کتابخانه تفاسیر
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 30
عندهم في الصّلاة، و قراء مكّة و الكوفة على أنّها آية من الفاتحة و من كلّ سورة و عليه «1» الشّافعي «2» و أصحابه رحمهم اللّه و لذا يجهرون بها في الصّلاة و قالوا: قد أثبتها السّلف في المصحف مع الأمر بتجويد القرآن، و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: من تركها فقد ترك مائة و أربع عشرة آية من كتاب اللّه. و كذا «3» حديث أبي هريرة «4» قال: سمعت النّبيّ عليه السّلام يقول: (قال اللّه تعالى قسمت الصّلاة- أي الفاتحة- بيني و بين عبدي نصفين و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، قال اللّه تعالى «5» : حمدني عبدي، و إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قال اللّه تعالى «6» : أثنى عليّ عبدي، و إذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قال: مجّدني عبدي، و إذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال: هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ، قال: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل). فالابتداء بقوله الحمد للّه دليل على أنّ التسمية ليست من الفاتحة، و إذا لم تكن من الفاتحة لا تكون من غيرها إجماعا، و الحديث مذكور في صحاح «المصابيح» «7» ، و ما ذكروا لا يضرّنا لأنّ التّسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السّور عندنا ذكره فخر الإسلام في «المبسوط» «8» ، و إنّما يردّ علينا أن لو لم نجعلها آية من القرآن، و تمام تقريره في «الكافي» «9» و تعلقت الباء بمحذوف تقديره باسم اللّه أقرأ أو أتلو، لأنّ الذي يتلو التّسمية مقروء، كما أنّ المسافر إذا حلّ و ارتحل فقال باسم اللّه و البركات، كان المعنى باسم اللّه أحلّ و باسم اللّه أرتحل، و كذا الذّابح و كلّ فاعل يبدأ في فعله باسم اللّه كان مضمرا ما جعل التّسمية مبدأ له، و إنّما قدّر المحذوف متأخرا لأنّ الأهمّ من الفعل
(1) في (ظ) و عند.
(2) الشافعي: هو الإمام محمد بن إدريس القرشي المطّلبي ولد عام 150 ه و مات عام 204 ه، و مذهبه أحد مذاهب أهل السنة و الجماعة المعتمدة (الأعلام 6/ 26).
(3) في (ز) و لنا.
(4) أبو هريرة: هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي على الأشهر، صحابي، أخذ الفقه عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ولد عام 21 ق. ه و توفي عام 59 ه (الأعلام 3/ 308).
(5 و 6) ليست في (أ).
(7) المصابيح: أي كتاب «مصابيح السنة» للإمام البغوي (ت 510 ه).
(8) فخر الإسلام: هو أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري، أبو بكر، إمام عصره في القراءات ولد عام 295 ه و مات عام 381 ه، و كتابه «المبسوط في القراءات العشر» (غاية النهاية 1/ 49).
(9) الكافي: أي كتابه «الكافي» شرح كتاب آخر له هو «الوافي» في الفروع.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 31
و المتعلّق به هو المتعلّق به «1» ، و كانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللّات و باسم العزّى، فوجب أن يقصد الموحّد معنى اختصاص اسم اللّه عزّ و جلّ بالابتداء، و ذا بتقديمه و تأخير الفعل، و إنّما قدّم الفعل في اقرأ باسم ربّك لأنّها أوّل سورة نزلت في قول، و كان الأمر بالقراءة أهمّ، فكان تقديم «2» الفعل أوقع، و يجوز أن يحمل اقرأ على معنى افعل القراءة و حقّقها كقولهم فلان يعطي و يمنع، غير متعد إلى مقروء به، و أن يكون باسم ربك مفعول اقرأ الذي بعده، و اسم اللّه يتعلّق بالقراءة تعلّق الدّهن بالانبات في قوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «3» على معنى متبركا باسم اللّه أقرأ، ففيه تعليم عباده كيف يتبرّكون باسمه، و كيف يعظّمونه.
و بنيت الباء على الكسر لأنّها تلازم الحرفيّة و الجرّ فكسرت لتشابه حركتها عملها، و الاسم من الأسماء التي بنوا أوائلها على السّكون كالابن و الابنة و غيرهما فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفاديا عن الابتداء بالسّاكن تعذرا، و إذا وقعت في الدّرج لم يفتقر إلى زيادة شيء، و منهم من لم يزدها و استغنى عنها بتحريك الساكن، فقال سم، و سم، و هو من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيد و دم و أصله سمو بدليل تصريفه كأسماء و سمى و سميت و اشتقاقه من السّمو و هو الرفعة، لأنّ التّسمية تنوية بالمسمّى و إشادة بذكره، و حذفت الألف في الخطّ هنا، و أثبتت في قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «4» لأنّه اجتمع فيها- أي في التّسمية «5» - مع أنّها تسقط في اللّفظ لكثرة الاستعمال، و طوّلت الباء عوضا عن حذفها، و قال عمر بن عبد العزيز «6» لكاتبه:
طوّل الباء و أظهر السينات و دور الميم. و اللّه أصله الإله، و نظيره النّاس أصله الأناس، حذفت الهمزة و عوّض منها حرف التعريف، و الإله من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحقّ، كما أن النّجم اسم لكلّ كوكب، ثم غلب على الثّريّا و أمّا اللّه بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحقّ لم يطلق على غيره، و هو اسم غير صفة لأنّك تصفه و لا تصف به، لا تقول شيء إله كما لا تقول شيء رجل، و تقول اللّه «7» واحد صمد، و لأنّ صفاته تعالى لا بدّ لها من موصوف تجري عليه، فلو جعلتها كلّها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها
(1) ليس في (أ) هو المتعلّق به.
(2) ليست في (أ).
(3) المؤمنون، 23/ 20.
(4) العلق، 96/ 1.
(5) زيادة في (ز).
(6) عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين، خامس الخلفاء الراشدين ولد عام 61 ه و مات عام 101 ه و أفقه و أعلم خلفاء بني أمية رضي اللّه عنه. (الأعلام 5/ 50).
(7) ليست في (أ).
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 32
و ذا لا يجوز، و لا اشتقاق لهذا الاسم عند الخليل «1» و الزّجّاج «2» و محمد بن الحسن «3» و الحسين بن الفضل «4» ، و قيل معنى الاشتقاق أن ينتظم الصّيغتين فصاعدا معنى واحد، و صيغة هذا الاسم و صيغة قولهم اله إذا تحيّر، ينتظمهما معنى التّحيّر «5» و الدّهشة، و ذلك أنّ الأوهام تتحير في معرفة المعبود و يدهش الفطن، و لذا كثر الضّلال و فشا الباطل و قلّ النّظر الصّحيح، و قيل هو من قولهم ألّه يألّه إلاها إذا عبد، فهو مصدر بمعنى مألوه أي معبود، كقوله هذا خَلْقُ اللَّهِ «6» أي مخلوقه، و تفخّم لامه إذا كان قبلها فتحة أو ضمة، و ترقّق إذا كان قبلها كسرة، و منهم من يرقّقها بكلّ حال، و منهم من يفخم بكلّ حال، و الجمهور على الأوّل.
و الرّحمن فعلان من رحم و هو الذي وسعت رحمته كلّ شيء كغضبان من غضب و هو الممتلئ غضبا، و كذا الرّحيم فعيل منه كمريض من مرض، و في الرّحمن من المبالغة ما ليس في الرّحيم، لأن في الرّحيم زيادة واحدة و في الرّحمن زيادتين، و زيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى، و لذا جاء في الدّعاء يا رحمن الدّنيا «7» لأنّه يعمّ المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة لأنّه يخصّ المؤمن، و قالوا: الرّحمن خاص تسمية، لأنّه لا يوصف به غيره، و عامّ معنى لما بينا، و الرّحيم بعكسه، لأنّه يوصف به غيره و يخصّ المؤمنين، و لذا قدّم الرحمن، و إن كان أبلغ، و القياس التّرقّي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: فلان عالم «8» نحرير، لأنّه كالعلم لما لم يوصف به غير اللّه، و رحمة اللّه إنعامه على عباده، و أصلها العطف، و أمّا قول الشّاعر «9» في مسيلمة «10» : و أنت غيث الورى لا زلت رحمانا. فباب من تعنّتهم في كفرهم، و رحمن غير منصرف عند
(1) الخليل: هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، أبو عبد الرحمن، ولد عام 100 ه و مات عام 170 ه من أئمة اللغة و الأدب اخترع العروض، و له مؤلفات. (الأعلام 2/ 314).
(2) الزّجّاج: هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق، عالم بالنحو و اللغة، ولد عام 241 ه و مات عام 311 ه (الأعلام 1/ 40).
(3) محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد اللّه، من موالي بني شيبان، إمام بالفقه و الأصول و هو الذي نشر علم أبي حنيفة ولد عام 131 ه و مات عام 189 ه و له مؤلفات (الأعلام 6/ 80).
(4) الحسين بن الفضل بن عمير البجلي، ولد عام 178 ه و مات عام 282 ه مفسر، كان رأسا في معاني القرآن (الأعلام 2/ 251).
(5) ليست في (أ).
(6) لقمان، 31/ 11.
(7) زاد في (ظ) و الآخرة.
(8) زاد في (ز) ذو فنون نحرير.
(9) الشاعر مجهول و صدر البيت: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا.
(10) مسيلمة: هو المتنبئ الكذاب مسيلمة بن ثمامة بن كبير، أبو ثمامة، ولد و نشأ في اليمامة، من المعمرين، قتله المسلمون عام 12 ه (الأعلام 7/ 226).
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 33
[سورة الفاتحة (1): آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
من زعم أنّ الشرط انتفاء فعلانة، إذ ليس له فعلانة، و من زعم أنّ الشرط وجود فعلى صرفه إذ ليس له فعلى، و الأوّل الوجه.
2- الْحَمْدُ الوصف بالجميل على جهة التّفضيل، و هو رفع بالابتداء و أصله النّصب، و قد قرئ باضمار فعله على أنّه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة في معنى الإخبار، كقولهم شكرا و كفرا، و العدول عن النّصب إلى الرّفع للدّلالة على ثبات المعنى و استقراره، و الخبر لِلَّهِ و اللام متعلق بمحذوف أي واجب أو ثابت، و قيل الحمد و المدح أخوان، و هو الثّناء و النّداء على الجميل من نعمة و غيرها، تقول:
حمدت الرّجل على إنعامه و حمدته على شجاعته و حسبه، و أمّا الشّكر فعلى النّعمة خاصة، و هو بالقلب و اللّسان و الجوارح قال:
أفادتكم النّعماء مني ثلاثة
يدي و لساني و الضمير المحجبا «1»
و الحمد باللسان وحده، و هو إحدى شعب الشّكر و منه الحديث (الحمد رأس الشّكر ما شكر اللّه عبد لم يحمده) «2» و جعله رأس الشّكر لأنّ ذكر النّعمة باللسان أشيع لها من الاعتقاد، و آداب الجوارح لخفاء عمل القلب و ما في عمل الجوارح من الاحتمال، و نقيض الحمد الذّمّ، و نقيض الشّكر الكفران، و قيل المدح ثناء على ما هو له من أوصاف الكمال، ككونه باقيا قادرا عالما أبديّا أزليّا، و الشّكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الافضال، و الحمد يشملهما، و الألف و اللّام فيه للاستغراق عندنا خلافا للمعتزلة «3» و لذا قرن باسم اللّه، لأنّه اسم ذات فيستجمع صفات الكمال، و هو بناء على مسألة خلق الأفعال، و قد حققته في مواضع رَبِّ الْعالَمِينَ الرّبّ المالك، و منه قول صفوان «4» ...
(1) الشعر لابن الحجاج حسين بن أحمد، أبو عبد اللّه (ت 391 ه).
(2) رواه عبد الرزاق عن ابن عمرو، و ابن عباس مرفوعا و فيه انقطاع.
(3) المعتزلة: فرقة من فرق الإسلام رأسها واصل بن عطاء (ت 131 ه) سمّي أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري (ت 110 ه) و هم يرون أن أفعال الخير من اللّه، و أفعال الشر من العباد، و أن القرآن مخلوق محدث و ليس بقديم، و أن المؤمن إذا ارتكب الذنب كشرب الخمر و غيره يكون في منزلة بين منزلتين لا مؤمنا و لا كافرا و لهم آراء أخرى. (الملل و النحل- الفصل الأول- ص 21- دار دانية 1990).
(4) صفوان: هو صفوان بن أمية بن خلف بن وهب، صحابي كان من أشراف قريش في الجاهلية
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 34
[سورة الفاتحة (1): الآيات 3 الى 4]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
لأبي سفيان «1» : لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن، تقول ربّه يربّه ربّا فهو ربّ، و يجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل، و لم يطلقوا الرّبّ إلا في اللّه وحده، و هو في العبيد مع التقييد إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ «2» ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ «3» و قال الواسطي: هو الخالق ابتداء، و المربّي غذاء، و الغافر انتهاء، و هو اسم اللّه الأعظم، و العالم كلّ ما علم به الخالق من الأجسام و الجواهر و الأعراض، أو كلّ موجود سوى اللّه تعالى سمّي به لأنّه علم على وجوده. و إنّما جمع بالواو و النون مع أنه يختصّ بصفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام لما فيه من معنى الوصفيّة و هي الدّلالة على معنى العلم.
3- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذكرهما قد مرّ، و هو دليل على أنّ التسمية ليست من الفاتحة إذ لو كانت «4» من الفاتحة لما أعادهما لخلوّ الإعادة عن الإفادة.
4- مالِكِ عاصم «5» و عليّ «6» ملك غيرهما، و هو الاختيار عند البعض لاستغنائه عن الإضافة، و لقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «7» و لأن كلّ ملك مالك و ليس كلّ مالك ملكا، و لأن أمر الملك ينفّذ على المالك دون عكسه، و قيل المالك أكثر ثوابا لأنه أكثر حروفا، و قرأ أبو حنيفة و الحسن «8» رضي اللّه عنهما ملك «9» يَوْمِ الدِّينِ أي يوم الجزاء، و يقال كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى، و هذه إضافة اسم الفاعل إلى
و الإسلام توفي عام 41 ه (الأعلام 3/ 205).
(1) أبو سفيان: هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، صحابي من سادات قريش في الجاهلية، أسلم يوم الفتح ولد عام 57 ق. ه و مات عام 31 ه (الأعلام 3/ 201).
(2) يوسف، 12/ 23.
(3) يوسف، 12/ 50، و في (ز) سبقتها كلمة «قال» و لم يذكر الآية كاملة.
(4) في (ظ) و (ز) لو كانت منها.
(5) عاصم: هو عاصم بن أبي النجود بهدلة الكوفي، أبو بكر، أحد القراء السبعة، تابعي توفي عام 127 ه (غاية النهاية 1/ 346).
(6) عليّ: هو علي بن حمزة بن عبد اللّه الأسدي، أبو الحسن الكسائي، إمام في اللغة و النحو و القراءة ولد عام 119 ه و مات عام 189 ه (غاية النهاية 1/ 535).
(7) غافر، 40/ 16.
(8) الحسن: هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، كان إمام أهل البصرة و حبر الأمة في زمنه، ولد عام 22 ه، و مات عام 110 ه (الأعلام 2/ 226).
(9) في (ظ) علمك.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 35
[سورة الفاتحة (1): آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
الظّرف على طريق الاتساع، كقولهم: يا سارق اللّيلة أهل الدّار، أي مالك الأمر كلّه في يوم الدّين، و التخصيص بيوم الدّين لأن الأمر فيه للّه وحده، و إنّما ساغ وقوعه صفة للمعرفة مع أنّ إضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية، لأنّه أريد به الاستمرار فكانت الإضافة حقيقية فساغ أن يكون صفة للمعرفة، و هذه الأوصاف التي أجريت على اللّه سبحانه و تعالى من كونه ربّا أي مالكا للعالمين، و منعما بالنّعم كلّها، و مالكا للأمر كلّه يوم الثواب و العقاب بعد الدّلالة على اختصاص الحمد به في قوله: الحمد للّه دليل على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحقّ منه بالحمد و الثّناء عليه.
5- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إيّا عند الخليل و سيبويه «1» اسم مضمر، و الكاف حرف خطاب عند سيبويه و لا محل له من الإعراب. و عند الخليل هو اسم مضمر أضيف إيّا إليه لأنّه يشبه المظهر لتقدّمه على الفعل و الفاعل، و قال الكوفيون:
إيّاك بكمالها اسم، و تقديم المفعول لقصد الاختصاص، و المعنى نخصّك بالعبادة، و هي أقصى غاية الخضوع و التّذلّل، و نخصّك بطلب المعونة، و عدل عن الغيبة إلى الخطاب للالتفات، و هو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى التّكلّم كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «2» و قوله «3» : وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ «4» و قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالأثمد
و نام الخلق «5» و لم ترقد
و بات و باتت له ليلة
كليلة ذي العائر الأرمد
و ذلك من نبإ جاءني
و خبرته عن أبي الأسود
فالتفت في الأبيات الثلاثة «6» حيث لم يقل ليلي، و بتّ و جاءه «7» ، و العرب يستكثرون منه، و يرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القلوب «8»
(1) سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، أبو بشير، إمام النحاة ولد عام 148 ه و توفي عام 180 ه، و في مكان وفاته و السنة التي مات فيها خلاف (الأعلام 5/ 81).
(2) يونس، 10/ 22.
(3) في (ظ) كقوله.
(4) فاطر، 35/ 9.
(5) في (ظ) و (ز) الخليّ.
(6) في (ظ) الثالث، و هو خطأ من الناسخ.
(7) في (ظ) و (ز) جاءك.
(8) في (ز) القبول.
مدارك التنزيل و حقايق التاويل، ج1، ص: 36
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
عند السّامع، و أحسن تطرية «1» لنشاطه، و أملأ باستدرار إصغائه «2» ، و قد تختص مواقعه بفوائد و لطائف قلما «3» تتضح إلا للحذّاق المهرة، و العلماء النحارير و قليل ما هم، و مما اختص به هذا الموضع أنّه «4» لما ذكر الحقيق بالحمد و الثّناء، و أجرى عليه تلك الصفات العظام تعلّق العلم بمعلوم «5» عظيم الشأن، حقيق بالثناء، و غاية الخضوع و الاستعانة في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل إيّاك يا من هذه صفاته نعبد و نستعين لا غيرك، و قدّمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة، أو لنظم الآي كما قدّم الرّحمن، و إن كان الأبلغ لا يقدّم، و أطلقت الاستعانة لتتناول كلّ مستعان فيه، و يجوز أن يراد الاستعانة به و بتوفيقه على أداء العبادة «6» ، و يكون قوله: إهدنا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنّه قيل كيف أعينكم؟ فقالوا:
6- اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي ثبّتنا على المنهاج الواضح، كقولك للقائم: قم حتى أعود إليك، أي اثبت على ما أنت عليه، أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال، و هدى يتعدّى إلى مفعول بنفسه «7» فأمّا تعديه إلى مفعول آخر فقد جاء «8» متعديا إليه بنفسه، في هذه الآية «9» ، و قد جاء متعديا باللام و بإلى كقوله تعالى: هَدانا لِهذا «10» و قوله: هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «11» و السراط:
الجادة من سرط الشيء إذا ابتلعه، كأنه يسرط السّابلة إذا سلكوه، و الصّراط من قلب السّين صادا لتجانس الطاء في الإطباق، لأن الصاد و الضاد و الطاء و الظاء حروف «12» الإطباق، و قد تشم الصاد صوت الزّاي لأن الزاي إلى الطّاء أقرب «13» ، لأنهما مجهورتان، و هي قراءة حمزة «14» ، ...
(1) في (ظ) نظرائه.
(2) في (ظ) ما لما باستلزام إصغائه، و في (ز) و أملا لاستلذاذ إصغائه.
(3) في (ظ) فإنما.
(4) ليست في (ظ).
(5) في (ظ) لمعلوم.
(6) في (ز) العبادات.
(7) في (ز) يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد.
(8) ليس في (ظ) متعديا إليه بنفسه كما في هذه الآية.
(9) في (ز) كهذه.
(10) الأعراف، 7/ 43.
(11) الأنعام، 6/ 161.
(12) في (ز) و الظاء من حروف.
(13) في (ظ) و قد يسم الصاد صوت الزاي إلى الطاء أقرب.