کتابخانه تفاسیر
معانى القرآن، ج2، ص: 88
فجعله مبروزا على غير «1» فعل، أي إن ذلك من صفاته فجاز مفعول لمفعل، كما جاز فاعل لمفعول إذ لم «2» يردّ البناء على الفعل.
و قوله: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [24] و ذلك أن النبىّ صلى اللّه عليه و سلم قال: إن اللّه و ملائكته يصلّون على الصفوف الأول فى الصّلاة، فابتدرها الناس و أراد بعض المسلمين أن يبيع داره النّائية ليدنو من المسجد فيدرك الصفّ الأوّل؛ فأنزل اللّه- عزّ و جلّ- (وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) «3» فإنّا نجزيهم على نيّاتهم فقرّ الناس.
[قوله: مِنْ صَلْصالٍ [26]].
و يقال: إن الصلصال طين حرّ خلط برمل فصار يصلصل كالفخّار و المسنون: المتغيّر و اللّه أعلم أخذ من سننت الحجر على الحجر، و الذي يخرج مما بينهما يقال له: السّنين.
و قوله: مِنْ نارِ السَّمُومِ [27].
يقال: إنها نار دونها الحجاب. قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثنى حبّان عن رجل عن الحسن قال: خلق اللّه عزّ و جلّ- الجانّ أبا الجنّ من نار السّموم و هى نار دونها الحجاب (و هذا الصوت الذي تسمعونه عند الصواعق من انعطاط «4» الحجاب).
و قوله: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [29].
سجود تحيّة و طاعة لا لربوبيّة و هو مثل قوله فى يوسف (وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً) «5» .
(1) و لو جاء على الفعل لقال: «مبرز» من أبرزه، و لا يقال: برزه.
(2) هذا الضبط من ا، و هو من الرد. و لو ضبط «يرد» من الإرادة كان له وجه.
(3) ا: «و إنا».
(4) سقط ما بين القوسين فى ش. و الانعطاط: الانشقاق.
(5) الآية 100 سورة يوسف
معانى القرآن، ج2، ص: 89
و قوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [40] و يقرأ (المخلصين) «1» فمن كسر اللام جعل الفعل لهم كقوله تبارك و تعالى (وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ) «2» و من فتح فاللّه أخلصهم كقوله: (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ «3» بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) و قوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [41].
يقول: مرجعهم إلىّ فأجازيهم. و هو كقوله تبارك و تعالى (إِنَّ رَبَّكَ «4» لَبِالْمِرْصادِ) فى الفجر.
فيجوز فى مثله من الكلام أن تقول لمن أوعدته: طريقك علىّ و أنا على طريقك: أ لا ترى أنه قال (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فهذا كقولك: أنا على طريقك. (صِراطٌ عَلَيَّ) أي هذا طريق علىّ و طريقك علىّ. و قرأ بعضهم «5» (هذا صراط علىّ) رفع يجعله نعتا للصراط؛ كقولك: صراط مرتفع مستقيم.
و قوله: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ [44] يعنى: من الكفّار (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) يقول:
نصيب معروف. و السّبعة الأبواب أطباق بعضها فوق بعض. فأسفلها الهاوية، و أعلاها جهنّم.
و قوله: أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ [54] لو لم يكن فيها (على) لكان صوابا أيضا.
و مثله (حَقِيقٌ «6» عَلى أَنْ لا أَقُولَ) و فى قراءة عبد اللّه (حقيق بأن لا أقول) و مثله فى الكلام أتيتك أنك تعطى فلم أجدك تعطى، تريد: أتيتك على أنك تعطى فلا أراك كذلك.
و قوله: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) النون منصوبة؛ لأنه فعل لهم لم يذكر مفعول «7» . و هو جائز فى الكلام.
(1) كسر اللام لغير نافع و عاصم و حمزة و الكسائي و أبى جعفر و خلف كما فى الإتحاف
(2) الآية 146 سورة النساء.
(3) الآية 46 سورة ص.
(4) الآية 14.
(5) هى قراءة يعقوب و الحسن كما فى الإتحاف.
(6) الآية 105 سورة الأعراف.
(7) كذا. و الأولى: «مفعوله» أو سقط «له» و الأصل: «له مفعول».
معانى القرآن، ج2، ص: 90
و قد كسر أهل «1» المدينة يريدون أن يجعلوا النون مفعولا بها. و كأنهم شدّدوا النون فقالوا (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا) ثم خفّفوها و النّيّة على تثقيلها كقول عمرو بن معدى كرب:
رأته كالثّغام يعلّ مسكا
يسوء الفاليات إذا فلينى «2»
فأقسم لو جعلت علىّ نذرا
بطعنة فارس لقضيت دينى
و قد خففت العرب النون من أنّ الناصبة ثم أنفذوا لها نصبها، و هى أشدّ من ذا. قال الشاعر:
فلو أنك فى يوم الرخاء سألتنى
فراقك لم أبخل و أنت صديق
فما ردّ تزويج عليه شهادة
و ما ردّ من بعد الحرار عتيق «3»
و قال آخر «4» :
لقد علم الضّيف و المرملون
إذا اغبرّ أفق و هبّت شمالا
بأنك الربيع و غيث مريع
و قدما هناك تكون الثّمالا
و قوله: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [66] أنّ مفتوحة على أن تردّ على الأمر فتكون فى موضع نصب بوقوع القضاء عليها. و تكون نصبا آخر بسقوط الخافض منها أي قضينا ذلك الأمر بهذا. و هى فى قراءة عبد اللّه (و قلنا إنّ دابر) فعلى هذا لو قرىء بالكسر لكان وجها.
و أما (مُصْبِحِينَ) إذا أصبحوا، و مشرقين إذا أشرقوا. و ذلك إذا شرقت الشمس. و الدابر: الأصل.
شرقت: طلعت، و أشرقت: أضاءت.
(1) يريد نافعا.
(2) الهاء فى (رأته) لشعره، الثغام ثنت له نور أبيض شبه به الشيب. و يعل: يطيب شيئا بعد شىء. و انظر سيبويه 2/ 154، و الخزانة 2/ 445.
(3) مخاطب أو أنه و قد سألته الطلاق. و يريد بيوم الرخاء، ما قبل إحكام عقد لنكاح؛ و الحرار الحرقة و الخلوص من الرق. و انظر الخزانة 2/ 465.
(4) أي شخص آخر و هو جنوب أخت عمرو ذى الكلب ترثيه. و المرملون: الذين نفدت أزوادهم؛ و يقال:
أرمل، و اغبرار الأفق يكون فى الشتاء لكثرة الأمطار و هو زمن الجدب. و المريع الخصيب. و الشمال الغياث. و انظر الخزانة 4/ 352.
معانى القرآن، ج2، ص: 91
و قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [85] يقال: للمتفكرين. و يقال للناظرين المتفرسين.
قوله: الأيكة [78] قرأها الأعمش و عاصم و الحسن البصرىّ: (الأيكة) بالهمز فى كل القرآن. و قرأها أهل المدينة كذلك إلا فى الشعراء و فى ص فإنهم جعلوها بغير ألف و لام و لم يجروها.
و نرى- و اللّه أعلم- أنها كتبت فى هذين الموضعين على ترك الهمز فسقطت الألف لتحرك اللام.
فينبغى أن تكون القراءة فيها بالألف و اللام لأنها موضع واحد فى قول الفريقين، و الأيكة:
الغيضة.
و قوله: وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [79] يقول: بطريق لهم يمرون عليها فى أسفارهم. فجعل الطريق إماما لأنه يؤمّ و يتّبع.
و قوله تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمنين [82] أن تخرّ عليهم. و يقال: آمنين للموت.
و قوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [87] يعنى فاتحة الكتاب و هى سبع آيات فى قول أهل المدينة و أهل العراق. أهل المدينة يعدون «1» (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية. حدّثنا محمد قال حدثنا الفراء قال: و حدثنى حبّان عن الكلبىّ عن أبى صالح عن ابن عباس قال: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم آية من الحمد. و كان حمزة يعدّها آية و آتيناك (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) .
و قوله: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [89] كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [90] يقول: أنذرتكم ما أنزل بالمقتسمين. و المقتسمون رجال من أهل مكّة بعثهم أهل مكّة على عقابها «2» أيّام الحجّ فقالوا: إذا سألكم الناس عن النبىّ صلى اللّه عليه و سلم فقولوا: كاهن. و قالوا لبعضهم قولوا: ساحر، و لبعضهم: يفرق
(1) أي لما لم يعدوا البسملة آية من الفاتحة عدوا أنعمت عليهم آية و بذلك كانت الآيات سبعا؛ أما من عد البسملة آية فلا يعد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية.
(2) العقاب جمع عقبة و هى المرقى فى الجبل أو الطريق فيه.
معانى القرآن، ج2، ص: 92
بين الإثنين و لبعضهم قولوا: مجنون، فأنزل اللّه تبارك و تعالى بهم خزيا فماتوا أو خمسة منهم شرّ ميتة فسمّوا المقتسمين لأنهم اقتسموا طرق مكّة.
و قوله: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [91] يقول: فرّقوه إذ جعلوه سحرا و كذبا و أساطير الأولين. و العضون فى كلام العرب: السحر بعينه. و يقال: عضّوه أي فرّقوه كما تعضّى الشاة و الجزور. و واحدة العضين عضة رفعها عضون و نصبها و خفضها عضين. و من العرب من يجعلها بالياء على كل حال و يعرب نونها فيقول: عضينك، و مررت بعضينك و سنينك و هى كثيرة فى أسد و تميم. و عامر. أنشدنى بعض بنى عامر:
ذرانى من نجد فإن سنينه
لعبن بنا شيبا و شيّبننا مردا
متى ننج حبوا من سنين ملحّة
نشمّر لأخرى تنزل الأعصم الفردا «1»
و أنشدنى فى بعض بنى أسد:
مثل المقالى ضربت قلينها «2»
من القلة و هى لعبة للصبيان، و بعضهم:
إلى برين الصفر الملويات «3»
و واحد البرين برة. و مثل ذلك الثّبين «4» و عزين «5» يجوز فيه ما جاز فى العضين و السنين.
(1) الشعر للصمة بن عبد اللّه القشيري كما فى شواهد العيني فى مبحث الإعراب 1/ 170 على هامش الخزانة. و الأعصم من الظباء و الوعول: ما فى ذراعيه أو إحداهما بياض و سائره أسود أو أحمر. و العصم تسكن أعالى الجبال.
(2) المقالى جمع المقلى أو المقلاء، و القلون جمع القلة. و القلة و المقلاء عودان يلعب بهما الصبيان. فالقلة خشبة قدر ذراع تنصب؛ و المقلاء يضرب به القلة. و فى شفاء العليل فى حرف الناف أنها كات تسمى فى أيام المؤلف عقلة.
(3) البرون جمع البرة و هى الحلقة من صفر أو غيره تجعل فى أنف البعير و الصفر النحاس.
(4) جمع ثبة و هى الجماعة و العصبة من الفرسان. و تجمع الثبة أيضا على ثبات.
(5) العزون جمع العزة و هى العصبة من الناس.
معانى القرآن، ج2، ص: 93
و إنما جاز ذلك فى هذا المنقوص الذي كان على ثلاثة أحرف فنقصت لامه، فلمّا جمعوه بالنون توهّموا انه فعول إذ جاءت الواو و هى واو جماع، فوقعت فى موضع الناقص، فتوهّموا أنها الواو الأصليّة و أن الحرف على فعول؛ أ لا ترى أنهم لا يقولون ذلك فى الصالحين و المسلمين و ما أشبهه.
و كذلك قولهم الثبات و اللغات، و ربما «1» عرّبوا التاء منها بالنصب و الخفض و هى تاء جماع ينبغى أن تكون خفضا فى النصب و الخفض، فيتوهّمون أنها هاء، و أن الألف قبلها من الفعل. و أنشدنى بعضهم:
إذا ما جلاها بالأيام تحيرت
ثباتا عليها ذلّها و اكتثابها «2»
و قال أبو الجراح فى كلامه: ما من قوم إلا و قد سمعنا لغاتهم- قال قال الفراء: رجع أبو الجراح فى كلامه عن قول لغاتهم- و لا يجوز ذلك فى الصالحات و الأخوات لأنها تامّة لم ينقص من واحدها شىء، و ما كان من حرف نقص من أوّله مثل زنة و لدة و دية فإنه لا يقاس على هذا لأن نقصه من أوّله لا من لامه فما كان منه مؤنّثا أو مذكّرا فأجره على التامّ مثل الصالحين و الصالحات تقول رأيت لداتك و لديك و لا تقل لدينك و لا لداتك إلا أن يغلط بها الشاعر فإنه ربما شبّه الشيء بالشيء إذا خرج عن لفظه، كما لم يجر «3» بعضهم أبو سمّان و النون من أصله من السمن لشبهه بلفظ ريّان و شبهه.
و قوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [94] و لم يقل: بما تؤمر به- و اللّه اعلم- أراد: فاصدع بالأمر.
و لو كان مكان (ما) من أو ما مما يراد به البهائم لأدخلت بعدها الباء كما تقول: اذهب إلى من تؤمر به و اركب ما تؤمر به، و لكنه فى المعنى بمنزلة المصدر؛ ألا ترى أنك تقول: ما أحسن
(1) الأسوغ حذف الواو.
(2) من قصيدة لأبى ذؤيب الهزلى. و البيت فى الحديث عن مشتار العسل. يقول: إنه اجتلى النحل بالأيام و هو الدخان أي أبرزها و أظهرها حين دخن عليها، و حينئذ تجمعت و تحيرت عصبا و فرقا و هى ذليلة إذ أحست أن المشتار غلبها و انظر ديوان الهذليين 1/ 79.
(3) أي يصرف و ينون.
معانى القرآن، ج2، ص: 94
ما تنطلق لأنك تريد: ما أحسن انطلاقك، و ما أحسن ما تأمر إذا أمرت لأنك تريد ما أحسن أمرك. و مثله قوله «1» (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ) كأنه قيل له: افعل الأمر الذي تؤمر. و لو أريد به إنسان أو غيره لجاز و إن لم يظهر الباء لأن العرب قد تقول: إنى لآمرك و آمر بك و أكفرك و أكفر بك فى معنى واحد. و مثله كثير، منه قولهم:
إذا قالت حذام فأنصتوها
فإنّ القول ما قالت حذام «2»
يريد: فانصتوا لها، و قال اللّه تبارك و تعالى (أَلا إِنَ «3» ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) و هى فى موضع (يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) و (كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ)* و اصدع: أظهر دينك.
و من سورة النحل
[قوله: سبحانه و تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ].
حدثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال حدّثنى عماد بن الصّلت العكلىّ عن سعيد بن مسروق أبى سفيان عن الربيع بن خيثم «4» أنه قرأ (سبحانه و تعالى عمّا تشركون) الأولى و التي بعدها كلتاهما «5» بالتاء: و تقرأ بالياء. فمن قال بالتاء فكأنه خاطبهم و من قرأ بالياء فكأنّ القرآن نزل على محمد صلّى اللّه عليه و سلم ثم قال (سُبْحانَهُ) يعجّبه من كفرهم و إشراكهم.
و قوله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ [2] بالياء، و (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) بالتاء «6» . و قراءة أصحاب عبد اللّه (ينزّل الملائكة) بالياء.
(1) الآية 102 سورة الصافات.
(2) سبق هذا البيت فى ص 215 من الجزء الأول.
(3) الآية 68 سورة هود.
(4) فى ا: «خثيم، بتقدم المثلثة على الياء. و التصويب من الخلاصة. و كانت وفاته سنة 64 ه
(5) و هى قراءة حمزة و الكسائي و خلف.