کتابخانه تفاسیر
مجاز القرآن، ج1، ص: 19
ما خبّر عن اثنين أو أكثر من ذلك، فجعل الخبر للأول منهما، و مجاز ما خبّر عن اثنين أو عن أكثر من ذلك، فجعل الخبر للآخر منهما، و مجاز ما جاء من لفظ خبر الحيوان و الموات على لفظ خبر الناس؛ و الحيوان كل ما أكل من غير الناس و هى الدواب كلّها، و مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب و معناه مخاطبة الشاهد، و مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت و حوّلت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، و مجاز ما يزاد من حروف الزوائد و يقع مجاز الكلام على إلقائهن، و مجاز المضمر استغناء عن إظهاره، و مجاز المكرر للتوكيد، و مجاز المجمل استغناء عن كثرة التكرير، و مجاز المقدّم و المؤخّر، و مجاز ما يحوّل من خبره إلى خبر غيره بعد أن يكون من سببه، فيجعل خبره للذى من سببه و يترك هو. و كل هذا جائز قد تكلموا به.
مجاز القرآن، ج1، ص: 20
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أمّ الكتاب (1)
مجاز تفسير ما فى سورة «الحمد» و هى «أم الكتاب» لأنه يبدأ بكتابتها فى المصاحف قبل سائر القرآن، و يبدأ بقراءتها قبل كلّ سورة فى الصلاة؛ و إنما سمّيت سورة لا تهمز، لأن مجازها من سورة البناء أي منزلة ثم منزلة، و من همزها جعلها قطعة من القرآن، و سميت السورة لأنها مقطوعة من الأخرى، فلما قرن بعضها إلى بعض سمّى قرآنا. قال النّابغة:
ألم تر أن اللّه أعطاك سورة
ترى كلّ ملك دونها يتذبذب (2 )
أي منزلة، و بعض العرب يهمز سورة، و يذهب إلى «أسأرت». نقول:
هذه ليست من تلك.
فمجاز تفسير قوله «بسم اللّه» مضمر، مجازه كأنك قلت: بسم اللّه قبل كل شىء و أول شىء و نحو ذلك، قال عبد اللّه بن رواحة:
بسم الإله و به بدينا
و لو عبدنا غيره شقينا
«1»
(1): عبد اللّه بن رواحة: بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن مالك ...
ابن الخزرج الأنصاري الخزرجي الشاعر المشهور يكنى أبا محمد، و يقال: كنيته أبو رواحة. ترجمته فى الإصابة 4/ 448، رقم 09044- و الرجز من كلمة روى بعضها البخاري فى غزوة الخندق، و مسلم فى غزوة الأحزاب، كان رسول اللّه (صلعم) يرتجز بها فى يوم الأحزاب إذ كان ينقل تراب الخندق، و ورد أيضا فى الجمهرة 3/ 202، اللسان (بدا). العيني 4/ 28.
مجاز القرآن، ج1، ص: 21
يقال: بدأت و بديت، و بعضهم يقول: بدينا لغة.
«الرّحمن» مجازه ذو الرحمة، و «الرّحيم» مجازه الراحم، و قد يقدّرون اللفظين من لفظ واحد و المعنى واحد، و ذلك لاتّساع الكلام عندهم، و قد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان و نديم، «1» قال برج بن مسهر الطائىّ، جاهلى:
و ندمان يزيد الكأس طيبا
سقيت و قد تغوّرت النجوم
«2» و قال النعمان بن نضلة، عدوىّ من عدى قريش:
فإن كنت ندمانى فبالأكبر اسقني
و لا تسقنى بالأصغر المتثلم
«3»
(1). (2- 4) «مجازه ... و نديم»: نقله الطبري 1/ 43- 44 ثم قال: و قد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، و قلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير (يريد أبا عبيدة) أن الرحمن مجازه ذو الرحمة، و الرحيم مجازه الراحم، ثم قال: و قد فعلوا مثل ذلك فقالوا: ندمان و نديم، ثم استشهد بقول برج ...، و استشهد بأبيات نظائر له فى النديم و الندمان، ففرق بين معنى الرحمن و الرحيم فى التأويل لقوله الرحمن ذو الرحمة و الرحيم الراحم، و إن كان قد ترك بيان تأويل معنييهما على صحته.
(2) برج: هو برج بن مسهر بن الجلاس أحد بنى جديلة ثم أحد بنى طريف بن عمرو ابن ثمامة، شاعر عاش فى عهد بنى أمية، له ترجمة فى المؤتلف 61، و أخباره مع أخبار الحصين بن الحمام فى الأغانى 12/ 121.- و البيت فى الطبري 1/ 44، المؤتلف 61، الأغانى 12/ 121، اللسان (عرق)، و شواهد المغني 98.
(3) النعمان: هو النعمان بن عدى بن نضلة كان عاملا على ميسان فى عهد عمر رضى اللّه عنه فعزله. انظر خبره فى السيرة (جوتنجن) 786 و السمط 745 و الاستيعاب 3/ 563 و تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 0117- و البيت مذكور فى ترجمته، و فى الاشتقاق 86 و العقد الفريد 4/ 339 و القرطبي 13/ 149 و اللسان و التاج (ندم) و نهاية الأرب 4/ 101.
مجاز القرآن، ج1، ص: 22
و قال بريق الهذلىّ عدوىّ من عدى قريش:
رزينا أبا زيد و لا حىّ مثله
و كان أبو زيد أخى و نديمى «1»
و قال حسّان بن ثابت:
لا أخدش الخدش و لا
يخشى نديمى إذا انتشيت يدى «2»
«رَبِّ الْعالَمِينَ» (1) أي المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة:
ما إن رأيت و لا سمعت بمثلهم فى العالمينا «3»
و واحدهم عالم، و قال العجّاج:
فخندف هامة هذا العالم «4»
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «5» (2) نصب على النّداء، و قد تحذف ياء النداء، مجازه:
(1) بريق: هو عياض بن خويلد الهذلي يلقب بالبريق، حجازى مخضرم، و له مع عمر بن الخطاب خبر، انظر معجم المرزباني 68.- و البيت فى ديوان الهذليين 3/ 61- و اللسان (ندم).
(2) ديوانه 112.
(3) البيت فى الجزء الثاني من ديوانه رقم 63.
(4) ديوانه 60- السمط 457، القرطبي 1/ 120.
(5) «الدين ... تدان» (ص 23 س 3): أورد هذا الكلام فى فتح الباري 8/ 119، منسوبا إلى أبى عبيدة، و هو فى البخاري باختلاف يسير. و انظره فى عمدة القاري 8/ 458.
مجاز القرآن، ج1، ص: 23
يا مالك يوم الدين، لأنه يخاطب شاهدا، ألا تراه يقول: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» (4) فهذه حجة لمن نصب، و من جره قال: هما كلامان.
«الدِّينِ» (2) الحساب و الجزاء، يقال فى المثل: «كما تدين تدان»، «1» و قال ابن نفيل
و اعلم و أيقن أنّ ملكك زائل
و اعلم بأنّ كما تدين تدان «2»
و مجاز من جرّ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أنه حدث عن مخاطبة غائب، ثم رجع فخاطب شاهدا فقال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا» (5)، قال عنترة بن شدّاد العبسىّ:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علىّ طلا بك ابنة مخرم «3»
(1) «كما ... تدان»: هذا المثل فى الكامل 185، الجمهرة 2/ 306، جمهرة الأمثال 2/ 154، الميداني 2/ 273، اللسان، التاج (دين)، الفرائد 2/ 122.
(2) ابن نفيل: هو يزيد بن الصعق الكلابي، و اسم الصعق: عمرو بن خويلد ابن نفيل بن عمرو بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. و قال أبو عبيدة (النقائض 759): و إنما سمى الصعق لقدومه بالموسم، فهبت الريح فألقت فى فيه التراب فلعنها فرمى بصاعقة فمات. انظر ترجمته فى معجم المرزباني 494.
- و البيت فى الكامل 185، و الطبري 1/ 51، و الجمهرة 2/ 306، و اللسان، و التاج (دين).
(3) هذا البيت من معلقته و هو فى ديوانه فى الستة 45 و شرح العشر 91.
مجاز القرآن، ج1، ص: 24
و قال أبو كبير الهذلىّ:
يا لهف نفسى كان جدّة خالد
و بياض وجهك للتّراب الأعفر «1»
و مجاز «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» : إذا بدىء بكناية المفعول قبل الفعل جاز الكلام، فإن بدأت بالفعل لم يجز، كقولك: نعبد إياك، قال العجّاج:
إيّاك أدعو فتقّبل ملقى «2»
و لو بدأت بالفعل لم يجز كقولك: أدعو إيّاك، محال، فإن زدت الكناية فى آخر الفعل جاز الكلام: أدعوك إياك.
«الصِّراطَ» (5): الطريق، المنهاج الواضح، قال:
فصدّ عن نهج الصّراط القاصد «3»
و قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوجّ الموارد مستقيم «4»
(1) من كلمة فى ديوانه 19 بيتا 2/ 101 (القاهرة)- و الطبري 1/ 51.
(2) ديوانه 40، الجمهرة 3/ 163، و اللسان، التاج (ملق)
(3) الشطر فى الطبري 1/ 56 و القرطبي 1/ 128.
(4) ديوانه 507- و الطبري 1/ 56 و الجمهرة 2/ 330 و اللسان (سرط) و القرطبي 1/ 128.
مجاز القرآن، ج1، ص: 25
و الموارد: الطرق، ما وردت عليه من ماء، و كذلك القرىّ و قال:
وطئنا أرضهم بالخيل حتى
تركناهم أذلّ من الصراط «1»
«غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ» (7) مجازها: غير المغضوب عليهم و الضالين، و «لا» من حروف «2» الزوائد لتتميم الكلام، و المعنى إلقاؤها، و قال العجاج:
فى بئر لا حور سرى و ما شعر «3»
(1) نسب الطبري هذا البيت إلى أبى ذؤيب، و القرطبي (1/ 128) إلى عامر بن الطفيل، و السيوطي (الإتقان 1/ 155) إلى عبيد بن الأبرص و لم أجده فى دواوينهم.
(2) «و لا من حروف ... إلخ» قال الطبري 1/ 61: كان بعض أهل البصرة يزعم أن «لا» مع الضالين أدخلت تتميما للكلام، و المعنى إلغاؤها؛ و يستشهد على قيله ببيت العجاج ... و يتأول معنى: «فى بئر لا حور سرى» أي فى بئر هلكة و إن «لا» بمعنى الإلغاء و الصلة، و يعتل أيضا لذلك بقول أبى النجم .. يعنى الطبري بهذا القول أبا عبيدة؛ و يروى تفسير هذه الآية كلها مع ما استشهد به و يرد القول عليه و يصوب أقوال بعض النحويين الكوفيين. و سترى كثيرا أنه يروى قول أبى عبيدة، أو يرد عليه و لا يصرح باسمه، يقول مثلا: «قال بعض أهل البصرة»، «و بعض أهل الغريب من أهل البصرة»، «و بعض أهل العلم بالعربية» و لا يسميه إلا فى مواضع يسيرة جدا، و سترى الطبري كثيرا ما يتطاول عليه، و ينسبه إلى الجهل بتأويل أهل التأويل أو ما يشبه ذلك، و هو أحيانا يضرب فى حديد بارد و ينفخ فى غير ضرم.