کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 163
في ذاته عن المكان و الحيز و الجهة، لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى اللّه و من جملة ما سوى اللّه المكان و الزمان، و فالمكان عبارة عن الفضاء و الحيز و الفراغ الممتد، و الزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية و البعدية، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على كونه رباً للمكان و الزمان و خالقاً لهما و موجداً لهما، ثم من المعلوم أن الخالق لا بدّ و أن يكون سابقاً وجوده على وجود المخلوق، و متى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء و الفراغ و الحيز، متعالية عن الجهة و الحيز، فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته، و ذلك محال، فقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على تنزيه ذاته عن المكان و الجهة بهذا الاعتبار.
المسألة الثالثة: هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى و الحلولية، لأنه لما كان رباً للعالمين كان خالقاً لكل ما سواه، و الخالق سابق على المخلوق، فكانت ذاته موجودة قبل كل محل، فكانت ذاته غنية عن كل محل، فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل.
المسألة الرابعة: هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجباً بالذات، بل هو فاعل مختار و الدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد و الثناء و التعظيم، ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار و لا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين و تأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة و الاختيار بل بالطبع، فلما حكم بكونه مستحقاً للحمد و الثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار، و إنما عرفنا كونه فاعلًا مختاراً، لأنه لو كان موجباً لدامت الآثار و المعلولات بدوام المؤثر الموجب، و لامتنع وقوع التغير فيها، و حيث شاهدنا حصول التغييرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات، و لما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقاً للحمد.
المسألة الخامسة: لما خلق اللّه العالم مطابقاً لمصالح العباد موافقاً لمنافعهم كان الإحكام و الإتقان ظاهرين في العالم الأعلى و العالم الأسفل، و فاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالماً فثبت بما ذكرنا أن قوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ يدل على وجود الإله و يدل على كونه منزهاً عن الحيز و المكان، و يدل على كونه منزهاً عن الحلول في المحل، و يدل على كونه في نهاية القدرة و يدل على كونه في نهاية العلم و يدل على كونه في نهاية الحكمة.
و أما السؤال الثاني و هو قوله: هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد و الثناء؟
و الجواب هو قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و تقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين: إما أن يكون في السلامة و السعادة، و إما أن يكون في الألم و الفقر و المكاره، فإن كان في السلامة و الكرامة فأسباب تلك السلامة و تلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق اللّه و تكوينه و إيجاده، فكان رحماناً رحيماً، و إن كان في المكاره و الآفات، فتلك المكاره و الآفات إما أن تكون من العباد، أو من اللّه، فإن كانت من العباد فاللّه سبحانه و تعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين من الظالمين في يوم الدين، و إن كانت من اللّه فاللّه تعالى وعد بالثواب الجزيل و الفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات و المخافات، و إذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بدّ و أن يكون مستحقاً للحمد الذي لا نهاية له، و الثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ مرتب ترتيباً لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل و أفضل منه.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 164
و اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية، و اعلم أن الإنسان مركب من جسد، و من روح، و المقصود من الجسد أن يكون/ آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية، و تلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتياً بأعمال تدل على تعظيم المعبود و خدمته، و تلك الأعمال هي العبادة، فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظباً على العبادات، و هذه أول درجات سعادة الإنسان، و هو المراد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب، و هو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات و الطاعات بل ما لم يحصل له توفيق اللّه تعالى و إعانته و عصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات و الطاعات، و هذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات، و هو المراد من قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من اللّه، و أنوار المكاشفات و التجلي لا تحصل إلا بهداية اللّه و هو المراد من قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و فيه لطائف:- اللطيفة الأولى: أن المنهج الحق في الاعتقادات و في الأعمال هو الصراط المستقيم، أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه: الأول: أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل و نفي الصفات، و من توغل في الإثبات وقع في التشبيه و إثبات الجسمية و المكان، فهما طرفان معوجان، و الصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه و التعطيل، و الثاني: أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر، و من قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر و هما طرفان معوجان، و الصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء اللّه، و أما في الأعمال فنقول: من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور، و من بالغ في تركها وقع في الجمود، و الصراط المستقيم هو الوسط، و هو العفة، و أيضاً من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور، و من بالغ في تركها وقع في الجبن، و الصراط المستقيم هو الوسط، و هو الشجاعة.
اللطيفة الثانية: أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية، و الأخرى سلبية أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و أما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب اللّه عليهم، و بخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية و المعارف اليقينية.
اللطيفة الثالثة: قال بعضهم: إنه لما قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لم يقتصر عليه، بل قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و هذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات/ الهداية و المكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل و يجنبه عن مواقع الأغاليط و الأضاليل، و ذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، و عقولهم غير وافية بإدراك الحق و تمييز الصواب عن الغلط، فلا بد من كامل يقتدى به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل، فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات و معارج الكمالات.
و قد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية و عهد العبودية المذكورين في قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40].
المسألة الثانية: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة:
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 165
اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير و الشر، و المحبوب و المكروه، و هذه المعاني ظاهرة لا شك فيها، إلا أنا نقول: الشر و إن كان كثيراً إلا أن الخير أكثر، و المرض و إن كان كثيراً إلا أن الصحة أكثر منه و الجوع و إن كان كثيراً إلا أن الشبع أكثر منه، و إذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائماً في التغيرات و الانتقال من حال إلى حال، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة و الكرامة و الراحة و البهجة، أما الأحوال المكروهة فهي و إن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة و البهجة و الراحة، إذا عرفت هذا فنقول أن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر، و لأجل أن الغالب فيها الراحة و الخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب، و لذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتاً حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد له من فاعل تولى بناء ذلك البيت، و لو أن إنساناً شككنا فيه لم نتشكك، فإنه لا بد و أن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادراً، إذا لو كان موجباً بالذات لدام الأثر بدوامه، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر، و أما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيماً محسناً، فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة و الخير و البهجة و السلامة، و من كان غالب أفعاله راحة و خيراً و كرامة و سلامة كان رحيماً محسناً، و من كان كذلك كان مستحقاً للحمد، و لما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد و حاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد اللّه و ثنائه حاضراً في عقل كل أحد، فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ و لما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى و أعظم من الأول، و كأنه قيل: لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط، بل هو إله كل العالمين، و ذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر و الحاجة و الحدوث و الإمكان/ و هذه المعاني قائمة في كل العالمين، فإنها محل الحركات و السكنات و أنواع التغيرات، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها، و إذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول، فهذا يقتضي كونه رباً للعالمين، و إلهاً للسموات و الأرضين، و مدبراً لكل الخلائق أجمعين، و لما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها و يقدر على خلق العرش و الكرسي و السموات و الكواكب لا بد و أن يكون قادراً على إهلاكها، و لا بد و أن يكون غنياً عنها، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة و الجلال، و حينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي و حقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه، و بأي طريق أتوسل إليه، فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض، فكأنه قال: أيها العبد الضعيف، أنا و إن كنت عظيم القدرة و الهيبة و الإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة، فأنا الرحمن الرحيم و أنا مالك يوم الدين، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي و أنواع نعمتي و إذا مت فأنا مالك يوم الدين، لا أضيع عملًا من أعمالك، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات، و إن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح و الإحسان و المغفرة.
ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء: أولها: مقام الشريعة، و هو أن يواظب على الأعمال الظاهرة، و هو قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ و ثانيها: مقام الطريقة، و هو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب، فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 166
يصل إليه من عالم الغيب، و هو قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و ثالثها: أنه يشاهد عالم الشهادة معزولًا بالكلية، و يكون الأمر كله للّه، و حينئذ يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
ثم إن هاهنا دقيقة، و هي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد، فحينئذ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود، فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية و الأنوار الربانية، حتى إذا اتصل بها و انخرط في سلكها صار الطلب أقوى و الاستعداد أتم، فحينئذ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة، فلهذا قال: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة و الاستعداد، بين أيضاً أن/ الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة و الخسران و الخذلان و الحرمان، فلهذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و هم الفساق وَ لَا الضَّالِّينَ و هم الكفار.
و لما تمت هذه الدرجات الثلاث و كملت هذه المقامات الثلاثة- أعني الشريعة المدلول عليها بقوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و الطريقة المدلول عليها بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و الحقيقة المدلول عليها بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء و الاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء و الشقاء، فعند هذا كملت المعارج البشرية و الكمالات الإنسانية.
المسألة الثالثة: في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة، اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى جر الخيرات و اللذات، و دفع المكروهات و المخافات، ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات و اللذات إلا بواسطة أسباب معينة، و لا يمكنه دفع الآفات و المخافات إلا بواسطة أسباب معينة، و لما كان جلب النفع و دفع الضرر محبوباً بالذات، و كان استقراء أحوال هذا العالم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير و لا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة، ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب- صار هذا المعنى سبباً لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة، و إذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات و اللذات إلا بواسطة خدمة الأمير و الوزير و الأعوان و الأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء، شديد الحب لها، عظيم الميل و الرغبة إليها، ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة و ثبت أيضاً أن حب التشبه غالب على طباع الخلق. أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع و حرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة و الصناعة ملكة راسخة قوية و كلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى و أرسخ. و أما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعه إلى الفسق، و ما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة و إذا عرفت هذا فنقول: إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع و دفع المضار، و بينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل و الطلب في قلبه أقوى و أثبت، و أيضاً فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة. و بينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة و ذلك أيضاً يوجب استحكام هذه الحالة. فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب/ الموجبة لحب الدنيا و المرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جداً ثم نقول: إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 167
قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملًا شافياً وافياً فيقول: هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته و كمال حكمته أم لا؟ الأول باطل، لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزاً، و أقلهم عقلًا، فعند هذا، يظهر له أن تلك الإمارة و الرياسة ما حصلت له بقوته، و ما هيئت له بسبب حكمته، و إنما حصلت تلك الإمارة و الرياسة لأجل قسمة قسام و قضاء حكيم علام لا دافع لحكمه و لا مرد لقضائه، ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها و تقويها، فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة، و ينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات و المطلوبات إلى مسبب الأسباب و مفتح الأبواب، ثم إذا توالت هذه الاعتبارات و تواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع و خير قال هو النافع و كلما وصل إليه شر و مكروه قال: هو الضار، و عند هذا لا يحمد أحداً على فعل إلا اللّه، و لا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى اللّه، فيصير الحمد كله للّه و الثناء كله للّه، فعند هذا يقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ .
و اعلم أن الاستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير اللّه، ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير اللّه، و ذلك هو قوله:
رَبِّ الْعالَمِينَ ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن و الترتيب الأقوم و الكمال الأعلى و المنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته و فضله و إحسانه فعند ذلك يقول: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحه في الدنيا إنما تهيأت برحمة اللّه و فضله و إحسانه، ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ليس إلا الذي عرفته بأنه هو الرحمن الرحيم، فحينئذ ينشرح صدر العبد و ينفسح قلبه و يعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا و الآخرة ليس إلا اللّه، و حينئذ ينقطع التفاته عما سوى اللّه و لا يبقى متعلق القلب بغير اللّه، ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير و الوزير كان مشغولًا بخدمتهما، و بعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما و كان يطلب الخير منهما، فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلًا بخدمة الأمير و الوزير فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى، فعند هذا يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، و المعنى إني كنت قبل هذا/ أعبد غيرك، و أما الآن فلا أعبد أحداً سواك، و لما كان يستعين في تحصيل المهمات بالأمير و الوزير فلأن يستعين بالمعبود الحق في تحصيل المرادات كان أولى، فيقول: و إياك نستعين و المعنى: إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك و أما الآن فلا أستعين بأحد سواك، و لما كان يطلب المال و الجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض و الانقضاء من الأمير و الوزير فلأن يطلب الهداية و المعرفة من رب السماء و الأرض أولى، فيقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثم إن أهل الدنيا فريقان: أحدهما: الذين لا يعبدون أحداً إلا اللّه و لا يستعينون إلا باللّه و لا يطلبون الأغراض و المقاصد إلا من اللّه، و الفرقة الثانية، الذين يخدمون الخلق و يستعينوا بهم و يطلبون الخير منهم، فلا جرم العبد يقول: إلهي اجعلني في زمرة الفرقة الأولى، و هم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية و الجلايا النورانية، و لا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية و هم المغضوب عليهم و الضالون، فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار و الهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام: لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئاً؟ و اللّه أعلم.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 168
الباب الرابع في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة
فقه الفاتحة:
المسألة الأولى: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة، و عن الأصم و الحسن بن صالح أنها لا تجب.
لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة فهو يدل على أن أصل القراءة واجب و تزيد هاهنا وجوهاً:- الأول: قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء: 78] و المراد بالقرآن القراءة، و التقدير: أقم قراءة الفجر، و ظاهر الأمر للوجوب.
الثاني:
عن أبي الدرداء أن رجلًا سأل النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال: أفي الصلاة قراءة فقال: نعم، فقال السائل:
وجبت، فأقر النبي صلى اللّه عليه و سلم ذلك الرجل على قوله وجبت.
الثالث:
عن ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه و سلم سئل: أ يقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة و السلام: أ تكون صلاة بغير قراءة،
و هذان الخبران نقلتهما من «تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني».
حجة الأصم
قوله عليه الصلاة و السلام: صلوا كما رأيتموني أصلي،
جعل الصلاة من الأشياء المرئية، و القراءة ليست بمرئية، فوجب كونها خارجة عن الصلاة، و الجواب أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه: قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً و هو يحسنها لم تصح صلاته، و به قال الأكثرون، و قال أبو حنيفة لا تجب قراءة الفاتحة.
لنا وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة و السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة فوجب أن يجب علينا ذلك، لقوله تعالى: وَ اتَّبِعُوهُ و لقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] و لقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] و يا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد، و ذلك ما
رواه المغيرة بن شعبة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه أتى سباطة قوم فبال و توضأ و مسح على ناصيته و خفيه،
في أنه عليه الصلاة و السلام مسح على الناصية، فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة، و هاهنا نقل أهل العلم نقلًا متواتراً أنه عليه الصلاة و السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال: إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها، و هذا من العجائب.
الحجة الثانية: قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ* : و الصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف و اللام فيكون المراد منها المعهود السابق، و ليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يأتي بها: و إذا كان كذلك كان قوله: «أقيموا الصلاة» جارياً مجرى قوله: «أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 169
الرسول، و التي أتى بها الرسول عليه الصلاة و السلام هي الصلاة المشتملة على الفاتحة، فيكون قوله: أَقِيمُوا الصَّلاةَ* أمراً بقراءة الفاتحة و ظاهر الأمر الوجوب، ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة فكان ذلك دليلًا قاطعاً على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.
الحجة الثالثة: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم، و يدل عليه أيضاً ما
روي في «الصحيحين» أن النبي صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين،
و إذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك
لقوله عليه الصلاة و السلام: «عليكم بسنّتي و سنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»،
و
لقوله عليه الصلاة و السلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر»،
و العجب من أبي حنيفة رضي اللّه عنه أنه تمسك في مسألة/ طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن و عبد اللّه بن الزبير كانا يخالفانه و نص القرآن أيضاً يوجب عدم الإرث، فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الأطباق و الاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن و الأخبار و المعقول؟.
الحجة الرابعة: أن الأمة و إن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا لكنهم اتفقوا عليه في العمل، فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في المشرق و المغرب إلا و يقرأ الفاتحة في الصلاة، إذا ثبت هذا فنقول: إن من صلى و لم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله: وَ مَنْ ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً [النساء: 115] فإن قالوا إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرءوها لا على اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها، فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، و نحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة، فمن لم يأت بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العمل، فدخل تحت الوعيد، و هذا القدر يكفينا في الدليل، و لا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.
الحجة الخامسة: الحديث المشهور، و هو
أنه سبحانه و تعالى قال: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين»، فإذا قال العبد: الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه تعالى: حمدني عبدي، إلى آخر الحديث،
وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه و بين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة، فنقول: الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف، و هذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة، و لازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، و هذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة.
الحجة السادسة:
قوله عليه الصلاة و السلام: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب،
قالوا: حرف النفي دخل على الصلاة، و ذلك غير ممكن، فلا بدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة، و ليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال، و الجواب من وجوه: الأول: أنه جاء
في بعض الروايات: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب،