کتابخانه تفاسیر
محاسن التاويل
الجزء الأول
تمهيد خطير في قواعد التفسير
10 - قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
11 - قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثالث
سورة النساء
القول في تأويل قوله تعالى:[سورة النساء(4): آية 158]
الجزء الرابع
سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الخامس
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء السادس
سورة يونس
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء السابع
سورة الكهف
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
الجزء الثامن
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت(حم السجدة)
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
الجزء التاسع
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الفجر
سورة البلد
محاسن التاويل، ج1، ص: 234
الذي لا يسبغ الوضوء، أو الذي لا يتمّ الأركان و نحو ذلك. و المقتصد الذي يصلي في الوقت- كما أمر- و السابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها و مستحباتها و يأتي بالنوافل المستحبة معها. و كذلك يقول مثل هذا في الزكاة و الصوم و الحج و سائر الواجبات. و قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، و تفسير لا يعذر أحد بجهالته، و تفسير يعلمه العلماء، و تفسير لا يعلمه إلّا اللّه، فمن ادعى علمه فهو كاذب. و الصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن و معناه كما أخذوا عنه السنة، و إن كان من الناس من غيّر السنة، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن- إذ لم يتمكن من تغيير لفظه. و أيضا فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفي عليه بعض السنة، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب و الله أعلم.
و تقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه.
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا في تحقيق هذه الآية:
«كل عبد مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء و هو هداية الصراط المستقيم.
فإنه لا نجاة من العذاب إلّا بهذه الهداية، و لا وصول إلى السعادة إلّا به، فمن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم، و إما من الضالين، و هذا الاهتداء لا يحصل إلّا بهدى الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17]. فإن الصراط المستقيم: أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم و عمل، و لا تفعل ما نهيت عنه. و هذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم: ما أمر به في ذلك الوقت، و ما نهى عنه، و إلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، و كراهة لترك المحظور. و الصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن و الإسلام و طريق العبودية، و كل هذا حق، فهو موصوف بهذا و بغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته و نجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق و النصر، فإن الله يرزقه، و إن انقطع رزقه مات- و الموت لا بدّ منه- فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدا بعد الموت، و كان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه. و كذلك النصر- إذا قدّر أنه قهر و غلب حتى قتل- فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدا، و كان القتل من تمام نعمة اللّه عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق و النصر، بل لا نسبة بينهما، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضا عليهم في الصلاة- فرضها و نفلها- و أيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق و النصر:
محاسن التاويل، ج1، ص: 235
لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2- 3] و كان من المتوكلين وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق: 3]، و كان ممن ينصره الله و رسوله و من ينصر الله ينصره و كان من جند الله، و جند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق و النصر. فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة، و تندفع به كل مضرة.
(فائدة) الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه و لا انحراف، و يستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة. فالطريق الواضح للحسّ، كالحق للعقل، في أنه: إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
أي: بطاعتك و عبادتك، و هم المذكورون في قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ [النساء: 69].
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ قال الأصفهانيّ: و إنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة. ثم إن المراد بالمغضوب عليهم و الضالين: كلّ من حاد عن جادة الإسلام من أيّ فرقة و نحلة. و تعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده و أشهرها، و هذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود، و الضالين النصارى.
(فوائد) الأولى: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: «آمين» و معناه:
اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل. و ليس من القرآن. بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. و الدليل على استحباب التأمين ما
رواه الإمام أحمد، و أبو داود، و الترمذيّ «1» عن وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلّم قرأ غير المغضوب عليهم
(1) أخرجه الترمذيّ في: الصلاة، باب ما جاء في التأمين. و أبو داود في: الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، حديث 932. و الإمام أحمد في مسنده.
محاسن التاويل، ج1، ص: 236
و لا الضالين فقال: «آمين» مدّ بها صوته». و لأبي داود: رفع بها صوته. قال الترمذيّ:
هذا حديث حسن، و في الباب عن عليّ و أبي هريرة، و روي عن عليّ و ابن مسعود و غيرهم.
و
عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ قال «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «1» . رواه أبو داود.
و
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه» «2» .
و
في صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا: «إذا قال- يعني الإمام- و لا الضالين فقولوا: آمين، يجبكم الله» «3» .
الثانية: في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم:
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت- و هي سبع آيات- على حمد الله تعالى، و تمجيده، و الثناء عليه: بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، و على ذكر المعاد و هو يوم الدين، و على إرشاد عبيده إلى سؤاله و التضرّع إليه و التبرؤ من حولهم و قوتهم، و إلى إخلاص العبادة له، و توحيده بالألوهية، تبارك و تعالى، و تنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، و إلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم- و هو الدين القويم- و تثبيتهم عليه حتى يفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين.
و اشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، و التحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، و هم المغضوب عليهم و الضالون.
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره:
(1) أخرجه أبو داود في: الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، حديث 934.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين. و مسلم في: الصلاة، حديث، 72.
(3)
أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 62 و نصه: عن أبي موسى الأشعريّ قال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم خطبنا فبيّن لنا سنتنا و علمنا صلاتنا، فقال «إذا صليتم فأقيموا صفوفكم. ثم ليؤمكم أحدكم.
فإذا كبر فكبروا. و إذا قال: غير المغضوب عليهم و لا الضالين، فقولوا: آمين. يجبكم اللّه. فإذا كبر و ركع فكبروا و اركعوا فإن الإمام يركع قبلكم و يرفع قبلكم»
.
محاسن التاويل، ج1، ص: 237
الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. و كل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. و لست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة و دلالة الحروف كقولهم: إن أسرار القرآن في الفاتحة، و أسرار الفاتحة في البسملة، و أسرار البسملة في الباء، و أسرار الباء في نقطتها! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم و أصحابه عليهم الرضوان، و لا هو معقول في نفسه. و إنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلوّ إلى إعدام القرآن خاصته، و هي البيان.- قال-: و بيان ما أريد: أن ما نزل القرآن لأجله أمور:
أحدها التوحيد: لأن الناس كانوا كلهم وثنيين- و إن كان بعضهم يدّعى التوحيد- ثانيها وعد من أخذ به، و تبشيره بحسن المثوبة، و وعيد من لم يأخذ به، و إنذاره بسوء العقوبة. و الوعد يشمل ما للأمة و ما للأفراد، فيعم نعم الدنيا و الآخرة و سعادتهما. و الوعيد- كذلك- يشمل نقمهما و شقاءهما. فقد وعد اللّه المؤمنين:
بالاستخلاف في الأرض، و العزّة، و السلطان، و السيادة. و أوعد المخالفين، بالخزي و الشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة و النعيم و أوعد بنار الجحيم.
ثالثها العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب و تثبته في النفوس.
رابعها بيان سبيل السعادة و كيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا و الآخرة.
خامسها قصص من وقف عند حدود الله تعالى و أخذ بأحكام دينه، و أخبار الذين تعدوا حدوده و نبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار، و اختيار طريق المحسنين.
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن، و فيها حياة الناس و سعادتهم الدنيوية و الأخروية، و الفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك و لا ريب.
فأمّا التوحيد ففي قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه ناطق بأن كل حمد و ثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى، و لا يصح ذلك إلّا إذا كان سبحانه مصدر كلّ نعمة في الكون تستوجب الحمد، و منها نعمة الخلق و الإيجاد و التربية و التنمية. و لم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ . و لفظ «رب» ليس معناه المالك و السيد فقط، بل فيه معنى التربية و الإنماء. و هو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه و في الآفاق منه عزّ و جلّ. فليس في الكون متصرف
محاسن التاويل، ج1، ص: 238
بالإيجاد، و الإشقاء، و الإسعاد سواه. ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين. و لذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه، بل استكمله و بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فاجتث بذلك جذور الشرك و الوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، و هي اتخاذ أولياء من دون اللّه تعتقد لهم السلطة الغيبية، يدعون لذلك من دون الله، و يستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، و يتقرب بهم إلى الله زلفى. و جميع ما في القرآن من آيات التوحيد و مقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال.
«و أما الوعد و الوعيد: فالأول منهما مطويّ في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فذكر الرحمة في أول الكتاب، و هي التي وسعت كل شيء. وعد بالإحسان- لا سيما و قد كررها مرة ثانية- تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده و عبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا و منفعتنا. و قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يتضمن الوعد و الوعيد معا، لأن معنى الدين الخضوع، أي: إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق و السيادة التي لا نزاع فيها، لا حقيقة و لا ادعاء، و إن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته- ظاهرا و باطنا- يرجو رحمته، و يخشى عذابه، و هذا يتضمن الوعد و الوعيد. أو معنى الدين الجزاء و هو: إما ثواب للمحسن، و إما عقاب للمسيء، و ذلك وعد و وعيد. و زد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و هو الذي من سلكه فاز، و من تنكبه هلك. و ذلك يستلزم الوعد و الوعيد.
و أما العبادة، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: إنه قد وضع لنا صراطا سيبيّنه و يحدده. و يكون مناط السعادة في الاستقامة عليه، و الشقاء في الانحراف عنه. و هذه الاستقامة عليه هي روح العبادة. و يشبه هذا قوله تعالى: وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3]. فالتواصي بالحق و الصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد. و الفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها. و روح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله، و هيبته، و الرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعل و كفّ و حركات اللسان و الأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة و أحكامها، و الصيام و أيامه، و كانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، و قبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما، و إنما الحركات و الأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة. و مخ العبادة الفكر و العبرة، و أما الأخبار و القصص ففي قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تصريح بأن هنالك قوما تقدموا و قد شرع الله شرائع لهدايتهم، و صائح يصيح: ألا فانظروا في الشؤون
محاسن التاويل، ج1، ص: 239
العامة التي كانوا عليها و اعتبروا بها، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] حيث بيّن أن القصص إنما هو للعظة و الاعتبار. و في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ تصريح بأن من دون المنعم عليهم فريقان: فريق ضل عن صراط الله، و فريق جاحده، و عاند من يدعو إليه، فكان محفوفا بالغضب الإلهيّ، و الخزي في هذه الحياة الدنيا. و باقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق، و حال الذين حافظوا عليه و صبروا على ما أصابهم في سبيله.
فتبين من مجموع ما تقدم: أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا. فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع، و على هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى «أم الكتاب».
الثالثة: مما صح في فضلها من الأخبار: ما
رواه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلّى رضي اللّه عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى اللّه عليه و سلّم فلم أجبه. فقلت: يا رسول اللّه إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ ؟- ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟» ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن نخرج، قلت: يا رسول اللّه أ لم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال:
«الحمد للّه رب العالمين، هي السبع المثاني و القرآن العظيم الذي أوتيته» «1» .
و
روى الإمام أحمد و الترمذيّ بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة، نحوه، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب، و في آخره: «و الذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني» «2»
. و استدل بهذا الحديث و أمثاله على تفاضل بعض الآيات و السور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه، و أبو بكر بن العربيّ و ابن الحضار من المالكية، و ذلك بيّن واضح.
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. و الترمذي في: ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.
محاسن التاويل، ج1، ص: 240
و
روى البخاريّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحيّ سليم، و إن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية. فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، و سقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أ كنت تحسن رقية، أو كنت ترقى؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب. قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل، النبي صلى اللّه عليه و سلّم. فلما قدمنا المدينة، ذكرناه للنبي صلى اللّه عليه و سلّم فقال: «و ما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا و اضربوا لي بسهم» «1» . و هكذا رواه مسلم و أبو داود.
و في بعض روايات مسلم: أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقى ذلك السليم- يعني اللديغ، يسمونه بذلك تفاؤلا-.
و
روى مسلم و النسائيّ عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى اللّه عليه و سلّم سمع نقيضا من فوقه، فرفع فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم و قال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته «2» .
و
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم قال «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) غير تمام» «3» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يقول:
«قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله، حمدني عبدي، و إذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، و إذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي- و قال مرّة فوّض إليّ عبدي- فإذا قال: إياك نعبد و إياك نستعين، قال: هذا بيني و بين عبدي، و لعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين، قال: هذا لعبدي، و لعبدي ما سأل»
. و يكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل، و الله يقول الحقّ و هو يهدي السبيل.
(1) أخرجه البخاريّ في: فضائل القرآن، باب فاتحة الكتاب.
(2) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين و قصرها، حديث 254.