کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 175
الحجة السادسة: التسمية مكتوبة بخط القرآن، و كل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن، ألا ترى أنهم يمنعوا من كتابة أسامي السور في المصحف، و منعوا من العلامات على الأعشار و الأخماس، و الغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن، و لما أجمعوا على كتبها بخط القرآن، و لما أجمعوا على كتبها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن.
الحجة السابعة: أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام اللّه و التسمية موجودة بين الدفتين، فوجب جعلها من كلام اللّه تعالى، و لهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتاً.
و اعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن و لكنها ليست آية من سورة/ الفاتحة، بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور، و هذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي.
الحجة الثامنة: أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه، قال:
قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية واحدة، و قوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين آية واحدة، و أما أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فإنه قال: بسم اللّه ليس بآية منها، لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية، و قوله غير المغضوب عليهم و لا الضالين آية أخرى و سنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف، فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعاً إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منها تامة.
الحجة التاسعة: أن نقول: قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة، فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل، و إذا كان كذلك فالظاهر أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى: وَ اتَّبِعُوهُ و إذا ثبت وجوب قرأتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة العاشرة:
قوله عليه السلام: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر أو أجذم و أعظم الأعمال بعد الإيمان باللّه الصلاة،
فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم اللّه يوجب كون هذه الصلاة بتراء، و لفظ الأبتر يدل على غاية النقصان و الخلل، بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدواً للرسول عليه السلام فقال: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ، [الكوثر: 3] فلزم أن يقال: الصلاة الخالية عن قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان و الخلل و كل من أقر بهذا الخلل النقصان قال بفساد هذه الصلاة، و ذلك يدل على أنها من الفاتحة و أنه يجب قراءتها.
الحجة الحادية عشرة: ما
روي أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال لأبي بن كعب: «ما أعظم آية في كتاب اللّه تعالى؟» فقال:
بسم اللّه الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله.
وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية، و معلوم أنها ليست آية تامة في قوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] بل هذا بعض آية، فلا بدّ و أن يكون آية تامة في غير هذا الموضع، و كل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة.
الحجة الثانية عشرة: إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن/ و لم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون و الأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم اللّه الرحمن
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 176
الرحيم حين استفتحت القرآن؟ فأعاد معاوية الصلاة و قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، و هذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي اللّه عنهم على أنه من القرآن و من الفاتحة، و على أن الأولى الجهر بقراءتها.
الحجة الثالثة عشرة: أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم اللّه، فوجب أن يجب على رسولنا صلى اللّه عليه و سلم ذلك، و إذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضاً في حقنا، و إذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة، أما المقدمة الأولى: فالدليل عليها أن نوحاً عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها [هود: 41] و أن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، فإن قالوا: أليس أن قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم اللّه تعالى؟ قلنا: معاذ اللّه أن يكون الأمر كذلك، و ذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان و وضعه على صدر بلقيس، و كانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر و الحفظة، فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب، و كانت قد سمعت باسم سليمان، فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت: وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدءوا بذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم، و المقدمة الثانية: أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك، لقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] و إذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى:
وَ اتَّبِعُوهُ و إذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة الرابعة عشرة: أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات، لأنه تعالى قديم و خالق و غيره محدث و مخلوق، و القديم الخالق يجب أن يكون سابقاً على المحدث المخلوق، و إذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقاً على ذكر غيره، و هذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار و القراءات، و إذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في/ العقول وجب أن يكون معتبراً في الشرع
لقوله عليه الصلاة و السلام: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن،
و إذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضاً أنها آية من الفاتحة، لأنه لا قائل بالفرق.
الحجة الخامسة عشرة: أن بسم اللّه الرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن، فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* [الرحمن: 13] و قوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* [المرسلات: 15] مكرراً في القرآن بخط واحد و صورة واحدة، قلنا: إن الكل من القرآن.
الحجة السادسة عشرة:
روي أنه صلى اللّه عليه و سلم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش «باسمك اللهم» حتى نزل قوله تعالى: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها [هود: 41] فكتب «بسم اللّه» فنزل قوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] فكتب «بسم اللّه الرحمن» فلما نزل قوله تعالى إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30] كتب مثلها،
وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن، و مجموعها
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 177
من القرآن، ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن، إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة و مع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك، و ذلك يوجب الطعن في القرآن.
الحجة السابعة عشرة: قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن اللّه تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة و السلام و كان يأمر بكتبه بخط المصحف، و بينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته، و هل يجوز للجنب قراءته، و للمحدث مسه؟ فنقول: ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه،
لقوله عليه الصلاة و السلام: دع ما يريبك إلا ما لا يريبك.
و احتج المخالف بأشياء: الأول: تعلقوا بخبر أبي هريرة، و هو
أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، فإذا قال العبد الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه تعالى حمدني عبدي، و إذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى أثنى على عبدي و إذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه تعالى مجدني عبدي، و إذا قال إياك نعبد و إياك نستعين يقول اللّه تعالى هذا بيني و بين عبدي
و الاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه عليه الصلاة و السلام لم يذكر التسمية، و لو كانت آية من الفاتحة لذكرها، و الثاني: أنه تعالى قال: جعلت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، و المراد من الصلاة الفاتحة، و هذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية/ ليست آية من الفاتحة، لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها للّه ثلاث آيات و نصف و هي من قوله الحمد للّه إلى قوله إياك نعبد- و للعبد ثلاث آيات و نصف- و هي من قوله و إياك نستعين إلى آخر السورة- أما إذا جعلنا بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل للّه أربع آيات و نصف، و للعبد آيتان و نصف، و ذلك يبطل التنصيف المذكور.
الحجة الثانية:
روت عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن النبي صلى اللّه عليه و سلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير، و القراءة بالحمد للّه رب العالمين،
و هذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة.
الحجة الثالثة: لو كان قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من هذه السورة: لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم، و ذلك بخلاف الدليل.
و الجواب عن الحجة الأولى من وجوه: الأول:
أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحاق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى اللّه عليه و سلم لما ذكر هذا الحديث عد بسم اللّه الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة،
و لما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا، لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي. الثاني:
روى أبو داود السختياني عن النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: و إذا قال العبد مالك يوم الدين يقول اللّه تعالى مجدني عبدي و هو بيني و بين عبدي،
إذا عرفت هذا فنقول: قوله في مالك يوم الدين هذا بيني و بين عبدي، يعني في القسمة، و إنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها و ثلاثة بعدها، و إنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه. الثالث: أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضاً يحتمل النصف في المعنى،
قال عليه الصلاة و السلام: الفرائض نصف العلم،
و سماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات، و الموت و الحياة قسمان، و قال شريح: أصبحت و نصف الناس علي غضبان، سماه نصفاً من حيث إن بعضهم راضون و بعضهم ساخطون، الرابع: إن دلائلنا في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة، و هذا الخبر الذي تمكسوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 178
اللّه الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا، لكن المقصود منه بيان شيء آخر، فكانت دلائلنا أقوى و أظهر.
الخامس: أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط.
و الجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال: لعل عائشة جعلت الحمد للّه رب العالمين اسماً لهذه السورة، كما يقال: قرأ فلان «الحمد للّه الذي خلق السموات» و المراد أنه قرأ هذه/ السورة، فكذا هاهنا، و تمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك.
و الجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، و تأكيد كون اللّه تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات، و اللّه أعلم.
المسألة السابعة: في بيان عدد آيات هذه السورة، رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول: هذه السورة ثمان آيات، فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات، و به فسروا قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] إذا ثبت هذا فنقول: الذين قالوا إن بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ آية تامة، و أما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، و قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ آية أخرى، إذا عرفت هذا فنقول: الذي قاله الشافعي أولى، و يدل عليه وجوه: الأول: أن مقطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة و رعاية التشابه في المقاطع لازم، لأنا وجدنا مقطاع القرآن على ضربين متقاربة و متشاكلة فالمتقاربة كما في سورة «ق» و المتشاكلة كما في سورة القمر، و قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ليس من القسمين، فامتنع جعله من المقاطع.
الثاني: أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير، و هذا اللفظ إما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله، و الصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، و كذلك الاستثناء مع المستثنى منه كالشيء الواحد و إيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل، إما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة، كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة و المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً و آية واحدة، و ذلك أقرب إلى الدليل. الثالث: أن المبدل منه في حكم المحذوف، فيكون تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم اللّه عليهم لا يجوز إلا بشرطين: أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه، و لا ضالًا، فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز إلا الاهتداء به، و الدليل عليه قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: 28] و هذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم و من زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم، فثبت أنه لا يجوز فصل قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ عن قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بل هذا المجموع كلام واحد، فوجب القول بأنه آية واحدة، فإن قالوا: أليس أن قوله الحمد للّه رب العالمين آية واحدة، و قوله/ الرحمن الرحيم آية ثانية، و مع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها، بل هي متعلقة بما قبلها؟ قلنا: الفرق أن قوله الحمد للّه رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم، فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد للّه رب العالمين آية تامة، و لا كذلك هذا، لما بينا أن مجرد قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاماً تاماً، بل ما لم يضم
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 179
إليه قوله غير المغضوب عليهم و لا الضالين لم يصح قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، فظهر الفرق.
المسألة الثامنة: ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا: أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم اللّه قرآن من سائر السور، و جعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي و ما بعدها آية، و قال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحداً ممن قبله لم يقل إن بسم اللّه آية من أوائل سائر السور، و دليلنا أن بسم اللّه مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآناً، و احتج المخالف بما
روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية، و في سورة الكوثر: إنها ثلاث آيات،
ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور، و الجواب أنا إذا قلنا بسم اللّه الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل، فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا إنها بعض آية من سائر السور؟ قلنا: هذا غير بعيد، ألا ترى أن قوله الحمد للّه رب العالمين آية تامة، ثم صار مجموع قوله: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] آية واحدة: فكذا هاهنا و أيضاً فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، و أما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور، فسقط هذا السؤال.
الجهر بالبسملة في الصلاة:
المسألة التاسعة [الجهر بالبسملة في الصلاة]: يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة، و أما الشافعي فإنه قال: إنها آية منها و يجهر بها، و قال أبو حنيفة: ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة و لا يجهر بها أيضاً، فنقول: الجهر بها سنة، و يدل عليه وجوه و حجج.
الحجة الأولى: قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة، و إذا ثبت هذا فنقول: الاستقراء دل على أن السورة الواحدة إما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية، فأما أن يكون بعضها سرياً/ و بعضها جهرياً فهذا مفقود في جميع السور، و إذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعاً في القراءة الجهرية.
الحجة الثانية: أن قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على اللّه و ذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200] و معلوم أن الإنسان إذا كان مفتخراً بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره و يبالغ في إظهاره أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفاً منه، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان و الإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر اللّه أولى عملًا بقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً .
الحجة الثالثة: هي أن الجهر بذكر اللّه يدل على كونه مفتخراً بذلك الذكر غير مبالٍ بإنكار من ينكره، و لا شك أن هذا مستحسن في العقل، فيكون في الشرع كذلك،
لقوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن»
و مما يقوي هذا الكلام أيضاً أن الإخفاء و السر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب و نقصان فيخفيه الرجل و يسره، لئلا ينكشف ذلك العيب. أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر و الفضيلة و المنقبة فكيف يليق بالعقل إخفائه؟ و معلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى و أكمل من كونه ذاكراً اللّه بالتعظيم، و لهذا
قال عليه السلام: «طوبى لمن
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 180
مات و لسانه رطب من ذكر اللّه»
و
كان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين.
و مثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه؟ و لهذا السبب
نقل أن علياً رضي اللّه عنه كان مذهبه الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في جميع الصلوات،
و أقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول ألبتة بسبب كلمات المخالفين.
الحجة الرابعة: ما رواه الشافعي بإسناده، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، و لم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم، و لم يكبر عند الخفض إلى الركوع و السجود، فلما سلم ناداه المهاجرون و الأنصار. يا معاوية، سرقت منا الصلاة، أين بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ و أين التكبير عند الركوع و السجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية و التكبير، قال الشافعي: إن معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين و الأنصار و إلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.
الحجة الخامسة:
روى البيهقي في «السنن الكبير» عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يجهر في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم،
ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن/ عمر بن الخطاب، و ابن عباس، و ابن عمر، و ابن الزبير، و أما أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، و من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، و الدليل عليه
قوله عليه السلام: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.
الحجة السادسة: إن قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بد من إضماره، و التقدير بإعانة اسم اللّه اشرعوا في الطاعات، أو ما يجري مجرى هذا المضمر، و لا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية اللّه إلا بعصمة اللّه، و لا قوة على طاعة اللّه إلا بتوفيق اللّه، و ينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات و البركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر اللّه، و من المعلوم أن المقصود من جميع العبادات و الطاعات حصول هذه المعاني في العقول، فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة و البركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، [آل عمران: 110] لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف، و هو الرجوع إلى اللّه بالكلية و الاستعانة باللّه في كل الخيرات، و إذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة.
و احتج المخالف بوجوه و حجج: الحجة الأولى:
روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و خلف أبي بكر و عمر و عثمان، و كانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين، و روى مسلم هذا الخبر في «صحيحه»، و فيه أنهم لا يذكرون «بسم اللّه الرحمن الرحيم» و في رواية أخرى «و لم أسمع أحداً منهم قال بسم اللّه الرحمن الرحيم» و في رواية رابعة «فلم يجهر أحد منهم ببسم اللّه الرحمن الرحيم».
الحجة الثانية: ما
روى عبد اللّه بن المغفل أنه قال: سمعني أبي و أنا أقول بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال:
يا بني إياك و الحدث في الإسلام، فقد صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و خلف أبي بكر، و خلف عمر، و عثمان، فابتدءوا القراءة بالحمد للّه رب العالمين، فإذا صليت فقل: الحمد للّه رب العالمين،
و أقول: إن أنساً و ابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة، و لم يذكرا علياً، و ذلك يدل على إطباق الكل على أن علياً كان يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 181
الحجة الثالثة: قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً ، [الأعراف: 55] وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً [الأعراف: 205] و بسم اللّه الرحمن الرحيم ذكر اللّه، فوجب إخفاؤه، و هذه الحجة استنبطها الفقهاء/ و اعتمادهم على الكلامين الأولين.
و الجواب عن خبر أنس من وجوه: الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات: إحداها:
قوله صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و خلف أبي بكر و عمر و عثمان، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد للّه رب العالمين.
و ثانيتها:
قوله: أنهم ما كانوا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم.
و ثالثتها:
قوله: لم أسمع أحداً منهم قال بسم اللّه الرحمن الرحيم،
فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، و ثلاث أخرى تناقض قولهم: إحداها: ما ذكرنا أن أنساً روى أن معاوية لما ترك بسم اللّه الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون و الأنصار، و قد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم. و ثانيتها:
روى أبو قلابة عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أبا بكر و عمر كانوا يجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم.
و ثالثتها: أنه سئل عن الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم و الإسرار به فقال:
لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط و الاضطراب، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل، و أيضاً ففيها تهمة أخرى، و هي أن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، و نحن و إن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس و ابن المغفل و بين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى، فهذا جواب قاطع في المسألة.
ثم نقول: هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم و دلائلنا، إلا أن الترجيح معنا، و بيانه من وجوه: الأول:
أن راوي أخباركم أنس و ابن المغفل، و راوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام و ابن عباس و ابن عمر و أبو هريرة، و هؤلاء كانوا أكثر علماً و قرباً من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أنس و ابن المغفل. و الثاني: أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل، و لهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لأن القياس يخالفه إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بإن إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها، فلأي سبب رجح قول أنس و قول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي؟ و الثالث: أن من المعلوم بالضرورة أن النبي/ عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر، و العلماء على غير العلماء، و الأشراف على الأعراب، و لا شك أن علياً و ابن عباس و ابن عمر كانوا أعلى حالًا في العلم و الشرف و علو الدرجة من أنس و ابن المغفل، و الغالب على الظن أن علياً و ابن عباس و ابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و كان أنس و ابن المغفل يقفان بالعبد منه، و أيضاً أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالًا لقوله تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110] و أيضاً فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي و ابن عباس و ابن عمر و أبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أن أنساً و ابن المغفل ما سمعاه. الرابع: