کتابخانه تفاسیر
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 542
و الامة إنما تطلق على الجماعة و الفرد لكونهم ذوى هدف و مقصد يؤمرونه و يقصدونه، و ذكر الايمان باللّه بعد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من قبيل ذكل الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.
فمعنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير امة أظهرها اللّه للناس بهدايتها لأنكم على الجماعة تؤمنون باللّه و تأتون بفريضتي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و من المعلوم أن انبساط هذا التشريف على جميع الامة لكون البعض متصفين بحقيقة الايمان و القيام بحق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام «1» .
[سورة آلعمران (3): الآيات 111 الى 120]
(1). آل عمران 102- 110: بحث روائي حول: الآية «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» ؛ القرآن المجيد؛ حديث الثقلين؛ حال الامة بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 543
بيان:
قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً الخ؛ الأذى ما يصل الى الحيوان من الضرر: إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيويا كان أو اخرويا على ما ذكره الراغب مفردات القرآن.
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 544
قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ، الذلة بناء نوع من الذل، و الذل بالضم ما كان عن قهر، و بالكسر ما كان عن تصعب و شماس على ما ذكره الراغب، و معناه العام حال الانكسار و المطاوعة، و يقابله العز و هو الامتناع.
و قوله: ثُقِفُوا أي وجدوا، و الحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة؛ و قد استعير لكل ما يوجب نوعا من الأمن و العصمة و الوقاية كالعهد و الذمة و الأمان، و المراد (و اللّه أعلم): أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب الخيمة على الإنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل و سبب من اللّه، و حبل و سبب من الناس.
و قد كرر لفظ الحبل بإضافته الى اللّه و الى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة فانه من اللّه القضاء و الحكم تكوينا أو تشريعا، و من الناس البناء و العمل.
و المراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، و الدليل على ذلك قوله: أَيْنَما ثُقِفُوا فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، و هو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية.
فيؤول معنى الآية الى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي إلّا أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.
قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ، بائوا أي اتخذوا مبائة و مكانا، أو رجعوا، و المسكنة أشد الفقر، و الظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلا الى النجاة و الخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم، و على هذا فيتلائم معنى الآية صدرا و ذيلا.
قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ ؛ و المعنى أنهم عصوا و كانوا قبل
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 545
ذلك يستمرون على الاعتداء.
قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً - الى قوله-: بِالْمُتَّقِينَ ، السواء مصدر اريد به معنى الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف و الحكم فإن منهم امة قائمة يتلون آيات اللّه، الخ؛ و من هنا يظهر أن قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، الخ؛ في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.
و قد اختلف في قوله: قائِمَةٌ فقيل: أي ثابتة على أمر اللّه، و قيل: أي عادلة، و قيل: أي ذو امة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، و الحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب و ذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان و الطاعة.
و الآناء جمع إنى بكسر الهمزة أو فتحها، و قيل: إنو و هو الوقت.
و المسارعة المبادرة و هي مفاعلة من السرعة قال في المجمع: و الفرق بين السرعة و العجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه، و هي محمودة، و ضدها الإبطاء، و هو مذموم، و العجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه و هي مذمومة، و ضدها الأناة و هي محمودة، انتهى، و الظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة، و العجلة وصف للمتحرك.
و الخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة، و هو جمع محلى باللام؛ و معناه الاستغراق، و يكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.
و قد عد اللّه سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات، و هي الإيمان، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المسارعة في كل خير، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم و زملاء النبيين و الصديقين و الشهداء لقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (الحمد/ 7)، و قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ الآية (النساء/ 69)،
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 546
قيل: المراد بهؤلاء الممدوحين عبد اللّه بن سلام و أصحابه.
قوله تعالى: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر اللّه لهم فيرده اليهم من غير ضيعة كما قال تعالى: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (البقرة/ 158)، و قال: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ - الى أن قال- وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (البقرة/ 272).
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء، الذين كفروا هم الطائفة الاخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة، و كانوا يوطؤون على الإسلام، و لا يألون جهدا في إطفاء نوره.
و ربما قيل: إن الآية ناظرة الى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير اليه من قصة أحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله: وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا ، الخ؛ فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين، و من هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد.
و ربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين و حمل تلك على اليهود، و هو خطأ.
قوله تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا الآية؛ الصر البرد الشديد، و إنما قيد الممثل بقوله: فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلّا بهذه الحيوة، و قيد حرث القوم بقوله: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ليحسن ارتباطه بقوله بعده: وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ .
و محصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحيوة و هم يريدون به إصلاح شأنهم و نيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلّا الشقاء، و فساد ما يريدونه و يحسبونه سعادة لأنفسهم كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين، و ليس ذلك إلّا ظلما منهم لأنفسهم فإن العمل الفاسد لا يأتي إلّا
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 547
بالأثر الفاسد.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية؛ سميت الوليجة بطانة و هي ما يلي البدن من الثوب و هي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان و ما يضمره و يستسره، و قوله: لا يَأْلُونَكُمْ أي لا يقصرون فيكم، و قوله: خَبالًا أي شرا و فسادا، و منه الخبل للجنون لأنه فساد العقل، و قوله: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ، ما مصدرية أي ودوا و أحبوا عنتكم و شدة ضرركم، و قوله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أريد به ظهور البغضاء و العداوة من لحن قولهم و فلتات لسانهم ففيه استعارة لطيفة و كناية، و لم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله: وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ للإيماء الى أنه لا يوصف لتنوعه و عظمته و به يتأكد قوله: أَكْبَرُ .
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ الآية؛ الظاهر أن اولاء اسم إشارة و لفظة ها للتنبيه، و قد تخلل لفظة أنتم بين ها و اولاء، و المعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم: زيد هذا و هند هذه كذا و كذا.
و قوله: وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ ، اللام للجنس أي و أنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند اللّه: كتابهم و كتابكم، و هم لا يؤمنون بكتابكم، و قوله، و اذا لقولكم قالوا آمنا، أي إنهم منافقون، و قوله: وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط، و الأنامل جمع أنملة و هي طرف الإصبع. و الغيظ هو الحنق، و عض الأنامل على شيء مثل يضرب للتحسر و التأسف غضبا و حنقا.
و قوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم في صورة الأمر و بذلك تتصل الجملة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي اللهم امتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.
قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، المسائة خلاف السرور، و في الآية
مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج1، ص: 548
دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر و التقوى.
[سورة آلعمران (3): الآيات 121 الى 129]