کتابخانه تفاسیر
محاسن التاويل
الجزء الأول
تمهيد خطير في قواعد التفسير
10 - قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
11 - قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثالث
سورة النساء
القول في تأويل قوله تعالى:[سورة النساء(4): آية 158]
الجزء الرابع
سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الخامس
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء السادس
سورة يونس
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء السابع
سورة الكهف
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
الجزء الثامن
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت(حم السجدة)
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
الجزء التاسع
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الفجر
سورة البلد
محاسن التاويل، ج1، ص: 227
تقول: ربّه يربّه فهو ربّ كما تقول: نمّ عليه ينمّ فهو نمّ- فهو صفة مشبهة، و يجوز أن يكون مصدرا بمعنى التربية و هي: تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا. وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل. و الرب- باللام- لا يقال إلا للّه عزّ و جلّ. و هو في غيره على التقييد بالإضافة- كربّ الدار- و منه قوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23].
و الْعالَمِينَ جمع عالم و هو: الخلق كله و كل صنف منه. و إيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس. و التعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1): آية 3]
إيرادهما عقد وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1): آية 4]
قرأ عاصم و الكسائيّ بإثبات ألف مالِكِ و الباقون بحذفها. قال الزمخشريّ:
و رجحت قراءة (ملك) لأنه قراءة أهل الحرمين، و هم أولى الناس بأن يقرءوا القرآن غضا طريا كما أنزل، و قراؤهم الأعلون رواية و فصاحة. و لقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة. و القرآن يتعاضد بعضه ببعض، و تتناسب معانيه في المواد. و ثمة مرجحات أخرى.
و قال بعضهم: إن قراءة مالِكِ أبلغ، لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة، و لا تصرّف له بشيء من شؤونهم الخاصة. و تظهر التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شؤونه دون سلطانه.
و من وجوه تفضيلها: إنها تزيد بحرف، و لقارئ القرآن بكل «1» حرف عشر حسنات
(1)
أخرج الترمذي في ثواب القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر. عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: آلم حرف، و لكن ألف حرف، و لام حرف، و ميم حرف».
محاسن التاويل، ج1، ص: 228
- كما رواه الترمذيّ عن ابن مسعود بإسناد صحيح- و كلاهما صحيح متواتر في السبع.
و الدِّينِ الحساب و المجازاة بالأعمال. و منه: «كما تدين تدان» أي: مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين. و تخصيصه بالإضافة إمّا لتعظيمه و تهويله، أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر و فصل القضاء فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قال الطبريّ: أي لك، اللهم، نخشع و نذلّ و نستكين. إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك- قال- و العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، و أنها تسمّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، و ذلّلته السابلة «معبّدا» و منه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج «معبّد» و منه سمي العبد «عبدا» لذلّته لمولاه انتهى.
و فيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى و تخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئا ما معه، لا في محبته كمحبته، و لا في خوفه، و لا في رجائه، و لا في التوكل عليه، و لا في العمل له، و لا في النذر له، و لا في الخضوع له، و لا في التذلل و التعظيم و السجود و التقرب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الأرض و السموات وحده. و ذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذّل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبّا للإله المعبود كمال الحب، و لا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، و هما لا يصلحان إلا لله وحده. فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلّا هو، و هي كمال الحب و الذل و الإجلال و التوكل و الدعاء بما لا يقدر عليه إلّا هو، تعالى. و قد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيها على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة، و إسلامه وجهه لله وحده، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى اللّه عليه و سلّم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم:
منهم من يعبد الشمس و القمر، و منهم من يعبد الملائكة، و منهم من يعبد الأصنام، و منهم من يعبد الأحبار و الرهبان، و منهم من يعبد الأشجار و الأحجار ... إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ [فصلت: 37] الآية. و في قوله تعالى:
محاسن التاويل، ج1، ص: 229
سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40- 41]. و في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ [المائدة: 116] الآية.
و قوله تعالى: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: 80] الآية. و في قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19- 20]. و
حديث «1» أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم إلى حنين و نحن حدثاء عهد بكفر، و للمشركين سدرة يعكفون عندها، و ينوطون بها أسلحتهم يقال لها «ذات أنواط» فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم- و الذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ - إلى قوله: وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الأعراف: 138- 140] رواه الترمذيّ و صححه.
و أما عبادتهم للأحبار و الرهبان ففي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31]،
فروى الإمام أحمد و الترمذي «2» عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى اللّه عليه و سلّم يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: «أ ليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمون، و يحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم».
فالعبادة أنواع و أصناف، و لا يتم الإيمان إلّا بتوحيدها كلها لله سبحانه. و قد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة. أي ركنها المهم الأعظم. و أصله من التنزيل الكريم قوله تعالى: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
(1)
أخرجه الترمذي في: الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم. و هذا نصه: عن أبي واقد الليثيّ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول اللّه، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم:
«سبحان اللّه! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ . و الذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم»
. (2)
أخرج الترمذيّ في: التفسير، سورة التوبة، حدثنا الحسين بن مرثد. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى اللّه عليه و سلّم و في عنقي صليب من ذهب. فقال: «يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن». و سمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ، قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم. و لكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، و إذا حرموا عليهم شيئا حرموه».
محاسن التاويل، ج1، ص: 230
[غافر: 60]، فسماه عبادة.
و
في الخبر: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل» «1» .
قال شمس الدين بن القيم: و لهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و الشيطان يأمر بالشرك، و النفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، أو رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، و لذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، و كيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا و ندا يحبه، و يخافه، و يرجوه، يذل و يخضع له، و يهرب من سخطه، و يؤثر مرضاته، و المؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى.
(فائدة) قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، و سرّها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : فالأول تبرّؤ من الشرك، و الثاني تبرّؤ من الحول و القوة، و التفويض إلى الله عزّ و جلّ. و هذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك: 29]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
أي ألهمنا الطريق الهادي، و أرشدنا إليه، و وفقنا له.
قال الإمام الراغب في تفسيره: «الهداية دلالة بلطف. و منه الهدية، و هوادي الوحش و هي متقدّماتها لكونها هادية لسائرها. و خص ما كان دلالة بفعلت نحو:
هديته الطريق، و ما كان من الإعطاء بأفعلت نحو أهديت الهدية، و لما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت و أهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف و قد قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] و قال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الحج: 4] قيل:
(1)
أخرج الإمام أحمد في المسند، 4/ 403. عن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم ذات ليلة فقال: «أيها الناس. اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل» فقال له من شاء أن يقول: و كيف نتقيه و هو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، و نستغفرك لما لا نعلم».
محاسن التاويل، ج1، ص: 231
إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
و خيل قد دلفت لها بخيل
تحيّة بينهم ضرب وجيع !
و الهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولا و فعلا، و هي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلّا بعد الأول، و لا الثالث إلّا بعد الثاني. فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيرا و إما طوعا- كالمشاعر الخمسة و القوة الفكرية، و بعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، و بعض خصّ به الإنسان، و على ذلك دلّ قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50]، و قوله تعالى: الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 3]، و هذه الهداية إما تسخير و إما تعليم، و إلى نحوه أشار بقوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68]، و قوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5]، و قال في الإنسان، بما أعطاه من العقل، و عرفه من الرشد: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الإنسان: 3] و قال:
وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10]، و قال في ثمود: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17]، و ثانيهما الهداية بالدعاء و بعثه الأنبياء عليهم السلام.
و إياها عنى بقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السجدة: 24].
و بقوله: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7]، و هذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز و جل، و تارة إلى النبيّ عليه السّلام، و تارة إلى القرآن. قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
و ثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، و هي الهداية المذكورة في قوله عز و جل: وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ [الحج: 24]. و قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] و قوله: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69].
و هذه الهداية هي المعنيّة بقوله: وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 28].
و يصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز و جل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. و يصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطانا مسترفدا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله.
و يصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، و لانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى:
وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17]، و قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9]. فنبه أن ذلك بجهدهم و بفضله جميعا.
محاسن التاويل، ج1، ص: 232
و هذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، و يصح أن يقال: هي محظورة إلّا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها. و من ذلك قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص، بتقديم عبادات. و قد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، و لا يبصره إلّا البصير، و لا يعمل به إلّا اليسير. ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها و لا يهتدي بها إلا العلماء.
و قال بعض الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مرّ على قلات و غدران، فيتناول كلّ قلت منها بقدر سعته- ثم تلا قوله- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] و قال بعضهم: هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به.
(و المنزلة الرابعة) من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، و إياها عنى الله بقوله وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43]. فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه. و منها ما ينفى عن بعض و يثبت لبعض، و من هذا الوجه قال تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه و سلّم:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56]. و قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 272]، و قال: وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [الروم: 53]. فإنّه عنى الهداية- التي هي التوفيق و إدخال الجنة- دون التي هي الدعاء لقوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]. و قال في الأنبياء: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: 73]. فقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: (الأول) أنه عنى الهداية العامة، و أمر أن ندعو بذلك- و إن كان هو قد فعله لا محالة- ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلّ على محمد. (الثاني) قيل: وفقنا لطريقة الشرع. (الثالث) احرسنا عن استغواء الغواة و استهواء الشهوات، و اعصمنا من الشبهات. (الرابع) زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11]. و قولك: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17].
(الخامس) قيل: علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص، و هو المعبّر عنه بالنور في قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] (السادس) قيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى: وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 4- 5]. و قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] الآية. فهذه الأقاويل اختلفت
محاسن التاويل، ج1، ص: 233
باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية و جزئياتها، و الجميع يصح أن يكون مرادا بالآية- إذ لا تنافي بينها- و بالله التوفيق» كلام الراغب. و به يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، و أن الوجوه المأثورة في آية ما- إذا لم تتناف- صح إرادتها كلها، و مثل هذا يسمى: اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ.
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم، نأثره عنه هنا، لما فيه من الفوائد الجليلة. قال رحمه الله:
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين و غيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ و تناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، و إنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات. و عامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة و التابعين هو من هذا الباب. فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فكل من المفسرين يعبّر عن الصراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، و كل ذلك حق بمنزلة ما يسمى اللّه و رسوله و كتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته. فيقول بعضهم: