کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 160
ذاك؟ قال: «إني إذا خلوت سمعت النداء باقرأ»، ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل و سأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة: إذا أتاك النداء فاثبت له، فأتاه جبريل عليه السلام و قال له: قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه رب العالمين،
و
بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، فقالت قريش: دق اللّه فاك.
و القول الثاني: أنها نزلت بالمدينة، روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال: فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة و هذه هفوة مجاهد، لأن العلماء على خلافه، و يدل عليه وجهان: الأول: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق، و منها قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ، [الحجر: 87] و هي فاتحة الكتاب، و هذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم، الثاني: أنه يبعد أن يقال إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب.
القول الثالث: قال بعض العلماء، هذه السورة نزلت بمكة مرة، و بالمدينة مرة أخرى، فهي مكية مدنية، و لهذا السبب سماها اللّه بالمثاني، لأنه ثنى إنزالها، و إنما كان كذلك مبالغة في تشريفها.
المسألة الثانية: في بيان فضلها،
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال فاتحة الكتاب شفاء من السم،
و
عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة،
و عن الحسين قال: أنزل اللّه تعالى مائة و أربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة، و هي التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب اللّه المنزلة، و من قرأها فكأنما قرأ التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان.
قلت: و السبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول و الفروع و المكاشفات و قد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة، فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية.
المسألة الثالثة: قالوا: هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، و هي الثاء، و الجيم و الخاء، و الزاي، و الشين، و الظاء، و الفاء، و السبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل و الثبور، قال تعالى: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان: 14] و الجيم أول حروف اسم جهنم، قال تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 43] و قال تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ [الأعراف: 179] و أسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] و قال تعالى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النحل: 27] و أسقط الزاي و الشين لأنهما أول حروف الزفير و الشهيق، قال تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ [هود: 106] و أيضاً الزاي تدل على الزقوم، قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43] و الشين تدل على الشقاوة، قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ [هود: 106] و أسقط الظاء لقوله: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ* لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات: 30، 31] و أيضاً يدل على لظى، قال تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 161
نَزَّاعَةً لِلشَّوى [المعارج: 15، 16] و أسقط الفاء، لأنه يدل على الفراق، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] و أيضاً قال: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى [طه: 61].
فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا و هو مذكور في شيء يوجب نوعاً من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة، فنقول: الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] و اللّه تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة، و هي أوائل ألفاظ دالة على العذاب، تنبيهاً على أن من قرأ هذه السورة و آمن بها و عرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم، و اللّه أعلم.
الباب الثالث في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة،
و فيه مسائل:
أسرار الفاتحة:
المسألة الأولى: [البحث عن السؤالين و هما ما الدليل على وجود الإله و ما الدليل على أنه مستحق الحمد؟] اعلم أنه تعالى لما قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فكأن سائلًا يقول: الحمد للّه مبني عن أمرين:
أحدهما: وجود الإله، و الثاني: كونه مستحقاً للحمد، فما الدليل على وجود الإله و ما الدليل على أنه مستحق الحمد؟ و لما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر اللّه تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين، فأجاب عن السؤال الأول بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ و أجاب عن السؤال الثاني بقوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إن علمنا بوجود الشيء إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً، لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري، لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظرياً، و العلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل، و لا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات و الأرضين و الجبال و البحار و المعادن و النبات و الحيوان محتاج إلى مدبر يدبره و موجود يوجده و مرب يربيه و مبق يبقيه، فكان قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم.
ثم فيه لطائف: اللطيفة الأولى: أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى اللّه فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده، و في بقائه إلى إبقائه، فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ و كل جوهر فرد و كل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر و دليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر القديم، كما قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44].
اللطيفة الثانية: أنه تعالى لم يقل الحمد للّه خالق العالمين، بل قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و السبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد و المحدث حال حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا؟ فقال قوم: الشيء حال بقائه يستغني عن السبب، و المربي هو القائم بإبقاء الشيء و إصلاح حاله حال بقائه، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، و المقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه، أما افتقارها إلى المبقي
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 162
و المربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيهاً على أن كل ما سوى اللّه فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه و لا في حال بقائه.
اللطيفة الثالثة: أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل و المعدن، و أن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ تنبيه على أن كل موجود سواه فإنه دليل على إلهيته.
ثم إنه تعالى افتتح سوراً أربعة بعد هذه السورة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فأولها: سورة الأنعام و هو قوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام: 1] و اعلم أن المذكور هاهنا قسم من أقسام قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى اللّه، و السموات و الأرض و النور و الظلمة قسم من أقسام ما سوى اللّه، فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، و أيضاً فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السموات و الأرض، و المذكور في أول سورة الفاتحة كونه رباً للعالمين، و قد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء اللّه كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى، أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه، فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة.
و ثانيها: سورة الكهف، و هو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] و المقصود منه تربية الأرواح بالمعارف، فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات و المشاهدات، فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط، و قوله في أول سورة الفاتحة: رَبِّ الْعالَمِينَ إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين، و يدخل فيه التربية الروحانية للملائكة و الإنس و الجن و الشياطين و التربية الجسمانية الحاصلة في السموات و الأرضين، فكان/ المذكور في أول سورة الكهف نوعاً من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة.
و ثالثها: سورة سبأ، و هو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [سبأ: 1] فبين في أول سورة الأنعام أن السموات و الأرض له، و بين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السموات و الأرض له، و هذا أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
و رابعها: قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [فاطر: 1] و المذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقاً لها، و الخلق هو التقدير، و المذكور في هذه السورة كونه فاطراً لها و محدثاً لذواتها، و هذا غير الأول إلا أنه أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقاً للسموات و الأرض ذكر كونه جاعلًا للظلمات و النور، أما في سورة الملائكة فلما ذكر كونه فاطر السموات و الأرض ذكر كونه جاعلًا الملائكة رسلًا، ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السموات و الأرض جعل الأنوار و الظلمات و ذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السموات و الأرض جعل الروحانيات، و هذه أسرار عجيبة و لطائف عالية إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فهذا هو التنبيه على أن قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم.
المسألة الثانية: أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله فهي أيضاً مشتملة على الدلالة على كونه متعالياً
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 163
في ذاته عن المكان و الحيز و الجهة، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى اللّه و من جملة ما سوى اللّه المكان و الزمان، و فالمكان عبارة عن الفضاء و الحيز و الفراغ الممتد، و الزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية و البعدية، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على كونه رباً للمكان و الزمان و خالقاً لهما و موجداً لهما، ثم من المعلوم أن الخالق لا بدّ و أن يكون سابقاً وجوده على وجود المخلوق، و متى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء و الفراغ و الحيز، متعالية عن الجهة و الحيز، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته، و ذلك محال، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على تنزيه ذاته عن المكان و الجهة بهذا الاعتبار.
المسألة الثالثة: هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى و الحلولية، لأنه لما كان رباً للعالمين كان خالقاً لكل ما سواه، و الخالق سابق على المخلوق، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل، فكانت ذاته غنية عن كل محل، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل.
المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجباً بالذات، بل هو فاعل مختار و الدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد و الثناء و التعظيم، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار و لا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين و تأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة و الاختيار بل بالطبع، فلما حكم بكونه مستحقاً للحمد و الثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار، و إنما عرفنا كونه فاعلًا مختاراً، لأنه لو كان موجباً لدامت الآثار و المعلولات بدوام المؤثر الموجب، و لامتنع وقوع التغير فيها، و حيث شاهدنا حصول التغييرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات، و لما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقاً للحمد.
المسألة الخامسة: لما خلق اللّه العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم كان الإحكام و الإتقان ظاهرين في العالم الأعلى و العالم الأسفل، و فاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالماً فثبت بما ذكرنا أن قوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ يدل على وجود الإله و يدل على كونه منزهاً عن الحيز و المكان، و يدل على كونه منزهاً عن الحلول في المحل، و يدل على كونه في نهاية القدرة و يدل على كونه في نهاية العلم و يدل على كونه في نهاية الحكمة.
و أما السؤال الثاني و هو قوله: هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد و الثناء؟
و الجواب هو قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و تقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين: إما أن يكون في السلامة و السعادة، و إما أن يكون في الألم و الفقر و المكاره، فإن كان في السلامة و الكرامة فأسباب تلك السلامة و تلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق اللّه و تكوينه و إيجاده، فكان رحماناً رحيماً، و إن كان في المكاره و الآفات، فتلك المكاره و الآفات إما أن تكون من العباد، أو من اللّه، فإن كانت من العباد فاللّه سبحانه و تعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين، و إن كانت من اللّه فاللّه تعالى وعد بالثواب الجزيل و الفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات و المخافات، و إذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بدّ و أن يكون مستحقاً للحمد الذي لا نهاية له، و الثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مرتب ترتيباً لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل و أفضل منه.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 164
و اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية، و اعلم أن الإنسان مركب من جسد، و من روح، و المقصود من الجسد أن يكون/ آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية، و تلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود و خدمته، و تلك الأعمال هي العبادة، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظباً على العبادات، و هذه أول درجات سعادة الإنسان، و هو المراد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب، و هو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات و الطاعات بل ما لم يحصل له توفيق اللّه تعالى و إعانته و عصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات و الطاعات، و هذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات، و هو المراد من قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من اللّه، و أنوار المكاشفات و التجلي لا تحصل إلا بهداية اللّه و هو المراد من قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و فيه لطائف:- اللطيفة الأولى: أن المنهج الحق في الاعتقادات و في الأعمال هو الصراط المستقيم، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه: الأول: أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل و نفي الصفات، و من توغل في الإثبات وقع في التشبيه و إثبات الجسمية و المكان، فهما طرفان معوجان، و الصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه و التعطيل، و الثاني: أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر، و من قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر و هما طرفان معوجان، و الصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء اللّه، و أما في الأعمال فنقول: من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، و من بالغ في تركها وقع في الجمود، و الصراط المستقيم هو الوسط، و هو العفة، و أيضاً من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، و من بالغ في تركها وقع في الجبن، و الصراط المستقيم هو الوسط، و هو الشجاعة.
اللطيفة الثانية: أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية، و الأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و أما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب اللّه عليهم، و بخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية و المعارف اليقينية.
اللطيفة الثالثة: قال بعضهم: إنه لما قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لم يقتصر عليه، بل قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و هذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات/ الهداية و المكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل و يجنبه عن مواقع الأغاليط و الأضاليل، و ذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، و عقولهم غير وافية بإدراك الحق و تمييز الصواب عن الغلط، فلا بد من كامل يقتدى به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل، فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات و معارج الكمالات.
و قد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية و عهد العبودية المذكورين في قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40].
المسألة الثانية: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة:
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 165
اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير و الشر، و المحبوب و المكروه، و هذه المعاني ظاهرة لا شك فيها، إلا أنا نقول: الشر و إن كان كثيراً إلا أن الخير أكثر، و المرض و إن كان كثيراً إلا أن الصحة أكثر منه و الجوع و إن كان كثيراً إلا أن الشبع أكثر منه، و إذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائماً في التغيرات و الانتقال من حال إلى حال، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة و الكرامة و الراحة و البهجة، أما الأحوال المكروهة فهي و إن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة و البهجة و الراحة، إذا عرفت هذا فنقول أن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر، و لأجل أن الغالب فيها الراحة و الخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب، و لذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتاً حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد له من فاعل تولى بناء ذلك البيت، و لو أن إنساناً شككنا فيه لم نتشكك، فإنه لا بد و أن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادراً، إذا لو كان موجباً بالذات لدام الأثر بدوامه، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر، و أما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيماً محسناً، فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة و الخير و البهجة و السلامة، و من كان غالب أفعاله راحة و خيراً و كرامة و سلامة كان رحيماً محسناً، و من كان كذلك كان مستحقاً للحمد، و لما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد و حاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد اللّه و ثنائه حاضراً في عقل كل أحد، فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ و لما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى و أعظم من الأول، و كأنه قيل: لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط، بل هو إله كل العالمين، و ذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر و الحاجة و الحدوث و الإمكان/ و هذه المعاني قائمة في كل العالمين، فإنها محل الحركات و السكنات و أنواع التغيرات، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها، و إذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول، فهذا يقتضي كونه رباً للعالمين، و إلهاً للسموات و الأرضين، و مدبراً لكل الخلائق أجمعين، و لما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها و يقدر على خلق العرش و الكرسي و السموات و الكواكب لا بد و أن يكون قادراً على إهلاكها، و لا بد و أن يكون غنياً عنها، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة و الجلال، و حينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي و حقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه، و بأي طريق أتوسل إليه، فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض، فكأنه قال: أيها العبد الضعيف، أنا و إن كنت عظيم القدرة و الهيبة و الإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة، فأنا الرحمن الرحيم و أنا مالك يوم الدين، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي و أنواع نعمتي و إذا مت فأنا مالك يوم الدين، لا أضيع عملًا من أعمالك، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات، و إن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح و الإحسان و المغفرة.
ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء: أولها: مقام الشريعة، و هو أن يواظب على الأعمال الظاهرة، و هو قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و ثانيها: مقام الطريقة، و هو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب، فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 166
يصل إليه من عالم الغيب، و هو قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و ثالثها: أنه يشاهد عالم الشهادة معزولًا بالكلية، و يكون الأمر كله للّه، و حينئذ يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
ثم إن هاهنا دقيقة، و هي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد، فحينئذ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود، فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية و الأنوار الربانية، حتى إذا اتصل بها و انخرط في سلكها صار الطلب أقوى و الاستعداد أتم، فحينئذ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة، فلهذا قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة و الاستعداد، بين أيضاً أن/ الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة و الخسران و الخذلان و الحرمان، فلهذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و هم الفساق وَ لَا الضَّالِّينَ و هم الكفار.
و لما تمت هذه الدرجات الثلاث و كملت هذه المقامات الثلاثة- أعني الشريعة المدلول عليها بقوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و الطريقة المدلول عليها بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و الحقيقة المدلول عليها بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء و الاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء و الشقاء، فعند هذا كملت المعارج البشرية و الكمالات الإنسانية.