کتابخانه تفاسیر
محاسن التاويل
الجزء الأول
تمهيد خطير في قواعد التفسير
10 - قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
11 - قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثالث
سورة النساء
القول في تأويل قوله تعالى:[سورة النساء(4): آية 158]
الجزء الرابع
سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الخامس
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء السادس
سورة يونس
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء السابع
سورة الكهف
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
الجزء الثامن
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت(حم السجدة)
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
الجزء التاسع
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الفجر
سورة البلد
محاسن التاويل، ج1، ص: 208
و لا يخرجون- لإظهار البراعة في تحصيلها- عن حدّ الإكثار من القول، و اختراع الوجوه من التأويل، و الإغراب في الإبعاد عن مقاصد التنزيل. إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس، و ما فهموه، و إنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا و هدايتنا، و عن سنة نبيه الذي بيّن لنا ما نزل إلينا وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. يسألنا: هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبّرتم ما بلّغتم؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم و ما به أمرتم؟ و هل عملتم بإرشاد القرآن. و اهتديتم بهدي النبيّ، و اتبعتم سنته؟
عجبا لنا! ننتظر هذا السؤال، و نحن في هذا الإعراض عن القرآن و هديه ...! فيا للغفلة و الغرور.
معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى. أول ما يلقّن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى هو اسم «الله» تبارك و تعالى، يتعلمه بالأيمان الكاذبة، كقوله: و الله لقد فعلت كذا و كذا، و الله ما فعلت كذا ... و كذلك القرآن! يسمع الصبيّ ممن يعيش معهم: أنه كلام الله تعالى، و لا يعقل معنى ذلك، ثم لا يعرف من تعظيم القرآن إلا ما يعظمه به سائر المسلمين الذين يتربّى بينهم، و ذلك بأمرين:
أحدهما: اعتقاد أنّ آية كذا إذا كتبت و محيت بماء و شربه صاحب مرض كذا، يشفى! و أنّ من حمل القرآن لا يقربه جنّ و لا شيطان! و يبارك له في كذا و كذا ... إلى غير ذلك مما هو مشهور و معروف للعامة أكثر مما هو معروف للخاصة ...! و مع صرف النظر عن صحة هذا و عدم صحته، نقول: إنّ فيه مبالغة في التعظيم عظيمة جدا، و لكنها- و يا للأسف ...!- لا تزيد عن تعظيم التراب الذي يؤخذ من بعض الأضرحة ابتغاء هذه المنافع و الفوائد نفسها ..! و نحو هذا ما يعلق على الأطفال من التعاويذ و التناجيس: كالخرق، و العظام، و التمائم المشتملة على الطلسمات و الكلمات الأعجمية المنقولة عن بعض الأمم الوثنية ...! هذا الضرب من تعظيم القرآن نسميه- إذا جرينا على سنة القرآن- عبادة للقرآن لا عبادة لله به! ثانيهما: الهمزة، و الحركة المخصوصة، و الكلمات المعلومة .... التي تصدر ممن يسمعون القرآن إذا كان القارئ رخيم الصوت، حسن الأداء، عارفا بالتطريب على أصول النغم ..
و السبب في هذه اللذة و النشوة هي حسن الصوت و النغم، بل أقوى سب
محاسن التاويل، ج1، ص: 209
لذلك هو بعد السامع عن فهم القرآن ...! و أعني بالفهم: ما يكون عن ذوق سليم تصيب أساليب القرآن بعجائبها، و تملكه مواعظها، فتشغله عمّا بين يديه مما سواه.
لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا، لم يصحبه ذلك الذوق و ما يتبعه من رقّة الشعور و لطف الوجدان اللذين هما مدار التعقل و التأثر و الفهم و التدبر ...
لهذا كلّه، يمكننا أن نقول: إن الجاهلية اليوم أشدّ من الجاهلية و الضالين في زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، لأن من أولئك من قال الله تعالى فيهم: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ* [البقرة: 146]، و معرفة الحقّ أمرّ عظيم شريف ...! نعم، ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد، و لكنه يكون دائما ملوما من نفسه على الإعراض عن الحقّ. و هذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل.
كان البدويّ راعي الغنم يسمع القرآن فيخرّ له ساجدا لما عنده من رقّة الإحساس و لطف الشعور ...! فهل يقاس هذا بأيّ متعلم اليوم؟ أ رأيت أهل جزيرة العرب كيف انضووا إلى الإسلام بجاذبية القرآن لما كان لهم من دقّة الفهم التي كانت سبب الانجذاب إلى الحقّ ..!- و أشار الأستاذ هنا إلى البنت الأعرابية التي فطنت لاشتمال الآية على أمرين و نهيين و بشارتين- و مجمل الخبر: أنّ الأصمعي قال: سمعت بنتا من الأعراب خماسية أو سداسية تنشد:
أستغفر الله لذنبي كلّه
قتلت إنسانا بغير حلّه
مثل غزال ناعم في دلّه
و انتصف الليل و لم أصلّه
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: ويحك! أ يعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين و نهيين و بشارتين ...! لما رأى علماء المسلمين في الصدر الأول تأثير القرآن في جذب قلوب الناس إلى الإسلام، و أنّ الإسلام لا يحفظ إلّا به، و لما كان العرب قد اختلطوا بالعجم، و فهم من دخل في الإسلام من الأعاجم ما فهمه علماء العرب، أجمع كلّ على وجوب حفظ اللغة العربية، و دوّنوا لها الدواوين، و وضعوا لها الفنون.
محاسن التاويل، ج1، ص: 210
نعم: إنّ الاشتغال بلغة الأمة و آدابها فضيلة في نفسه، و مدّة من موادّ حياتها، و لا حياة لأمة ماتت لغتها. و لكن لم يكن هذا وحده هو الحامل لسلف الأمة على حفظ اللغة بمفرداتها و أساليبها و آدابها، و إنّما الحامل لهم على ذلك ما ذكرنا.
ألّف العلّامة الأسفراييني كتابا في الفرق، ختمه بذكر أهل السنّة و مزاياهم، و عدّ من فضائلهم- التي امتازوا بها على سائر الفرق- التبريز في اللغة و آدابها، و بيّن ذلك بأجلى بيان. فزين هذه المزايا؟ و أين آثارها في فهم القرآن؟ بل و فهم ما دونه من الكلام البليغ ...؟
و قد بينّا وجه الحاجة في التفسير إلى تحصيل ملكة الذوق العربيّ، و إلى غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها القرآن» انتهى.
فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم
قال بعض علماء الفلك ما مثاله: إنّ القرآن الكريم قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم. و هذه المسائل تعتبر من معجزات القرآن العلمية الخالدة. و هاكها ملخصة:
المسألة الأولى-: الأرض كوكب كباقي الكواكب السيارة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ [الطلاق: 12]، و هما من مادة واحدة كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30]. و هي تدور حول الشمس وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].
المسألة الثانية: السيارات الأخرى مسكونة بالحيوانات وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ [الشورى: 29]، تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ [الإسراء: 44] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [الرحمن: 29]، و مجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في السموات حيوانات عاقلة كالإنسان، لا كما كان يزعم القدماء: أنّ الكواكب كلها أجرام فارغة خلقت ليتلذذ بمنظرها الإنسان ...! المسألة الثالثة: ليس القمر خاصا بالأرض، بل للسيارات الأخرى أقمار وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] فالألف و اللام في الْقَمَرَ للجنس لا للعهد، كما
محاسن التاويل، ج1، ص: 211
في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4].
المسألة الرابعة: ليست السيارات مضيئة بذاتها، بل إن الشمس هي مصباحها جميعا وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 16] أي لهن، كما يدلّ عليه السياق، فالنور الذي نشاهده فيها منعكس عليها من الشمس.
المسألة الخامسة: السماوات و السيارات السبع شيء، و الشمس و القمر شيء آخر، فهما ليسا من السيارات كما كان يتوهم القدماء وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ... [العنكبوت: 61] الآية و غيرها كثير.
المسألة السادسة: العوالم متعدّدة: و لذلك يقول القرآن في كثير من المواضع:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* [الفاتحة: 2]، و العوالم هي منظومات من الكواكب المتجاذبة وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7]. لا كما كان يتوهم القدماء: أن العالم واحد و أنّ الإنسان أشرف الموجودات ...! المسألة السابعة- ليست جميع العوالم مخلوقة لأجل هذا الإنسان: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57]، أي الناس المعهودين على وجه الأرض. و الإنسان الأرضيّ أفضل من بعض المخلوقات لا كلّها وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70]. و لا ينافي ذلك قوله تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [الجاثية: 13]، إذ لا يلزم من هذا القول أنها غير مسخرة لغيرنا من الأحياء، فالبحر مثلا، قال اللّه تعالى فيه: سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ [الجاثية: 12]، مع أنه مسخّر لغيرنا من الحيوانات البحرية تسخيرا أتمّ و أعمّ، فمنه تأكل و تشرب و تتنفس، و فيه تسكن و تحيى و تموت. فما هو مسخّر لبعض الحيوانات تسخيرا جزئيا قد يكون مسخرا لغيرها تسخيرا كلّيا. فكذلك النجوم مسخرة لنا- لنهتدي بها في ظلمات البر و البحر- مع أنها لغيرنا شموس عليها قوام حياتهم، كما إن شمسنا عليها قوام حياتنا و هي- بالنسبة لهم- نجم من نجوم الثوابت.
و بالجملة: فإن جميع العوالم- بما بينها من الارتباط العام و التجاذب الذي بينها- مسخرة بعضها لبعض بالنفع الكلّي أو الجزئيّ.
المسألة الثامنة-: كان القدماء يعتقدون أن جميع الثوابت مركوزة في كرة مجوّفة يسمونها كرة الثوابت- أو فلك الثوابت- و بحركة هذه الكرة تتحرك الكواكب كما تقدم. و معنى ذلك: أن الكواكب لا حركة لها بذاتها، و أن فلك
محاسن التاويل، ج1، ص: 212
جميع الثوابت واحد و أنه جسم صلب. و الحقيقة خلاف ذلك. فإن لكل كوكب فلكا يجري فيه وحده، و كل كوكب يتحرك بذاته لا بحركة غيره، و الكواكب جميعا سابحة في الفضاء، أو بعبارة أصحّ في الأثير- مادّة العالم الأصلية- غير مركوزة في شيء مما يتوهمون. و بهذه الحقائق جاء الكتاب الحكيم و الناس في الظلمات و الأوهام يتخبطون ..! قال الله تعالى: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33]، و التنوين في لفظ «كلّ» عوض عن الإضافة. و المعنى: كل واحد من الكواكب في فلك خاصّ به يسبح بذاته. و في قوله يَسْبَحُونَ إشارة إلى مادة العالم الأصلية- الأثير- التي تسبح فيها الكواكب كما تسبح الأسماك في الماء. فليست الأفلاك أجساما صلبة تدور بالكواكب كما كانوا يزعمون .....! المسألة التاسعة: نصّ الكتاب العزيز على جود الجذب العام للكواكب كافّة من جميع جهاتها، فقال: وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7]، أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: 27]، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3]، فالكون كله:
كالجسم الواحد الكبير، محكم البناء، لا خلل فيه، كما قال: وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ و يتخلّله الأثير كما يتخلل ذرات الجسم الصغير فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14].
المسألة العاشرة: كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتى ماء المطر، و لهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات و خرافات ..! و لكن القرآن الشريف تنزّه عن الجهل و الخطأ فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً - إلى قوله: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ* [النور: 43]. و قال:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21]. و مقتضى الآيتين:
أنّ الماء العذب الذي نشربه و نسقي به الأرض- سواء كان من الينابيع أو من الأنهار- هو من الأمطار الناشئة من السحاب، و من أين يأتي السحاب؟ هو بخار من بحار هذه الأرض! أي: أنّ السحاب هو من الأرض، و هو عين قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها [النازعات: 31]، أي: أن الماء جميعه أصله من الأرض و إن شوهد أنه ينزل من السحاب ...! فهذه كلها آيات بيّنات، و معجزات باهرات، دالّة على صدق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و صحة القرآن». كلامه بحروفه.
و قال أيضا:
«من عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية، التي
محاسن التاويل، ج1، ص: 213
كانت جميع الأمم تجهلها، بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به، في أيّ زمن كان، مهما كانت معلوماته. فالناس قديما فهموا أمثال هذه الآية بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء، علمنا أنهم كانوا واهمين، و فهمنا معناها الصحيح. فكأنّ هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين، تظهر لهم كلما تقدّمت علومهم ...! و أمّا المعاصرون للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فمعجزته لهم: إتيانه بأخبار الأوّلين، و بالشرائع التي أتى بها، و بالمغيّبات التي تحقّقت في زمنه ... و غير ذلك، مع علمهم بصدقه و حاله، و بعده عن العلم، و التعلم بالمشاهدة و العيان. فآيات القرآن- بالنسبة لهم- بعضها معناه صريح لا يقبل التأويل، و فيها بيان كلّ شيء مما يحتاجون إليه، و البعض الآخر يقبل التأويل، و تتشابه عليهم معانيه لنقص علومهم. و هذا القسم لا يهمهم كثيرا، فإنه خاصّ بعلوم لم يكونوا وصلوا إليها، و هو معجزات للمتأخرين يشاهدونها، و تتجلّى لهم كلما تقدّموا في العلم الصحيح. قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7]، أي: لها معان كثيرة يشبه بعضها بعضا، و تتشابه عليهم في ذلك الزمن، فلا يمكنهم الجزم بالصحيح منها: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ بتشكيك الناس في دينهم بسببه وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ في زمنهم لنقص علمهم وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]. وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ... إلخ، فإذا جعل قوله تعالى وَ الرَّاسِخُونَ معطوفا على لفظ الجلالة كان المعنى: أنّ تأويله لا يعلمه أحد في جميع الأزمنة إلا الله و الراسخون في العلم يعلمونه، و إذا كان لفظ وَ الرَّاسِخُونَ مستأنفا كان المعنى: أنّ الراسخين في العلم في زمنهم لا يعلمون تأويله- كما قلنا- و إنما يؤمنون به لظهور الدلائل الأخرى لهم على صدق النبيّ، و يفوّضون علم هذه الأشياء إلى المستقبل من الزمان، كما نفوض الآن نحن، مسألة رجم الشياطين بالشهب، للمستقبل و نؤمن بالقرآن لثبوت صدقه بالدلائل الأخرى القطعية» بحروفه.
بيان أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف
قد بسط الكلام في أنّ مذهب السلف هو الحق غير واحد من الأئمة الأعلام.
و هو، و إن كان غنيا في نفسه عن إقامة البرهان، فقد رأينا أن نورد شذرة مما يؤيد
محاسن التاويل، ج1، ص: 214
ذلك، تنبيها للغبيّ، و تأييدا للألمعيّ. فنقول: قال حجّة الإسلام الغزاليّ قدّس الله روحه في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام».
الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف، و عليه برهانان عقليّ و سمعيّ:
«أمّا العقليّ فاثنان: كلّي و تفصيليّ. أما البرهان الكليّ على أنّ الحق مذهب السلف، فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلّمة عند كل عاقل:
الأول: أنّ أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد، بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن ما ينتفع به في الآخرة- أو يضر،- لا سبيل إلى معرفته بالتجربة- كما عرف الطبيب- إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر، و من الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع و ضرّ، و أخبر عنه؟ و لا يدرك بقياس العقل، فإن العقول قاصرة عن ذلك، و العقلاء بأجمعهم معترفون بأنّ العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت، و لا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي و نفع الطاعات، لا سيما على سبيل التفصيل و التحديد- كما وردت به الشرائع- بل أقرّوا بجملتهم: أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوّة، و هي قوة وراء قوة العقل، يدرك بها من أمر الغيب في الماضي و المستقبل أمور لا على طريق التعريف بالأسباب العقلية. و هذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء، فضلا عن الأولياء و العلماء الراسخين، القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوّة، المقرّين بقصور كل قوّة سوى هذه القوة.
الأصل الثاني: أنه صلّى اللّه عليه و سلّم أفاض إلى الخلق ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم و معاشهم، و أنه ما كتم شيئا من الوحي و أخفاه و طواه عن الخلق، فإنه لم يبعث إلا لذلك، و لذلك كان رحمة للعالمين، فلم يكن متهما فيه، و عرف ذلك علما ضروريا من قرائن أحواله في حرصه على إصلاح الخلق، و شغفه بإرشادهم إلى صلاح معاشهم و معادهم، فما ترك شيئا مما يقرب الخلق إلى الجنة و رضاء الخالق إلّا دلّهم عليه، و أمرهم به، و حثّهم عليه، و لا شيئا مما يقرّبهم إلى النار و إلى سخط الله إلا حذّرهم منه و نهاهم عنه، و ذلك في العلم و العمل جميعا.