کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 154
الثانية عشرة: الباء من «بسم» مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا و الآخرة، و أجل بره و كرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته.
مرض لبعضهم جار يهودي قال: فدخلت عليه للعيادة و قلت له: أسلم، فقال: على ماذا؟ قلت: من خوف النار قال: لا أبالي بها، فقلت: للفوز بالجنة، فقال: لا أريدها، قلت: فماذا تريد؟ قال: على أن يريني وجهه الكريم، قلت: أسلم على أن تجد هذا المطلوب، فقال لي: أكتب بهذا خطاً، فكتبت له بذلك خطاً فأسلم و مات من ساعته، فصلينا عليه و دفناه، فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له: يا شمعون، ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، و قال لي: أسلمت شوقاً إلي.
و أما السين فهو مشتق من اسمه السميع، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى.
روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل هاهنا و نستريح، فدخلا و نام زيد فأوثق المنافق زيداً و أراد قتله، فقال زيد: لم تقتلني؟ قال: لأن محمداً يحبك و أنا أبغضه، فقال زيد: يا رحمن أغثني، فسمع المنافق صوتاً يقول: ويحك لا تقتله، فخرج من الخربة و نظر فلم ير أحداً، فرجع و أراد قتله فسمع صائحاً أقرب من الأول يقول: لا تقتله، فنظر فلم يجد أحداً، فرجع الثالثة و أراد قتله فسمع صوتاً قريباً يقول: لا تقتله، فخرج فرأى فارساً معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله، و دخل الخربة و حل وثاق زيد، و قال له: أما تعرفني؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال اللّه عز و جل: (أدرك عبدي)، و في الثانية كنت في السماء الدنيا، و في الثالثة بلغت إلى المنافق.
و أما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه و ملكه.
قال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، فأتوه فقالوا له: يا نبي اللّه، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء، فخرجوا و إذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها و هي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، و لا غنى لي عن فضلك، قال: فصب اللّه تعالى عليهم المطر، فقال لهم سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم.
أما قوله: «اللّه» فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي اللّه، فإذا مت أقول اللّه، و إذا سئلت في القبر أقول اللّه، و إذا جئت يوم القيامة أقول اللّه، و أذا أخذت الكتاب أقول اللّه و إذا وزنت أعمالي أقول اللّه، و إذا جزت الصراط أقول اللّه، و إذا دخلت الجنة أقول اللّه، و إذا رأيت اللّه قلت اللّه. النكتة الثالثة عشرة: الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] فقال: أنا اللّه للسابقين، الرحمن للمقتصدين، الرحيم للظالمين، و أيضاً اللّه هو معطي العطاء، و الرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء، و الرحيم هو المتجاوز عن الجفاء، و من كمال رحمته كأنه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، و لو علمته المرأة لجفتك، و لو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك، و لو علمه الجار لسعى في تخريب الدار، و أنا أعلم كل ذلك و أستره بكرمي لتعلم أني إله كريم.
الرابعة عشرة: اللّه يوجب ولايته، قال اللّه تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 256] و الرحمن يوجب
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 155
محبته، قال اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم: 96] و الرحيم يوجب رحمته وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43].
الخامسة عشرة:
قال عليه الصلاة و السلام: من رفع قرطاساً من الأرض فيه «بسم اللّه الرحمن الرحيم» إجلالًا له تعالى كتب عند اللّه من الصديقين، و خفف عن والديه و إن كانا مشركين،
و قصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة، و
عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة و السلام قال: «يا أبا هريرة، إذا توضأت فقل: بسم اللّه، فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ، و إذا غشيت أهلك فقل: بسم اللّه، فإن حفظتك يكتبون لك؟؟؟؟؟ الحسنات حتى تخرج منها».
و
عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «ستر ما بين أعين الجن و العورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم اللّه الرحمن الرحيم،
و الإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك و بين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك و بين الزبانية في العقبى؟».
السادسة عشرة: كتب قيصر إلى عمر رضي اللّه عنه أن بي صداعاً لا يسكن فابعث لي دواء، فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه، و إذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم.
السابعة عشرة:
قال صلى اللّه عليه و سلم: «من توضأ و لم يذكر اسم اللّه تعالى كان طهوراً لتلك الأعضاء، و من توضأ و ذكر اسم اللّه تعالى كان طهوراً لجميع بدنه، فإذا كان الذكر على الوضوء طهوراً لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهوراً للقلب عن الكفر و البدعة.
الثامنة عشرة: طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال: إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم، فقال:
ائتوني بالسم القاتل، فأتي بطاس من السم، فأخذها بيده و قال: بسم اللّه الرحمن الرحيم، و أكل الكل و قام سالماً بإذن اللّه تعالى، فقال المجوس هذا دين حق.
التاسعة عشرة:
مر عيسى ابن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً، فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور، فتعجب من ذلك، فصلى و دعا اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه: يا عيسى، كان هذا العبد عاصياً و مذ مات كان محبوساً في عذابي، و كان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولداً و ربته حتى كبر، فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم اللّه الرحمن الرحيم، فاستحيت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض و ولده يذكر اسمي على وجه الأرض.
العشرون: سئلت عمرة الفرغانية- و كانت من كبار العارفات- ما الحكمة في أن الجنب و الحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت: لأن التسمية ذكر اسم الحبيب و الحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب.
الحادية و العشرون: قيل في قوله: «الرحيم» هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع في القبر و حشراته، و القيامة و ظلماته، و الميزان و درجاته، و قراءة الكتاب و فزعاته، و الصراط و مخافاته و النار و دركاته.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 156
الثانية و العشرون: كتب عارف «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و أوصى أن تجعل في كفنه فقيل له: أي فائدة لك فيه فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتاباً و جعلت عنوانه بسم اللّه الرحمن الرحيم، فعاملني بعنوان كتابك.
الثالثة و العشرون: قيل «بسم اللّه الرحمن الرحيم» تسعة عشر حرفاً، و فيه فائدتان: إحداهما: أن الزبانية تسعة عشر، فاللّه تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر، الثانية: خلق اللّه تعالى الليل و النهار أربعة و عشرين ساعة، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر.
الرابعة و العشرون: لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها/ «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و أيضاً السنة أن يقال عند الذبح «باسم اللّه، و اللّه أكبر» و لا يقال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم» لأن وقت القتال و القتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم، فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل و العذاب، و إنما خلقك للرحمة و الفضل و الإحسان، و اللّه تعالى الهادي إلى الصواب.
[الكتاب الثالث] الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
و فيه أبواب
الباب الأول [أسماء الفاتحة و سببها]
اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة، و كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى:- أسماء الفاتحة و سببها:
فالأول: «فاتحة الكتاب» سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف و التعليم، و القراءة في الصلاة، و قيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره، و قيل لأنها أول سورة نزلت من السماء.
و الثاني: «سورة الحمد» و السبب فيه أن أولها لفظ الحمد.
و الثالث: «أم القرآن» و السبب فيه وجوه:- الأول: أن أم الشيء أصله، و المقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، و المعاد، و النبوات، و إثبات القضاء و القدر للّه تعالى، فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يدل على الإلهيات، و قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يدل على المعاد، و قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يدل على نفي الجبر و القدر و على إثبات أن الكل بقضاء اللّه و قدره، و قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ يدل أيضاً على إثبات قضاء اللّه و قدره و على النبوات، و سيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة و كانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 157
السبب الثاني: لهذا الاسم: أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة: إما الثناء على اللّه باللسان، و إما الاشتغال بالخدمة و الطاعة، و إما طلب المكاشفات و المشاهدات، فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ كله ثناء على اللّه، و قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اشتغال بالخدمة و العبودية، إلا أن الابتداء وقع بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و هو إشارة إلى الجد و الاجتهاد في العبودية، ثم قال: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و هو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز و الذلة و المسكنة و الرجوع إلى اللّه، و أما قوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فهو طلب للمكاشفات و المشاهدات و أنواع الهدايات.
السبب الثالث: لتسمية هذه السورة بأم الكتاب: أن المقصود من جميع العلوم: إما معرفة عزة الربوبية، أو معرفة ذلة العبودية فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا و الآخرة، ثم من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية، فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة و لا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة اللّه تعالى و هدايته.
السبب الرابع: أن العلوم البشرية إما علم ذات اللّه و صفاته و أفعاله، و هو علم الأصول و إما علم أحكام اللّه تعالى و تكاليفه، و هو علم الفروع، و إما علم تصفية الباطن و ظهور الأنوار الروحانية و المكاشفات الإلهية.
و المقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة، و هذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه: فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إشارة إلى علم الأصول: لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه رباً للعالمين، و قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد، و لا يكون مستحقاً للحمد إلا إذا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات، ثم وصفه بنهاية الرحمة- و هو كونه رحماناً رحيماً- ثم وصفه بكمال القدرة- و هو قوله مالك يوم الدين- حيث لا يهمل أمر المظلومين، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين، و عند هذا تم الكلام في معرفة الذات و الصفات و هو علم الأصول، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع، و هو الاشتغال بالخدمة و العبودية، و هو قول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ثم مزجه أيضاً بعلم الأصول مرة أخرى، و هو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات و هي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة: أولها: حصول هداية النور في القلب، و هو المراد من قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، و ثانيها: أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم اللّه عليهم بالجلايا القدسية و الجواذب الإلهية، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى، و هو قوله: صِراطَ الَّذِينَ/ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، و ثالثها: أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات، و هو قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و عن أوزار الشبهات، و هو قوله:
وَ لَا الضَّالِّينَ فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب، فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس و المنافع.
السبب الخامس: قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب، قال: سمعت أبا بكر القفال قال: سمعت أبا بكر بن دريد يقول: الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر، قال قيس بن الحطيم:-
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 158
نصبنا أمنا حتى ابذعروا
و صاروا بعد ألفتهم سلالا
فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية، و العرب تسمي الأرض أماً، لأن معاد الخلق إليها في حياتهم و مماتهم، و لأنه يقال: أم فلان فلاناً إذا قصده.
الاسم الرابع: من أسماء هذه السورة «السبع الثاني» قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] و في سبب تسميتها بالمثاني وجوه:- الأول: أنها مثنى: نصفها ثناء العبد للرب، و نصفها عطاء الرب للعبد.
الثاني: سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة.
الثالث: سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب،
قال عليه الصلاة و السلام: و الذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة، و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في الفرقان مثل هذه السورة و إنها السبع المثاني و القرآن العظيم.
الرابع: سميت مثاني لأنها سبع آيات، كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن، فمن قرأ الفاتحة أعطاه اللّه ثواب من قرأ كل القرآن.
الخامس: آياتها سبع، و أبواب النيران سبعة، فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة، و الدليل عليه ما
روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى اللّه عليه و سلم: يا محمد، كنت أخشى العذاب على أمتك. فلما نزلت الفاتحة أمنت، قال: لم يا جبريل؟ قال: لأن اللّه تعالى قال: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 43، 44] و آياتها سبع فمن قرأها صارت كل آية طبقاً على باب من أبواب جهنم، فتمر أمتك عليها منها سالمين.
السادس: سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى.
السابع: سميت مثاني لأنها أثنية على اللّه تعالى و مدائح له.
الثامن: سميت مثاني لأن اللّه أنزلها مرتين، و اعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي في سورة الحجر [الحجر: 87].
الاسم الخامس: الوافية، كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم، قال الثعلبي، و تفسيرها أنها لا تقبل التنصيف، ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرئ نصفها في ركعة و النصف الثاني في ركعة أخرى لجاز، و هذا التنصيف غير جائز في هذه السورة.
الاسم السادس: الكافية، سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها، و أما غيرها فلا يكفي عنها،
روى محمد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أم القرآن عوض عن غيرها، و ليس غيرها عوضاً عنها».
الاسم السابع: الأساس، و فيه وجوه:- الأول: أنها أول سورة من القرآن، فهي كالأساس.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 159
الثاني: أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه، و ذلك هو الأساس.
الثالث: أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة، و هذا السورة مشتملة على كل ما لا بد منه في الإيمان و الصلاة لا تتم إلا بها.
الاسم الثامن: الشفاء،
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: فاتحة الكتاب شفاء من كل سم، و مر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرئ فذكروه لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: هي أم القرآن، و هي شفاء من كل داء.
و أقول: الأمراض منها روحانية، و منها جسمانية، و الدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضاً فقال تعالى:
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] و هذه السورة مشتملة على معرفة الأصول و الفروع و المكاشفات، فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة.
الاسم التاسع: الصلاة،
قال عليه الصلاة و السلام: «يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين و المراد هذه السورة».
الاسم العاشر: السؤال،
روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حكى عن رب العزة سبحانه و تعالى أنه قال: «من شغله ذكري عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»،
و قد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] إلى أن قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً/ وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] ففي هذه السورة أيضاً وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه و تعالى و هو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ثم ذكر العبودية و هو قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم وقع الختم على طلب الهداية و هو قوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و هذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين، و هو أيضاً يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله اهْدِنَا و لم يقل أرزقنا الجنة.
الاسم الحادي عشر: سورة الشكر، و ذلك لأنها ثناء على اللّه بالفضل و الكرم و الإحسان.
الاسم الثاني عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها على قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء و اللّه أعلم.
الباب الثاني في فضائل هذه السورة، و فيه مسائل:
كيفية نزولها:
المسألة الأولى: ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال: الأول: أنها مكية،
روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش،
ثم قال الثعلبي:
و عليه أكثر العلماء، و
روي أيضاً بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال: أول ما نزل من القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و ذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسر إلى خديجة فقال: «لقد خشيت أن يكون خالطني شيء»، فقالت: و ما
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 160
ذاك؟ قال: «إني إذا خلوت سمعت النداء باقرأ»، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل و سأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة: إذا أتاك النداء فاثبت له، فأتاه جبريل عليه السلام و قال له: قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه رب العالمين،
و
بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، فقالت قريش: دق اللّه فاك.
و القول الثاني: أنها نزلت بالمدينة، روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال: فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة و هذه هفوة مجاهد، لأن العلماء على خلافه، و يدل عليه وجهان: الأول: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق، و منها قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ، [الحجر: 87] و هي فاتحة الكتاب، و هذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم، الثاني: أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب.
القول الثالث: قال بعض العلماء، هذه السورة نزلت بمكة مرة، و بالمدينة مرة أخرى، فهي مكية مدنية، و لهذا السبب سماها اللّه بالمثاني، لأنه ثنى إنزالها، و إنما كان كذلك مبالغة في تشريفها.
المسألة الثانية: في بيان فضلها،
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم،
و
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة،
و عن الحسين قال: أنزل اللّه تعالى مائة و أربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة، و هي التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب اللّه المنزلة، و من قرأها فكأنما قرأ التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.
قلت: و السبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول و الفروع و المكاشفات و قد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية.