي لزمان عدتهن و هو الطهر لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها و تحصل في العدة عقيب الطلاق فلا يطول عليها زمان العدة و كان ابن عباس و ابن عمر يقرآن فطلقوهن في قبل عدتهن و هذا في المدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض (ق) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما «أنه طلق امرأته و هي حائض فذكر ذلك عمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فتغيظ منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم قال: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر اللّه أن يطلق لها النساء» زاد في رواية «كان عبد اللّه طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها و راجعها عبد اللّه كما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم» و في رواية لمسلم «إنه طلق امرأته و هي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» و لمسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع عبد الرّحمن بن أيمن مولى عروة يسأل عمر و أبو الزبير يسمع كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال «طلق ابن عمر امرأته و هي حائض على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم ليراجعها فردها و قال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قال ابن عمر و قرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن» «1» .
(فصل) اعلم أن الطلاق في حال الحيض و النفاس بدعة و كذلك في الطهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و إن شاء طلق قبل أن يمس، و الطلاق السني أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه و هذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض أو طلق الصغيرة التي لم تحض أو الآيسة بعد ما جامعها أو طلق
(1) قوله في قبل عدتهن. قال في شرح مسلم هي قراءة ابن عباس و ابن عمر و هي شاذة لا تثبت قرآنا بالإجماع و لا يكون لها حكم خبر الواحد عندنا ا ه.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 306
الحامل بعد ما جامعها أو طلق التي لم تر الدم لا يكون بدعيا و لا سنة، و لا بدعة في طلاق هؤلاء لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» و الخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعيا لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته قبل أن يعرف حالها و لو لا جوازه في جميع الأحوال لأمره أن يتعرف الحال؛ و لو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدا عصى اللّه تعالى و وقع الطلاق لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمر ابن عمر بالمراجعة فلو لا وقوع الطلاق لم يأمره بالمراجعة، و إذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في حال الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس كما رواه يونس بن جبير و أنس بن سيرين عن ابن عمر و لم يقولا ثم تحيض ثم تطهر و ما رواه نافع عن ابن عمر ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فأمر استحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا تكون مراجعته إياها للطلاق كما أنه يكره النكاح للطلاق، و لا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم فلو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثا لا يكون بدعيا و هو قول الشافعي و أحمد و ذهب بعضهم إلى أنه بدعة و هو قول مالك و أصحاب الرأي.
قوله تعالى: وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ أي عدة أقرائها فاحفظوها؛ قيل أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا، و قيل للعلم ببقاء زمان الرجعة و مراعاة أمر النفقة و السكنى وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أي و اخشوا اللّه و لا تعصوه فيما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ يعني إذا كان المسكن الذي طلقها فيه الزوج له بملك أو إكراء و إن كان عارية فارتجعت كان على الزوج أن يكري لها منزلا غيره و لا يجوز للزوج أن يخرج المرأة من المسكن الذي طلقها فيه وَ لا يَخْرُجْنَ يعني و لا يجوز للمرأة أن تخرج ما لم تنقض عدتها لحق اللّه تعالى فإن خرجت لغير ضرورة أثمت فإن وقعت ضرورة بأن خافت هدما أو غرقا جاز لها أن تخرج إلى منزل آخر و كذلك إذا كان لها حاجة ضرورية من بيع غزل أو شراء قطن جاز لها الخروج نهارا و لا يجوز ليلا، يدل على ذلك أن رجالا استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم نستوحش في بيوتنا فأذن لهن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها و أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لخالة جابر و قد كان طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها فإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة و راجعة و البدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.
و قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس: الفاحشة المبينة بذاءتها على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها و قيل أراد بالفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ثم ترد إلى منزلها يروى ذلك عن ابن مسعود و قيل معناه إلا أن يطلقها على نشوزها فلها أن تتحول من بيت زوجها و الفاحشة النشوز و قيل خروجها قبل انقضاء عدتها فاحشة وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني ما ذكر من سنة الطلاق و ما بعده من الأحكام وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي فيطلق لغير السنة أو تجاوز هذه الأحكام فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ضر نفسه لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة و الطلقتين و هذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات و لا يوقع الثلاث دفعة واحدة حتى إذا ندم أمكنه المراجعة.