کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 465
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كرره توكيدا و المعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم و تفاخركم إذا نزل بكم الموت، فهو وعيد بعد وعيد، و قيل معناه كلا سوف تعلمون يعني الكافرين ثم كلا سوف تعلمون يعني المؤمنين و صاحب هذا القول يقرأ الأولى بالياء و الثانية بالتاء. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينا و جواب لو محذوف و المعنى لو تعلمون علما يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التّكاثر و التّفاخر، قال قتادة كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن اللّه باعثه بعد الموت لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ اللام تدل على أنه جواب قسم محذوف و القسم لتوكيد الوعيد، و إن ما أوعدوا به لا يدخله شك و لا ريب، و المعنى أنكم ترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت ثُمَّ لَتَرَوُنَّها يعني مشاهدة عَيْنَ الْيَقِينِ و إنما كرر الرّؤية لتأكيد الوعيد ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ يعني أن كفار مكة كانوا في الدّنيا في الخير و النعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه لأنهم لم يشكروا رب النّعيم حيث عبدوا غيره ثم يعذبون على ترك الشكر، و ذلك لأن الكفار لما ألهاهم التّكاثر بالدّنيا، و التّفاخر بلذاتها عن طاعة اللّه و الاشتغال بشكره سألهم عن ذلك، و قيل إن هذا السّؤال يعم الكافر، و المؤمن، و هو الأولى لكن سؤال الكافر توبيخ، و تقريع لأنه ترك شكر ما أنعم اللّه به عليه، و المؤمن يسأل سؤال تشريف و تكريم لأنه شكر ما أنعم اللّه به عليه، و أطاع ربه فيكون السّؤال في حقه تذكرة بنعم اللّه عليه. يدل على ذلك ما روي «عن الزّبير قال لما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير: يا رسول اللّه و أي نعيم نسأل عنه و إنما هما الأسودان التّمر و الماء قال أما أنه سيكون» أخرجه الترمذي و قال حديث حسن و اختلفوا في النعيم الذي يسأل البعد عنه، فروي عن ابن مسعود رفعه قال لتسألن يومئذ عن النّعيم قال الأمن، و الصحة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك و نروك من الماء البارد» أخرجه التّرمذي و قال حديث غريب (م) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال «خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر و عمر فقال صلّى اللّه عليه و سلّم ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة، قالا الجوع يا رسول اللّه قال و أنا و الذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، فقوموا فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبا و أهلا، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أين فلان قالت ذهب يستعذب لنا الماء إذا جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و صاحبيه ثم قال: الحمد للّه ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، و تمر، و رطب فقال: كلوا و أخذ المدية فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إياك و الحلوب، فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة و من ذلك العذق و شربوا فلما شبعوا و رووا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأبي بكر و عمر و الذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النّعيم» و أخرجه التّرمذي بأطول من هذا «و فيه ظل بارد و رطب طيب و ماء بارد» و روي عن ابن عباس قال: النّعيم صحة الأبدان و الأسماع و الأبصار يسأل اللّه العبيد يوم القيامة فيم استعملوها و هو أعلم بذلك منهم، و قيل يسأل عن الصحة و الفراغ و المال (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة و الفراغ»، و قيل الذي يسأل العبد عنه هو القدر الزائد على ما يحتاج إليه فإنه لا بد لكل أحد من مطعم، و مشرب، و ملبس، و مسكن، و قيل يسأل عن تخفيف الشرائع و تيسير القرآن، و قيل عن الإسلام فإنه أكبر النّعم، و قيل يسأل عما أنعم به عليكم و هو محمد صلّى اللّه عليه و سلّم الذي أنقذكم به من الضّلال إلى الهدى، و النّور و امتنّ به عليكم و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 466
سورة العصر
مكية قاله ابن عباس و الجمهور و قيل هي مدنية و هي ثلاث آيات و أربع عشر كلمة و ثمانية و ستون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عزّ و جلّ: وَ الْعَصْرِ قال ابن عباس: هو الدّهر قيل أقسم اللّه به لما فيه من العبر، و العجائب للنّاظر و قد ورد في الحديث «لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر» و ذلك لأنهم كانوا يضيفون النّوائب و النّوازل إلى الدهر، فأقسم به تنبيها على شرفه و أن اللّه هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النّوائب و النّوازل كان بقضاء اللّه و قدره، و قيل تقديره و رب العصر، و قيل أراد بالعصر اللّيل و النّهار لأنهما يقال لهما العصران، فنبه على شرف الليل و النهار لأنهما خزانتان لأعمال العباد، و قيل أراد بالعصر آخر طرفي النهار أقسم بالعشي كما أقسم بالضّحى، و قيل أراد صلاة العصر أقسم بها لشرفها و لأنها الصّلاة الوسطى في قول بدليل قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى لما قيل هي صلاة العصر و الذي في مصحف عائشة رضي اللّه عنها و حفصة و الصّلاة الوسطى صلاة العصر و في الصحيحين «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» و قال صلّى اللّه عليه و سلّم «من فاتته صلاة العصر فكأنما و تر أهله و ماله»، و قيل أراد بالعصر زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أقسم بزمانه كما أقسم بمكانه في قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ نبه بذلك على أنه زمانه أفضل الأزمان و أشرفها، و جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي لفي خسران و نقصان قيل أراد بالإنسان جنس الإنسان بدليل قولهم كثر الدرهم في أيدي الناس أي الدرهم و ذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران، لأن الخسران هو تضييع عمره و ذلك لأن كل ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون تلك السّاعة في طاعة أو معصية، فإن كانت في معصية فهو الخسران المبين الظاهر و إن كانت في طاعة، فلعل غيرها أفضل و هو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعا و خسرانا، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران، و قيل إن سعادة الإنسان في طلب الآخرة و حبها و الإعراض عن الدّنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى حب الآخرة خفية، و الأسباب الدّاعية إلى حب الدّنيا ظاهرة، فلهذا السبب كان أكثر الناس مشتغلين بحب الدّنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في خسار و بوار قد أهلكوا أنفسهم بتضييع أعمارهم، و قيل أراد بالإنسان الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين فقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني فإنهم ليسوا في خسر، و المعنى أن كل ما مر من عمر الإنسان في طاعة اللّه تعالى فهو في
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 467
صلاح و خير و ما كان بضده فهو في خسر و فساد و هلاك. وَ تَواصَوْا أي أوصى بعض المؤمنين بعضا بِالْحَقِ يعني بالقرآن و العمل بما فيه، و قيل بالإيمان و التّوحيد وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي على أداء الفرائض و إقامة أمر اللّه و حدوده، و قيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدّنيا و هرم لفي نقص و تراجع إلا الذين آمنوا، و عملوا الصّالحات فإنهم تكتب أجورهم و محاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم و صحتهم و هي مثل قوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 468
سورة الهمزة
مكية و هي تسع آيات و ثلاثون كلمة و مائة و ثلاثون حرفا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الهمزة (104): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قوله عزّ و جلّ: وَيْلٌ أي قبح، و قيل اسم واد في جهنم لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال ابن عباس هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب و قيل معناهما واحد و هو العياب المغتاب للناس في بعضهم قال الشاعر:
إذا لقيتك من كره تكاشرني
و إن تغيبت كنت الهامز اللمزا
و قيل بل يختلف معناهما فقيل الهمزة الذي يعيبك في الغيب، و اللّمزة الذي يعيبك في الوجه، و قيل هو على ضده، و قيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده و يضربهم، و اللّمزة الذي يلمزهم بلسانه و يعيبهم، و قيل هو الذي يهمز بلسانه و يلمز بعينه، و قيل الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، و اللمزة الذي يرمق بعينه و يشير برأسه و يرمز بحاجبه، و قيل الهمزة المغتاب للناس و اللمزة الطعان في أنسابهم و حاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد، و هو الطعن و إظهار العيب و أصل الهمز الكسر و القبض على الشيء بالعنف، و المراد منه هنا الكسر من أعراض الناس و الغض منهم، و الطعن فيهم، و يدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم، و أفعالهم، و أصواتهم ليضحكوا منه، و هما نعتان للفاعل على نحو سخرة و ضحكة للذي يسخر و يضحك من الناس، و اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب. كان يقع في الناس و يغتابهم و قال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي، و قيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم من ورائه و يطعن عليه في وجهه، و قيل نزلت في العاص بن وائل السّهمي، و قيل هي عامة في كل شخص هذه صفته كائنا من كان، و ذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ و الحكم، و من قال إنها في أناس معينين قال أن يكون اللّفظ عاما لا ينافي أن يكون المراد منه شخصا معينا و هو تخصيص العام بقرينة العرف و الأولى أن تحمل على العموم في كل من هذه صفته ثم وصفه فقال تعالى:
[سورة الهمزة (104): الآيات 2 الى 9]
الَّذِي جَمَعَ مالًا و إنما وصفه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب و العلة في الهمز و اللمز يعني و هو بإعجابه بما جمع من المال يستصغر الناس و يسخر منهم، و إنما نكر مالا لأنه بالنسبة إلى مال هو أكثر منه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 469
كالشّيء الحقير و إن كان عظيما عند صاحبه فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر بالشيء الحقير وَ عَدَّدَهُ أي أحصاه من العدد، و قيل هو من العدة أي استعده و جعله ذخيرة و غنى له يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أنه يخلد في الدّنيا و لا يموت ليساره و غناه قال الحسن ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت و معناه أن الناس لا يشكون في الموت مع أنهم يعملون عمل من يظن أنه يخلد في الدّنيا و لا يموت كَلَّا رد عليه أي لا يخلده ماله بل يخلده ذكر العلم، و العمل الصّالح و منه قول علي: مات خزان المال، و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر، و قيل معناه حقا لَيُنْبَذَنَ و اللام في لينبذن جواب القسم فدل ذلك على حصول معنى القسم، و معنى لينبذن ليطرحن فِي الْحُطَمَةِ أي في النار، و هو اسم من أسمائها مثل سقر و لظى، و قيل هو اسم للدركة الثانية منها و سميت حطمة لأنها تحطم العظام و تكسرها، و المعنى يا أيّها الهمزة اللمزة الذي يأكل لحوم الناس، و يكسر من أعراضهم إن وراءك الحطمة التي تأكل اللحوم و تكسر العظام وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ أي نار لا كسائر النيران نارُ اللَّهِ إنما أضافها إليه على سبيل التفخيم و التعظيم لها الْمُوقَدَةُ أي لا تخمد أبدا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «أوقد على النّار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» أخرجه التّرمذي قال و يروى عن أبي هريرة موقوفا و هو أصح الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي يبلغ ألمها و وجعها إلى القلوب، و المعنى أنها تأكل كل شيء حتى تنتهي إلى الفؤاد، و إنما خص الفؤاد بالذكر لأنه ألطف شيء في بدن الإنسان، و أنه يتألم بأدنى شيء، فكيف إذا اطلعت عليه و استولت عليه، ثم إنه مع لطافته لا يحترق إذ لو احترق لمات صاحبه، و ليس في النار موت، و قيل إنما خصه بالذكر لأن القلب موطن الكفر، و العقائد، و النيات الفاسدة. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قال ابن عباس: أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد و في أعناقهم السلاسل سدت عليهم بها الأبواب، و قال قتادة: بلغنا أنهم عمد يعذبون بها في النّار، و قيل هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، و المعنى أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممدودة، و قيل أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها و حرها، فلا ينفتح عليهم باب، و لا يدخل عليهم روح، و ممددة صفة العمد، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة نعوذ باللّه من النار، و حرها و اللّه سبحانه و تعالى أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 470
سورة الفيل
مكية و هي خمس آيات و عشرون كلمة و ستة و تسعون حرفا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الفيل (105): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
قوله عزّ و جلّ: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ كانت قصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، و عكرمة عن ابن عباس، و ذكره الواقدي أن النجاشي ملك الحبشة كان بعث أرياط إلى اليمن، فغلب عليها فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة بن الصّباح بن يكسوم، فساخط أرياط في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين، فكان طائفة مع أرياط، و طائفة مع أبرهة، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط، و اجتمعت الحبشة لأبرهة، و غلب على اليمن، و أقره النّجاشي على عمله، ثم إن أبرهة رأى النّاس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت اللّه عزّ و جلّ، فبنى كنيسة بصنعاء، و كتب إلى النّجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، و لست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج لها ليلا، فدخل و تغوط فيها و لطّخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من اجترأ عليّ، فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، و سأله أن يبعث إليه بفيله، و كان له فيل يقال له محمود، و كان فيلا لم ير مثله عظما، و جسما، و قوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائرا إلى مكة، و خرج معهم الفيل، فسمعت العرب بذلك، فعظموه و رأوا جهاده حقا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتلوه فهزمه أبرهة، و أخذ ذا نفر فقال يا أيها الملك استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي فاستحياه و أوثقه و كان أبرهة رجلا حليما، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم، خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم و من اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم، و أخذ نفيلا فقال نفيل أيها الملك إني دليل بأرض العرب، و هاتان يداي على قومي بالسمع و الطّاعة، فاستبقاه و خرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال: أيّها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال و هو الذي يرجم قبره، و بعث أبرهة رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مسعود على مقدمة خيله، و أمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود أموال أصحاب الحرم، و أصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل بحناطة الحميري إلى أهل مكة، و قال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال له إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال، إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال و لا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 471
لنا به يد إنا سنخلي بينه و بين ما جاء له، فإن هذا بيت اللّه الحرام، و بيت إبراهيم خليله عليه الصّلاة و السّلام، فإن يمنعه فهو بيته و حرمه و إن يخل بينه و بين ذلك فو اللّه ما لنا به قوة قال فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، و ركب معه بعض بنيه حتى قدم على العسكر، و كان ذو نفر صديقا لعبد المطلب، فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ قال فما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية، و لكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، و يعظم خطرك، و منزلتك عنده قال فأرسل إلى أنيس، فأتاه فقال، له إن هذا سيد قريش، و صاحب عير مكة يطعم النّاس في السّهل، و الوحوش في رؤوس الجبال، و قد أصاب الملك له مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده، فانفعه فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش، و صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السّهل، و الوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، و أنا أحب أن تأذن له، فيكلمك فقد جاء غير ناصب، و لا مخالف عليك، فأذن له و كان عبد المطلب رجلا جسيما، و سيما فلما رآه أبرهة عظمه، و أكرمه، و كره أن يجلس معه على السرير و أن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه، فأجلسه معه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك إلى الملك فقال الترجمان: ذلك له فقال له عبد المطلب حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه قل له كنت أعجبتني حين رأيتك، و لقد زهدت الآن فيك قال لم قال جئت إلى بيت هو دينك، و دين آبائك، و هو شرفكم، و عصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه، و تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، و لهذا البيت رب سيمنعه منك، قال ما كان ليمنعه مني قال فأنت و ذاك فأمر بإبله فردت عليه، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشا الخبر و أمرهم أن يتفرقوا في الشّعاب و يتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفا عليهم من معرة الحبش، ففعلوا و أتى عبد المطلب الكعبة، و أخذ حلقة الباب و جعل يقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
امنعهم أن يخربوا قراكا
و قال أيضا:
لا هم إن العبد يمنع
رحله فامنع رحالك
و انصر على آل الصليب
و عابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم
و محالهم عدوا محالك
جروا جموع بلادهم
و الفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلا و ما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم و
كعبتنا فأمر ما بدا لك