کتابخانه تفاسیر
محاسن التاويل
الجزء الأول
تمهيد خطير في قواعد التفسير
10 - قاعدة الترغيب و الترهيب في التنزيل الكريم
11 - قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
سورة فاتحة الكتاب
سورة البقرة
الجزء الثاني
تتمة سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثالث
سورة النساء
القول في تأويل قوله تعالى:[سورة النساء(4): آية 158]
الجزء الرابع
سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الخامس
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة التوبة
الجزء السادس
سورة يونس
سورة هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء السابع
سورة الكهف
سورة مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
سورة العنكبوت
الجزء الثامن
سورة الروم
سورة لقمان
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبأ
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
سورة غافر
سورة فصلت(حم السجدة)
سورة الشورى
سورة الزخرف
سورة الدخان
سورة الجاثية
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
الجزء التاسع
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
سورة الممتحنة
سورة الصف
سورة الجمعة
سورة المنافقون
سورة التغابن
سورة الطلاق
سورة التحريم
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح
سورة الجن
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة المطففين
سورة الانشقاق
سورة الفجر
سورة البلد
محاسن التاويل، ج4، ص: 80
و
أخرج ابن جرير «1» عن عكرمة و يزيد بن أبي زيادة و اللفظ له: أن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم خرج و معه أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و عبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف و يهود بني النضير، يستعينهم في عقل أصابه. فقالوا: نعم.
اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس. فقال حييّ بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن. اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. و لا ترون شرّا أبدا، فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك اللّه عنها أيديهم. حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت. فأنزل اللّه الآية. و روى نحوه ابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم
. انتهى.
و على هذه الروايات، فالمراد من قوله تعالى اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة اللّه عليهم بدفع الشر و المكروه عن نبيّهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.
و ذكر الزمخشريّ، و من بعده، من وجوه إشارات الآية، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم، لما هموّا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر، بعد ما رأوهم يصلون الظهر. فندموا على أن لا أكبوا عليهم. فردّ كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف. انتهى.
و لفظ الآية محتمل لذلك، بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر.
وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي في رعاية حقوق نعمته و لا تخلّوا بشكرها وَ عَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي في إيصال الخير و دفع الشر لمن توكل عليه.
قال أبو السعود: و الجملة تذييل مقرر لما قبله. و إيثار صيغة أمر الغائب.
فاستيقظت و هو في يده صلتا. فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله. ثلاثا» و لم يعاقبه و جلس.
و أخرجه أيضا في: 87- باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة.
و في: المغازي، 31- باب غزوة ذات الرقاع.
و في: 32- باب غزوة بني المصطلق.
و أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين و قصرها، حديث 311.
و في: الفضائل، حديث 13.
(1) الأثر رقم 11557.
محاسن التاويل، ج4، ص: 81
و إسنادها إلى المؤمنين، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهانيّ، و للإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان، داع إلى ما أمروا به من التوكل و التقوى، وازع عن الإخلال بهما.
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس اللّه سرّه- في بعض مصنّفاته:
قد ظنّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة و لا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. و لكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. و ذكر ذلك أبو عبد اللّه بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. و قول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة و لا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، و آخرون يقولون: بل الدعاء علامة و أمارة. و يقولون ذلك في جميع العبادات، و هذا قول من ينفي الأسباب في الخلق و الأمر، و يقول: إن اللّه يفعل عندها، لا بها. و هو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر- كالأشعريّ و غيره، و هو قول طائفة من الفقهاء و الصوفية. و أصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات و في الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، و أنكر الحكمة في التوكل و الرحمة. و كان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. و قوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعريّ و من وافقه من الطوائف. و الذي عليه السلف و الأئمة و الفقهاء و الجمهور و كثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دلّ على ذلك الكتاب و السنة، مع دلالة الحسّ و العقل. و الكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. و المقصود هنا الكلام على التوكل. فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة و دفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. و كذلك الدعاء. و القرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، و علامة عند من ينفي الأسباب: قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2- 3]. و الحسب:
الكافي. فبيّن أنه كاف من توكل عليه. و في الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط
محاسن التاويل، ج4، ص: 82
كعدمه. و لأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له. فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيبا له، و لأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل، كما رغب في التقوى. فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره، لم يكن ذلك مرغّبا في التوكل.
كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة و حصول الرزق من حيث لا يحتسب.
و قال تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، و الوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة و لم يدفع عنه مضرة. و اللّه خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير و يدفع عنهم كل شرّ. و قال تعالى: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 8- 9]. و قال: وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء: 2]. فأمر أن يتّخذ وكيلا و نهى أن يتخذ من دونه وكيلا، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، و الوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه. فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلّا اللّه. و ذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة اللّه و قدرته. فليس له أن يتوكل عليه، و إن و كله. بل يعتمد على اللّه في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على اللّه، يحصل و إن توكل على غيره، و يحصل بلا توكّل، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا. و هذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد. لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه. و قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] أي: اللّه كافيك و كافي من اتبعك من المؤمنين. فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول- سواء اتبعوه أو لم يتبعوه- لم يكن للإيمان و اتباع الرسول أثر في هذه الكفاية. و لا كان لتخصيصهم بذلك معنى. و كان هذا نظير أن يقال: هو خالقك و خالق من اتبعك. و معلوم أنّ المراد خلاف ذلك. و إذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس، علم أن قول المتوكل: (حسبي اللّه) و قوله: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أمر مختص لا مشترك. و أن التوكل سبب ذلك الإختصاص، و اللّه تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خصّ أهله بكرامة، فلا بدّ أن يكون بين وجود ذلك العمل و عدمه فرق في حصول تلك الكرامة. و إن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر. فقد يكفي اللّه بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال. لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون
محاسن التاويل، ج4، ص: 83
ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا، و إن عدم التوكل. و قد قال تعالى: وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173- 174]، فعقب هذا الجزاء و الحكم لذلك الوصف و العمل، بحرف (الفاء) و هي تفيد السبب، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من اللّه و فضل. و أن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل. و في الأثر: من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه. فلو كان التوكل لا يجلب منفعة و لا يدفع مضرة، لم يكن المتوكل أقوى من غيره. و قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب: 1- 3]. و قال في أثناء السورة: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:
48]. فأمره سبحانه بتقواه و اتباع ما يوحى إليه و أمره بالتوكل. كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع. كقوله: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ [الأحزاب: 48]. و قوله:
8- 9]. و قوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ* [الشورى: 10]. و قوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا [الممتحنة: 4]. و قوله: هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ [الرعد: 30] و قوله: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2- 3]. و قوله في الفاتحة:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. و علم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين: عبادة اللّه و التوكل عليه. و إذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل. فإنه من عبادة اللّه. كقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21] و قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. و إذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه. و هذا كلفظ الإسلام و الإيمان. و الإيمان و العمل، و لفظ الصلاة مع العبادة و مع اتباع الكتاب. و لفظ الفحشاء و البغي مع المنكر. و نظائر ذلك متعددة، يكون اللفظ عند تجرده و إفراده يتناول أنواعا. و قد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصوصه. ثم قد يقال: إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه. و قد يقال: بل الأمر به خاص و عام، كما في قوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة: 98]. و إذا كان اللّه أمره بالتوكل على اللّه، ثم قال: وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا* علم أن اللّه وكيل كاف لمن توكل عليه. كما يقال في الخطب
محاسن التاويل، ج4، ص: 84
و الدعاء: الحمد للّه كافي من توكل عليه. و إذا كان (كفى به وكيلا) فهذا مختص به سبحانه ليس غيره من الموجودات (كفى به وكيلا) فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور، و هو لا يفعلها إلّا بإعانة اللّه، و هو عاجز عن أكثر المطالب. فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه (كفى به وكيلا) علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره من جلب المنافع و دفع المضار. إذ لو بقي شيء لم يكن (كفى به وكيلا) و هذا نقيض قول من ظنّ أنّ المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة و لا دفع مضرة، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم يتوكل عليه. و الذين ظنوا، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن اللّه إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون، و أنه ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن، و أن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة- صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، و ما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع. و هذا غلط عظيم ضلّ فيه طوائف: طائفة قالت: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها. بل من خلق للجنة فهو يدخلها و إن لم يؤمن. و من خلق للنار فهو يدخلها و إن آمن و لم يكفر. و هذه الشبهة سئل عنها النبي صلى اللّه عليه و سلم «1» لما
قال: ما منكم من أحد إلّا و قد علم مقعده من الجنة و النار قالوا: أفلا ندع العمل و نتكل على الكتاب؟ فقال: لا! اعملوا، فكلّ ميسّر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسّر لعمل أهل السعادة، و أما من كان من أهل الشقاء فسييسّر لعمل أهل الشقاء
. و هذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في (الصحيح) في مواضع تبيّن أنّ ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تقضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا، و الشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيّا. فالقدر تضمن الغاية و سببها. لم يتضمن غاية بلا سبب. كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج و يطأ المرأة، و هذا تنبت أرضه بأن يزرع و يسقي الزرع. و أمثال ذلك. و كذلك
في (السنن) «2» أنه قيل له: يا رسول اللّه! أ رأيت أدوية نتداوى بها، و رقيّ نسترقي بها، و تقاة نتقيها، هل تردّ من قدر اللّه شيئا؟ فقال: «هي من قدر
(1)
الحديث أخرجه البخاري في: التفسير، 92- سورة الليل، 7- باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ، حديث 718 و نصه: عن عليّ رضي اللّه عنه قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه و سلم في جنازة. فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض. فقال «ما منكم من أحد إلا و قد كتب مقعده من النار و مقعده من الجنة» قالوا:
يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا و ندع العمل؟ قال «اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة، فييسّر لعمل أهل السعادة. و أما من كان من أهل الشقاء، فييسّر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى ... الآية
. (2) أخرجه ابن ماجة في: الطب، 1- باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث 3437.
محاسن التاويل، ج4، ص: 85
اللّه»
. فبيّن أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر، ليس القدر مجرّد دفع المكروه بلا سبب. و كذلك قول من قال: (إن الدعاء لا يؤثر شيئا و التوكل لا يؤثر شيئا) هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر، بخلاف تأثير التوكل. لكن الأصل واحد. و هو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه و لوازمه. و من هذا الباب: (أن المقتول يموت بأجله) عند عامة المسلمين. إلّا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ قال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ، و قال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. و كلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة، و كلاهما خطأ. فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره. فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، و لو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره، و أمكن أن يكون القدر أنه لا يموت. فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها، و لم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر. بخلاف ما ليس له إلّا سبب واحد. مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلّا من عصى. فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. و قال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 159- 160] فأمره إذا عزم، أن يتوكل على اللّه؛ فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة، بيّن أنه هو سبحانه الناصر دون غيره و قال: وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160] فنهى عن التوكل على غيره، و أمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره. و إلّا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى؛ فإنه على هذا القول: نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه. و هذا يناقض مقصود الآية. بل عند هؤلاء:
قد ينصر من يتوكل على غيره و لا ينصر من يتوكل عليه، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و كذلك قوله تعالى:
أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ...- إلى قوله- قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ . [الزمر: 36- 39] فبيّن أن اللّه يكفي عبده الذي يعبده، الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان
محاسن التاويل، ج4، ص: 86
عليهم سلطان، الذي هو من عباده المخلصين، الذي هو من عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63]. و مثل هذا قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1]. و قوله: وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19].
و قوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23]. و نظائر متعددة.
ثم أمره بقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]. و قال تعالى: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ [يونس: 71] و كذلك قال عن هود لما قال قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 54- 56]. فهذا من كلام المرسلين، مما يبين أنه بتوكله على اللّه يدفع شرهم عنه.