کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 22
تفسير الاستعاذة
إن قولنا: (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) لا شك أن المراد منه الاستعاذة باللّه من جميع المنهيات و المحظورات، و لا شك أن المنهيات إما أن تكون من باب/ الاعتقادات، أو من باب أعمال الجوارح، أما الاعتقادات فقد جاء في الخبر المشهور
قوله صلّى اللّه عليه و سلم «ستفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة: كلهم في النار إلا فرقة واحدة»
و هذا يدل على أن الاثنتين و السبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة، و المذاهب الباطلة، ثم إن ضلال كل واحدة من أولئك الفرق غير مختص بمسألة واحدة، بل هو حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المتعلقة بذات اللّه تعالى، و بصفاته، و بأحكامه، و بأفعاله، و بأسمائه، و بمسائل الجبر، و القدر، و التعديل، و التجويز، و الثواب، و المعاد، و الوعد، و الوعيد، و الأسماء، و الأحكام، و الإمامة، فإذا وزعنا عدد الفرق الضالة- و هو الاثنتان و السبعون- على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما، و كل ذلك أنواع الضلالات الحاصلة في فرق الأمة، و أيضا فمن المشهور أن فرق الضلالات من الخارجين عن هذه الأمة يقربون من سبعمائة، فإذا ضمت أنواع ضلالاتهم إلى أنواع الضلالات الموجودة في فرق الأمة في جميع المسائل العقلية المتعلقة بالإلهيات، و المتعلقة بأحكام الذوات و الصفات بلغ المجموع مبلغا عظيما في العدد، و لا شك أن قولنا (أعوذ باللّه) يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع، و الاستعاذة من الشيء لا تمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه، و إلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا و قبيحا، فظهر بهذا الطريق أن قولنا: (أعوذ باللّه) مشتمل على الألوف من المسائل الحقيقية اليقينية، و أما الأعمال الباطلة فهي عبارة عن كل ما ورد النهي عنه إما في القرآن، أو في الأخبار المتواترة، أو في أخبار الآحاد، أو في إجماع الأمة، أو في القياسات الصحيحة، و لا شك أن تلك المنهيات تزيد على الألوف، و قولنا (أعوذ باللّه) متناول لجميعها و جملتها، فثبت بهذا الطريق أن قولنا (أعوذ باللّه) مشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 23
سورة الفاتحة
تفسير البسملة
: و أما قوله جل جلاله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ففيه نوعان من البحث: النوع الأول: قد اشتهر عند العلماء أن للّه تعالى ألفا و واحدا من الأسماء المقدسة المطهرة، و هي موجودة في الكتاب و السنة و لا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية، و أيضا فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقا بالعلم بالمسمى، و في البحث عن ثبوت تلك المسميات، و عن الدلائل الدالة على ثبوتها، و عن أجوبة الشبهات التي تذكر في نفيها مسائل كثيرة، و مجموعها يزيد على الألوف، النوع الثاني: من مباحث هذه الآية: أن الباء في قوله بِسْمِ اللَّهِ باء الإلصاق، و هي متعلقة بفعل، و التقدير: باسم اللّه أشرع في أداء الطاعات، و هذا المعنى لا يصير ملخصا معلوما إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات، و هي العقائد الحقة و الأعمال الصافية مع الدلائل و البينات، و مع الأجوبة عن الشبهات، و هذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.
و من اللطائف أن قوله (أعوذ باللّه) إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد و الأعمال، و قوله بِسْمِ اللَّهِ إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات و العمليات، فقوله بِسْمِ اللَّهِ لا يصير/ معلوما إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة، و الأعمال الصافية، و هذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح، و الحق الصريح.
نعم اللّه تعالى التي لا تحصى
: أما قوله جل جلاله الْحَمْدُ لِلَّهِ فاعلم أن الحمد إنما يكون حمدا على النعمة، و الحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة، لكن أقسام نعم اللّه خارجة عن التحديد و الإحصاء، كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] و لنتكلم في مثال واحد، و هو أن العاقل يجب أن يعتبر ذاته، و ذلك لأنه مؤلف من نفس و بدن، و لا شك أن أدون الجزءين و أقلهما فضيلة و منفعة هو البدن، ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريبا من خمسة آلاف نوع من المنافع و المصالح التي دبرها اللّه عز و جل بحكمته في تخليق بدن الإنسان، ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في «كتب التشريح» عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم و ما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط، و عند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر، ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم اللّه تعالى في تخليق العرش و الكرسي و أطباق السموات، و أجرام النيرات من الثوابت و السيارات، و تخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص و لون مخصوص و غير مخصوص، ثم يضم إليها آثار حكم اللّه تعالى في تخليق الأمهات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 24
و المولدات من الجمادات و النباتات و الحيوانات و أصناف أقسامها و أحوالها- علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل، ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان، كما قال تعالى:
وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [الجاثية: 13] و حينئذ يظهر أن قوله جل جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ مشتمل على ألف ألف مسألة، أو أكثر أو أقل.
أنواع العالم و إمكان وجود عوالم أخرى
: و أما قوله جل جلاله: رَبِّ الْعالَمِينَ فاعلم أن قوله: رَبِ مضاف و قوله: الْعالَمِينَ مضاف إليه، و إضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربا للعالمين إلا بعد معرفة رب و العالمين، ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى اللّه تعالى، و هي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، و المفارقات، و الصفات. أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات، أو البسائط فهي الأفلاك و الكواكب و الأمهات، و أما المركبات فهي المواليد الثلاثة، و اعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة، و ذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، و ثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم،/ بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم و أجسم من هذا العالم، و يحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش و الكرسي و السموات و الأرضين و الشمس و القمر، و دلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية، قال أبو العلاء المعري:-
يا أيها الناس كم للّه من فلك
تجري النجوم به و الشمس و القمر
هين على اللّه ماضينا و غابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
و معلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل و أراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات و الأحجار الصافية و أنواع الكباريت و الزرانيخ و الأملاح، و أن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار و الأنوار و الثمار، و عجائب أقسام الحيوانات من البهائم و الوحوش و الطيور و الحشرات- لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، و لا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] و هي بأسرها و أجمعها داخلة تحت قوله رَبِّ الْعالَمِينَ .
رحمة اللّه تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها
: و أما قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، و عن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات، و هي كثيرة لا يعلمها إلا اللّه تعالى، و من شاء أن يقف على قليل منها فليطالع «كتب الطب» حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء و الأجزاء، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 25
الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية و الأدوية من المعادن و النبات و الحيوان، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحرا لا ساحل له.
و قد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال: بخلت على الناس بذكر حكمة اللّه تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد، فرأيت في النوم كأن ملكا نزل من السماء و قال يا جالينوس، إن إلهك يقول: لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي؟ قال: فانتبهت فصنفت فيه كتابا، و قال أيضا: إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع، فرأيت في الهيكل كأن ملكا نزل من السماء و أمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر و البنصر، و أكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات/ و الإلهامات، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة اللّه تعالى على عباده خارجة عن الضبط و الإحصاء.
أحوال الآخرة و تقسيمها إلى عقلية و سمعية
: و أما قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا، و سنوه كالفراسخ، و شهوره كالأميال، و أنفاسه كالخطوات، و مقصده الوصول إلى عالم أخراه، لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات، فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض و السموات فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة و البهجة و السعادة، إذا عرفت هذه فنقول: قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إشارة إلى مسائل المعاد و الحشر و النشر، و هي قسمان: بعضها عقلية محضة، و بعضها سمعية:
أما العقلية المحضة
فكقولنا: هذا العالم يمكن تخريبه و إعدامه، ثم يمكن إعادته مرة أخرى، و إن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته، و هذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس، و كيفية أحوالها و صفاتها، و كيفية بقائها بعد البدن، و كيفية سعادتها و شقاوتها، و بيان قدرة اللّه عز و جل على إعادتها، و هذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية.
و أما السمعيات
فهي على ثلاثة أقسام: أحدها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، و تلك العلامات منها صغيرة، و منها كبيرة و هي العلامات العشرة التي سنذكرها و نذكر أحوالها. و ثانيها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، و هي كيفية النفخ في الصور، و موت الخلائق، و تخريب السموات و الكواكب، و موت الروحانيين و الجسمانيين. و ثالثها: الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة و شرح أحوال أهل الموقف، و هي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق، و كيفية الأحوال التي يشاهدونها، و كيفية حضور الملائكة و الأنبياء عليهم السلام، و كيفية الحساب، و كيفية وزن الأعمال، و ذهاب فريق إلى الجنة و فريق إلى النار، و كيفية صفة أهل الجنة و صفة أهل النار، و من هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة و أهل النار بعد وصولهم إليها، و شرح الكلمات التي يذكرونها و الأعمال التي يباشرونها، و لعل مجموع هذه المسائل العقلية و النقلية يبلغ الألوف من المسائل، و هي بأسرها داخلة تحت قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
و أما قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 26
سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلها واحدا. قادرا على مقدورات لا نهاية لها، عالما بمعلومات لا نهاية لها، غنيا عن كل الحاجات، فإنه أمر عباده ببعض الأشياء، و نهاهم عن بعضها، و أنه يجب على الخلائق طاعته و الانقياد لتكاليفه- فإنه/ لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لا بد من تفصيل أقسام تلك التكاليف، و بيان أنواع تلك الأوامر و النواهي، و جميع ما صنف في الدين من «كتب الفقه» يدخل فيه تكاليف اللّه، ثم كما يدخل فيه تكاليف اللّه تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف اللّه تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء المتقدمين، و أيضا يدخل فيه الشرائع التي كلف اللّه بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة و أمرهم بالاشتغال بالعبادات و الطاعات، و أيضا «فكتب الفقه» مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح، أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر و أعظم و أجل، و هي التي تشتمل عليها «كتب الأخلاق»، و «كتب السياسات»، بحسب الملل المختلفة و الأمم المتباينة، و إذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث و علم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ علم حينئذ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول و الأفكار إلا إلى القليل منها.
أما قوله جل جلاله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فاعلم أنه عبارة عن طلب الهداية، و لتحصيل الهداية طريقان: أحدهما: طلب المعرفة بالدليل و الحجة، و الثاني: بتصفية الباطن و الرياضة، أما طرق الاستدلال فإنها غير متناهية لأنها لا ذرة من ذرات العالم الأعلى و الأسفل إلا و تلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته، و بعزة عزته، و بجلال صمديته، كما قيل:-
و في كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
و تقريره: أن أجسام العالم متساوية في ماهية الجسمية، و مختلفة في الصفات، و هي الألوان و الأمكنة و الأحوال، و يستحيل أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة لأجل الجسمية أو لوازم الجسمية، و إلا لزم حصول الاستواء، فوجب أن يكون ذلك لتخصيص مخصص و تدبير مدبر، و ذلك المخصص إن كان جسما عاد الكلام فيه، و إن لم يكن جسما فهو المطلوب، ثم ذلك الموجود إن لم يكن حيا عالما قادرا، بل كان تأثيره بالفيض و الطبع عاد الإلزام في وجوب الاستواء، و إن كان حيا عالما قادرا فهو المطلوب، إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من ذرات السموات و الأرض شاهد صادق، و مخبر ناطق، بوجود الإله القادر الحكيم العليم، و كان الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر رحمه اللّه يقول: إن للّه تعالى في كل جوهر فرد أنواعا غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة و الحكمة و الرحمة، و ذلك لأن كل جوهر فرد فإنه يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل، و يمكن أيضا اتصافه بصفات غير متناهية/ على البدل، و كل واحد من تلك الأحوال المقدرة فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم الرحيم، فثبت بما ذكرنا أن هذا النوع من المباحث غير متناه. و أما تحصيل الهداية بطريق الرياضة و التصفية فذلك بحر لا ساحل له، و لكل واحد من السائرين إلى اللّه تعالى منهج خاص، و مشرب معين، كما قال: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [البقرة: 148] و لا وقوف للعقول على تلك الأسرار، و لا خبر عند الأفهام من مبادئ ميادين تلك الأنوار، و العارفون المحققون لحظوا فيها مباحث عميقة، و أسرارا دقيقة، قلما ترقى إليها أفهام الأكثرين.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 27
و أما قوله جل جلاله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ فما أجل هذه المقامات، و أعظم مراتب هذه الدرجات! و من وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادئ هذه الحالات، فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السورة مشتملة على مباحث لا نهاية لها، و أسرار لا غاية لها، و أن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسألة، كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين.
الفصل الثاني في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة
و لنتكلم في قولنا: أَعُوذُ بِاللَّهِ فنقول: أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع، و الفعل المضارع نوع من أنواع الفعل، و أما الباء في قوله «باللّه» فهي باء الإلصاق، و هي نوع من أنواع حروف الجر، و حروف الجر نوع من أنواع الحروف. و أما قولنا «اللّه» فهو اسم معين: إما من أسماء الأعلام، أو من الأسماء المشتقة، على اختلاف القولين فيه، و الاسم العلم و الاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم، و قد ثبت في العلوم العقلية، أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس، لأن الجنس جزء من ماهية النوع، و العلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة، فقولنا: أَعُوذُ بِاللَّهِ لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم و الفعل و الحرف أولا، و هذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها و خواصها، ثم بعد الفراغ منه لا بد من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم، و إلى الاسم المشتق، و إلى اسم الجنس، و تعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده و رسمه و خواصه، ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة اللَّهِ اسم علم، أو اسم مشتق، و بتقدير أن يكون مشتقا فهو مشتق من ماذا؟ و يذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها، و أيضا يجب البحث/ عن حقيقة الفعل المطلق، ثم يذكر بعده أقسام الفعل، و من جملتها الفعل المضارع، و يذكر حده و خواصه و أقسامه، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا «أعوذ» على التخصيص، و أيضا يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده و خواصه و أحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده و خواصه، و عند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله:
أَعُوذُ بِاللَّهِ و من المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جدا.
ثم نقول: و المرتبة الرابعة: من المراتب أن نقول: الاسم و الفعل و الحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة، فيجب البحث أيضا عن ماهية الكلمة وحدها و خواصها، و أيضا فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة، و هي: الكلام، و القول، و اللفظ، و اللغة، و العبارة، فيجب البحث عن كل واحد منها، ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة، أو من الألفاظ المتباينة، و بتقدير أن تكون ألفاظا متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل و التحصيل.
ثم نقول: و المرتبة الخامسة: من البحث أن نقول: لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 28
و الحروف، فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت، و عن أسباب وجوده و لا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر، فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس، و أنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفسا على سبيل الضرورة و أن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه، و عند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب و الرئة، و معرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت و معرفة سائر العضلات المحركة للبطن و الحنجرة و اللسان و الشفتين، و أما الحرف فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت، أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له؟ و أيضا لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت، و هي مخارج مخصوصة في الحلق و اللسان و الأسنان و الشفتين، فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس، و يجب أيضا البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود و هذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح.
ثم نقول: و المرتبة السادسة: من البحث هي أن الحرف و الصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع، و أما الألوان و الأضواء فهي كيفيات محسوسة بحاسة البصر، و الطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق، و كذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة، فهل يصح أن يقال: هذه الكيفيات/ أنواع داخلة تحت جنس واحد و هي متباينة بتمام الماهية، و أنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا؟.
ثم نقول: و المرتبة السابعة: من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور، فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف، ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا؟.
ثم نقول: و المرتبة الثامنة: أن مقولة الكيف، و مقولة الكم، و مقولة النسبة عرض، فيجب البحث عن مقولة العرض و أقسامه، و عن أحكامه و لوازمه و توابعه.
ثم نقول: و المرتبة التاسعة: أن العرض و الجواهر يشتركان في الدخول تحت الممكن و الواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود، فيجب البحث عن لواحق الوجود و العدم، و هي كيفية وقوع الموجود على الواجب و الممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها و سائر المباحث المتعلقة بهذا الباب.
ثم نقول: و المرتبة العاشرة: أن نقول: لا شك أن المعلوم و المذكور و المخبر عنه يدخل فيها الموجود و المعدوم، فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود؟ و من الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم، و أيضا فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم، و لا شك أن المعلوم مقابله غير المعلوم، لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلا لغيره، فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلا للمعلوم، وجب أن يكون غير المعلوم معلوما، فحينئذ يكون المقابل للمعلوم معلوما، و ذلك محال.