کتابخانه تفاسیر
محاسن التاويل
الجزء الأول
تمهيد خطير في قواعد التفسير
10 - قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
11 - قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثالث
سورة النساء
القول في تأويل قوله تعالى:[سورة النساء(4): آية 158]
الجزء الرابع
سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الخامس
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء السادس
سورة يونس
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء السابع
سورة الكهف
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
الجزء الثامن
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت(حم السجدة)
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
الجزء التاسع
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الفجر
سورة البلد
محاسن التاويل، ج1، ص: 86
المنقولة بالآحاد. كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد. و هو أضعف. و إنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه، أو دينا يدان الله به، فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم.
فصل في أقسام العلوم المضافة إلى القرآن
قال الشاطبيّ: العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام:
قسم هو كالأداة لفهمه و استخراج ما فيه من الفوائد و المعين على معرفة مراد الله تعالى منه، كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها و علم القراآت و الناسخ و المنسوخ و قواعد أصول الفقه و ما أشبه ذلك. فهذا لا نظر فيه هنا. و لكن قد يدعي فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن و أنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة. فإن علم العربية أو علم الناسخ و المنسوخ و علم الأسباب و علم المكّي و المدنيّ و علم القراآت و علم أصول الفقه معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن. و أما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا. و لا يكون كذلك. كما تقدم في حكاية الرازيّ في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6]. و زعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه ب (فصل المقال فيما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال) أن علوم الفلسفة مطلوبة. إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها.
و لو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة. و شاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم. هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع. بتحققهم بفهم القرآن. يشهد لهم بذلك النبي صلى اللّه عليه و سلم و الجم الغفير. فلينظر امرؤ أين يضع قدمه.
و ثمّ أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور و لا ينبئك مثل خبير. فأبو حامد ممن فتل هذه الأمور خبرة و صرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه.
و قسم هو مأخوذ من جملته، من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو. و ذلك ما فيه من دلالة النبوة. و هو كونه معجزة لرسول الله صلى اللّه عليه و سلم. فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ
محاسن التاويل، ج1، ص: 87
منه الأحكام الشرعية. إذ لم تنص آياته و سوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر و النهي و غيرهما. و إنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله. و ذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، و لا سورة دون سورة، و لا نمط منه دون آخر. بل ماهيته هي المعجزة له حسبما نبه عليه
قوله عليه السلام: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر. و إنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»
فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه السلام. و فيها عجز الفصحاء اللسن و الخصماء اللّدّ عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه. و وجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع. لأنه كيما تصور الإعجاز به، فماهيته هي الدالة على ذلك. فإلى أي نحو منه ملت دلّك على صدق رسول الله صلى اللّه عليه و سلم. فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا و موضعه كتب الكلام.
و قسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله و خطاب الخلق به و معاملته لهم بالرفق و الحسنى، من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم مع أنه المنزه القديم.
و كونه تنزل لهم بالتقريب و الملاطفة و التعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف و الخيرات. و هذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم. و ينبني صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد. و هو أصل التخلق بصفات الله و الاقتداء بأفعاله. و يشتمل على أنواع من القواعد الأصلية و الفوائد الفرعية و المحاسن الأدبية.
فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد. فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار.
و دلّ على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] فجرت عادته في خلقه أن لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل.
فإذا قامت الحجة عليهم. فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر. و لكل جزاء مثله، و منها الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق. فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه. و زاد على يدي رسوله عليه السلام من المعجزات ما فيه بعض الكفاية.
و منها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، و الحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب، مع تماديهم على الإباية و الجحود، بعد وضوح البرهان، و إن استعجلوا به.
و منها تحسين العبارة بالكناية و نحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحي من ذكره في عادتنا. كقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ* [النساء: 43].
وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: 12]. و قوله:
محاسن التاويل، ج1، ص: 88
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، و حضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به، فلا بد منه. و إليه الإشارة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ [الأحزاب: 53].
و منها التأني في الأمور و الجري على مجرى التثبت و الأخذ بالاحتياط، و هو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى اللّه عليه و سلم نجوما في عشرين سنة، حتى قال الكفار: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32]. فقال الله:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ . و قال: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106]. و في هذه المدة كان الإنذار يترادف و الصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة و إلى كل محتاج إليه.
و حين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر، بدءوا بالتغليظ بالدعاء. فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا. حكمة بالغة و ترتيبا يقتضيه العدل و الإحسان. حتى إذا كمل الدين و دخل الناس فيه أفواجا و لم يبق لقائل ما يقول، قبض الله نبيه إليه، و قد بانت الحجة و وضحت الحجة و اشتد أسّ الدين و قوي عضده بأنصار الله. فلله الحمد كثيرا على ذلك.
و منها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع و الدعاء. فقد بيّن مساق القرآن آدابا استقرئت منه. و إن لم ينص عليها بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير. فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن، في الغالب، إلا ب (يا)، المشيرة إلى بعد المنادى. لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم و الاستغناء. فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة. منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى و أنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا: ربنا ربنا كقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا [البقرة: 286] رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127]، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي [آل عمران: 35]، رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260].
و منها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضى للقيام بأمور العباد و إصلاحها.
فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية و الرفق و الإحسان قائلا: يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتمّ لنا ذلك بكذا. و هو مقتضى ما يدعو به. و إنما أتى
محاسن التاويل، ج1، ص: 89
(اللهم) في مواضع قليلة، و لمعان اقتضتها الأحوال.
و منها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5- 6] الآية رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا [آل عمران: 16] رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ [آل عمران: 53] رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ [آل عمران: 191]، رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً [يونس: 88] الآية.
رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ إلى قوله: وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: 21]، وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير.
و الحاصل أن القرآن احتوى، من هذا النوع، من الفوائد و المحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية، على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار، و يصححها نصوص الآيات و الأخبار.
و قسم هو المقصود الأول بالذكر، و هو الذي نبه عليه العلماء و عرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب، منطوقها و مفهومها، على حسب ما أداه اللسان العربيّ فيه.
و ذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول.
أحدها- معرفة المتوجّه إليه و هو الله المعبود، سبحانه.
و الثاني- معرفة كيفية التوجه إليه.
و الثالث- معرفة مآل العبد ليخاف الله به و يرجوه.
و هذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود الذي عبر عنه قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فالعبادة هي المطلوب الأول. غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود. إذ المجهول لا يتوجّه إليه و لا يقصد بعبادة و لا بغيرها. فإذا عرف، و من جملة المعرفة به أنه آمر و ناه و طالب للعباد بقيامهم بحقه، توجه الطلب. إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد، فجيء بالجنس الثاني. و لما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج و المآلات، و كان مآل الأعمال عائدا على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية، و انجرّ، مع ذلك، التبشير و الإنذار في ذكرها- أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف، و أن الدنيا ليست بدار إقامة، و إنما الإقامة في الدار الآخرة.
فالأول- يدخل تحته علم الذات و الصفات و الأفعال. و يتعلق بالنظر في
محاسن التاويل، ج1، ص: 90
الصفات أو في الأفعال، النظر في النبوءات لأنها الوسائط بين المعبود و العباد، و في كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا. و يتكمل بتقرير البراهين و المحاجة لمن جادل من خصماء المبطلين.
و الثاني- يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات و العادات و المعاملات و ما يتبع كل واحد منها من المكملات. و هي أنواع فروض الكفايات.
و جامعها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و النظر فيمن يقوم به.
و الثالث- يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت و ما يليه، و يوم القيامة و ما يحويه، و المنزل الذي يستقر فيه. و مكمل هذا الجنس الترغيب و الترهيب. و منه الإخبار عن الناجين و الهالكين و أحوالهم و ما أداهم إليه حاصل أعمالهم. و إذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما.
و قد حصرها الغزاليّ في ستة أقسام: ثلاثة منها هي السوابق و الأصول المهمة. و ثلاثة هي توابع و متممة.
فأما الثلاثة- فهي تعريف المدعوّ إليه، و هو شرح معرفة الله تعالى، و يشتمل على معرفة الذات و الصفات و الأفعال و تعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم، و ذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة و التزكية عن الأخلاق الذميمة و تعريف الحال عند الوصول إليه. و يشتمل على ذكر حالي النعم (النعيم) و العذاب، و ما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.
و أما الثلاثة الأخر- فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة. و ذلك قصص الأنبياء و الأولياء. و سرّه الترغيب. و أحوال الناكبين. و ذلك قصص أعداء الله. و سرّه الترهيب. و التعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائفة. و تشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه، و ذكر النبيّ عليه السلام بما لا يليق به. و ادّكار عاقبة الطاعة و المعصية. و سرّه في جنبة الباطل التحذير و الإفضاح، و في جنبة الحق التثبيت و الإيضاح. و التعريف بعمارة منازل الطريق و كيفية أخذ الأهبة و الزاد. و معناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات و العادات و المعاملات و الجنايات.
و هذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة، و هي: ذكر الذات، و الصفات، و الأفعال، و المعاد، و الصراط المستقيم، و هو جانب التحلية و التزكية، و أحوال الأنبياء، و الأولياء، و الأعداء، و محاجة الكفار، و حدود الأحكام.
محاسن التاويل، ج1، ص: 91
فصل «في أن المدنيّ من السور منزل في الفهم على المكيّ»
قال الشاطبيّ: المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكيّ، و كذلك المكيّ بعضه مع بعض. و المدنيّ بعضه مع بعض. على حسب ترتيبه في التنزيل. و إلا لم يصح. و الدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدنيّ، في الغالب، مبنيّ على المكيّ. كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبنيّ على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، و ذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله. و أول شاهد على هذا أصل الشريعة: فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق و مصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام. و يليه تنزيل سورة الأنعام. فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد و أصول الدين. و قد خرّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة. هذا ما قالوا. و إذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبين به، من قرب، بيان القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلّي.
ثم لما هاجر رسول الله صلى اللّه عليه و سلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، و هي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام. فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، و إن تبيّن في غيرها تفاصيل لها. كالعبادات التي هي قواعد الإسلام. و العادات من أصل المأكول و المشروب و غيرهما. و المعاملات من البيوع و الأنكحة و ما دار بها. و الجنايات من أحكام الدماء و ما يليها. و أيضا، فإن حفظ الدين فيها و حفظ النفس و العقل و النسل و المال مضمن فيها. و ما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل. فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبنيّ عليها، كما كان غير الأنعام، من المكيّ المتأخر عنها، مبنيا عليها. و إذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة. فلا يغيبنّ على الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير. و على حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
و للسنة هنا مدخل لأنها مبينة للكتاب. فلا تقع في التفسير إلا على وفقه.
محاسن التاويل، ج1، ص: 92
و بحسب المعرفة بالتقديم و التأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث.
كما يتبين ذلك في القرآن أيضا. و يقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات. فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أو همت ففهم منها ما يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات.
كحديث «1» «من مات و هو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة».
أو
حديث «2» «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار»
. و في المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأئمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين.
فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق. و كأن ما عارضها مؤول عند هؤلاء. و ذهب أهل السنة و الجماعة إلى خلاف ما قالوه حسبما هو مذكور في كتبهم. و تأولوا هذه الظواهر. و من جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا: إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين. و ذلك قبل أن تنزل الفرائض و الأمر و النهي. و معلوم أن من مات في ذلك الوقت و لم يصلّ أو لم يصم، مثلا، و فعل ما هو محرم في الشرع- لا حرج عليه. لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد. فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا. كما أن من مات و الخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه، لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ [المائدة: 93] الآية. و كذلك من مات قبل أن تحوّل القبلة نحو الكعبة، لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس. لقوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] إلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، و تصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب و السنة.
فصل في الاعتدال في التفسير
قال الشاطبيّ: ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط و الاعتدال. و عليه أكثر السلف المتقدمين. بل ذلك شأنهم و به كانوا أفقه الناس فيه، و أعلم العلماء بمقاصده و بواطنه. و ربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال، إما على
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث رقم 43 عن عثمان.