کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 200
وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولًا، ثم مضغة ثانياً، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام و الغضاريف و الرباطات و الأوتار و الأوردة و الشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، و السامعة في الأذن، و الناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، و بصر بشحم، و أنطق بلحم، و اعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور، و كل ذلك يدل على تربية اللّه تعالى للعبد المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت و لا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها و أسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب: أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة، و أما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض، و هو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولًا، ثم الثمار ثانياً، و يحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة و اللطافة و هي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان، و أما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، و تلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، و مع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة، و أودع اللّه فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها، و الحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء و الإدام و الفواكه و الأشربة و الأدوية، كما قال تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 25، 26] الآيات.
المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك و الكواكب بحيث صارت أسباباً لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سبباً للراحة و السكون و خلق النهار ليكون سبباً للمعاش و الحركة هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ، [يونس: 5] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ [الأنعام: 97] و اقرأ قوله: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَ الْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 5، 6]- إلى آخر الآية و اعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن و النبات و الحيوان و آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية اللّه كثيرة، و دلائل رحمته لائحة ظاهرة، و عند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد للّه رب العالمين.
الفائدة الخامسة: أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد للّه، ثم أضاف نفسه إلى العالمين/ و التقدير:
إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكاً لي ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني رباً للعالمين، و من عرف ذاتاً بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات و أكملها، و ذلك يدل على أن كونه رباً للعالمين أكمل الصفات، و الأمر كذلك، لأن أكمل المراتب أن يكون تاماً، و فوق التمام، فقولنا اللّه يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته و بذاته و هو التمام، و قوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته و إحسانه وجوده و هو المراد من قولنا أنه فوق التمام.
الفائدة السادسة: أنه يملك عباداً غيرك كما قال: وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] و أنت ليس لك رب سواه، ثم أنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك و أنت تخدمه كأن لك رباً غيره، فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض، و بالليل عن المخافات من غير عوض؟ و اعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات و هل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 201
الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، و يصونه من المخافات، بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات و أقسام المحرمات و المنكرات، فما أكبر هذه التربية و ما أحسنها، أليس من التربية أنه صلى اللّه عليه و سلم قال: «الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب»، فلهذا المعنى قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء: 42] ما ذاك إلا الملك الجبار، و الواحد القهار، و مقلب القلوب و الأبصار، و المطلع على الضمائر و الأسرار.
الفائدة السابعة: قالت القدرية: إنما يكون تعالى رباً للعالمين و مربياً لهم لو كان محسناً إليهم دافعاً للمضار عنهم، أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه، و يأمر بالإيمان ثم يمنعه منه، لم يكن رباً و لا مربياً، بل كان ضاراً و مؤذياً، و قالت الجبرية: إنما سيكون رباً و مربياً لو كانت النعمة صادرة منه و الألطاف فائضة من رحمته، و لما كان الإيمان أعظم النعم و أجلها وجب أن يكون حصولها من اللّه تعالى ليكون رباً للعالمين إليهم محسناً بخلق الإيمان فيهم.
الفائدة الثامنة: قولنا: «اللّه» أشرف من قولنا: «رب» على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء اللّه تعالى، ثم أن الداعي في أكثر الأمر يقول: يا رب، يا رب، و السبب فيه النكت و الوجوه المذكورة في تفسير أسماء اللّه تعالى فلا نعيدها.
الفصل الثالث في تفسير قوله الرحمن الرحيم، و فيه فوائد:
تفسير (الرحمن الرحيم):
الفائدة الأولى: الرحمن: هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد، و الرحيم: هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد، حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفاً لبعض القوم فقدم المائدة، فنزل غراب و سلب رغيفاً، فاتبعته تعجباً، فنزل في بعض التلال، و إذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. و
روى عن ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي، و صرت بحيث ما ملكت نفسي، فخرجت من البيت و انتهيت إلى شط النيل، فرأيت عقرباً قوياً يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعاً واقفاً على طرف الوادي، فوثب العقرب على ظهر الضفدع و أخذ الضفدع يسبح و يذهب، فركبت السفينة و تبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل، و نزل العقرب من ظهره، و أخذ يعدو فتبعته، فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة، و رأيت أفعي يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه، و الأفعى أيضاً لدغ العقرب، فماتا معاً، و سلم ذلك الإنسان منهما.
و يحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر، و الغراب يفر منه و لا يقوم بتربيته، ثم أن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت، فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض و اغتذى بها، و لا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى و ينبت ريشه و يخفى لحمه تحت ريشه، فعند ذلك تعود أمه
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 202
إليه، و لهذا السبب جاء في أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه، فظهر بهذه الأمثلة أن فضل اللّه عام، و إحسانه شامل، و رحمته واسعة.
و اعلم أن الحوادث على قسمين: منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك، بل يكون في الحقيقة عذاباً و نقمة، و منه ما يظن في الظاهر أنه عذاب و نقمة، مع أنه يكون في الحقيقة فضلًا و إحساناً و رحمة: أما القسم الأول: فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء و لا يؤدبه و لا يحمله على التعلم، فهذا في الظاهر رحمة و في الباطن نقمة. و أما القسم الثاني: كالوالد إذا حبس ولده في المكتب و حمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة، و في الحقيقة رحمة، و كذلك/ الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب، و في الباطن راحة و رحمة، فالأبله يغتر بالظواهر، و العاقل ينظر في السرائر.
إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة و بلية و ألم و مشقة فهو و إن كان عذاباً و ألماً في الظاهر إلا أنه حكمة و رحمة في الحقيقة، و تحقيقه ما قيل في الحكمة: إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: 7] و المقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار، و جذبها من دار الفرار إلى دار القرار، كما قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] و أقرب مثال لهذا الباب قصة موسى و الخضر عليهما السلام، فإن موسى كان يبني الحكم على ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة و قتل الغلام و عمارة الجدار المائل، و أما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق و الأسرار فقال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً، فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً، وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف: 79- 82] فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر، فإذا رأيت ما يكرهه طبعك و ينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسراراً خفية و حكماً بالغة، و أن حكمته و رحمته اقتضت ذلك، و عند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم.
الفائدة الثانية: الرحمن: اسم خاص باللّه، و الرحيم: ينطلق عليه و على غيره.
فإن قيل: فعلى هذا: الرحمن أعظم: فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى؟.
و الجواب: لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير، حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال: جئتك لمهم يسير فقال: اطلب للمهم اليسير رجلًا يسيراً، كأنه تعالى يقول: لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني و لتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة، و لكن كما علمتني رحماناً تطلب مني الأمور العظيمة، فأنا أيضاً رحيم، فاطلب مني شراك نعلك و ملح قدرك، كما
قال تعالى لموسى: «يا موسى سلني عن ملح قدرك و علف شاتك».
الفائدة الثالثة: وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً، ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال: وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مريم: 21] فتلك الرحمة صارت سبباً لنجاتها من توبيخ/ الكفار
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 203
الفجار، ثم أنا نصفه كل يوم أربعة و ثلاثين مرة أنه رحمن و أنه رحيم، و ذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة، و يقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم اللّه الرحمن الرحيم و مرة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1، 2] فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سبباً لخلاص مريم عليها السلام عن المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سبباً لنجاة المسلمين من النار و العار و الدمار؟.
الفائدة الرابعة: أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه، رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه، فكأنه تعالى يقول: أنا رحمن لأنك تسلم إلى نطفة مذرة فاسلمها إليك صورة حسنة، كما قال تعالى:
وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ* [غافر: 64] و أنا رحيم لأنك تسلم إلى طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة.
الفائدة الخامسة: [في حديث النبي]
روي أن فتى قربت وفاته و اعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا اللّه فأتوا النبي صلى اللّه عليه و سلم و أخبروه به، فقام و دخل عليه، و جعل يعرض عليه الشهادة و هو يتحرك و يضطرب و لا يعمل لسانه فقال النبي صلى اللّه عليه و سلم: «أ ما كان يصلي؟ أ ما كان يصوم؟ أ ما كان يزكي؟» فقالوا: بلى، فقال: «هل عق والديه؟» فقالوا:
بلى، فقال عليه السلام: «هاتوا بأمه»، فجاءت و هي عجوز عوراء فقال عليه السلام: «هلا عفوت عنه»، فقالت:
لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني، فقال عليه السلام: «هاتوا بالحطب و النار»، فقالت: و ما تصنع بالنار؟ فقال عليه السلام: «أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك»، فقالت: عفوت عفوت، أ للنار حملته تسعة أشهر؟
أ للنار أرضعته سنتين؟ فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه، و ذكر أشهد أن لا إله إلا اللّه،
و النكتة أنها كانت رحيمة و ما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار، فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا اللّه سبعين سنة بالنار.
الفائدة السادسة: لقد اشتهر
أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»،
فظهر
أنه يوم القيامة يقول: «أمتي، أمتي»،
فهذا كرم عظيم منه في الدنيا و في الآخرة، و إنما حصل فيه هذا الكرم و هذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فإذا كان أثر الرحمة الواحدة بلغ هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم؟ و أيضاً
روي أنه عليه السلام قال: «اللهم اجعل حساب أمتي على يدي»،
ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديوناً بدرهمين، و أخرج عائشة/ عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة و هي قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] و الرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح عالم المخلوقات، فذرني و عبيدي و اتركني و أمتك فإني أنا الرحمن الرحيم، فرحمتي لا نهاية لها، و معصيتهم متناهية، و المتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانياً، فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي، لأني أنا الرحمن الرحيم.
الفائدة السابعة: قالت القدرية: كيف يكون رحماناً رحيماً من خلق الخلق للنار و لعذاب الأبد؟ و كيف يكون رحماناً رحيماً من يخلق الكفر في الكافر و يعذبه عليه؟ و كيف يكون رحماناً رحيماً من أمر بالإيمان ثم صد و منع عنه؟ و قالت الجبرية: أعظم أنواع النعمة و الرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من اللّه بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه باللّه، و اللّه أعلم.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 204
الفصل الرابع في تفسير قوله مالك يوم الدين، و فيه فوائد:
تفسير (مالك يوم الدين):
الفائدة الأولى: قوله مالك يوم الدين، أي: مالك يوم البعث و الجزاء، و تقريره أنه لا بدّ من الفرق بين المحسن و المسيء، و المطيع و العاصي، و الموافق و المخالف، و ذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] و قال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] و قال:
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 15] و اعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضياً بذلك الظلم، و هذه الصفات الثلاث على اللّه تعالى محال، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، و لما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا، و ذلك هو المراد بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] و بقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] الآية
روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة، فيأتيه النداء، يا فلان أدخل الجنة بعملك، فيقول: إلهي، ماذا عملت؟ فيقول اللّه تعالى: أ لست لما كنت نائماً تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك «اللّه» ثم غلبك النوم في الحال فنسيت/ ذلك أما أنا فلا تأخذني سنة و لا نوم فما نسيت ذلك، و أيضاً يؤتى برجل و توزن حسناته و سيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا اللّه فلا يثقل مع ذكر اللّه غيره.
و اعلم أن الواجبات على قسمين: حقوق اللّه تعالى، و حقوق العباد: أما حقوق اللّه تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين، و أما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها.
روي أن أبا حنيفة رضي اللّه عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به، فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة، فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله و وقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة و قال: إن تركتها كان ذلك سبباً لقبح جدار هذا المجوسي، و إن حككتها انحدر التراب من الحائط، فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها: قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب، فخرج إليه و ظن أنه يطالبه بالمال، فأخذ يعتذر، فقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه، هاهنا ما هو أولى، و ذكر قصة الجدار، و أنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي: فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال، و النكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان، فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند اللّه تعالى.
الفائدة الثانية: اختلف القراء في هذه الكلمة، فمنهم من قرأ مالك يوم الدين، و منهم من قرأ ملك يوم الدين. حجة من قرأ مالك وجوه: الأول: أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً. الثاني: أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا اللّه. الثالث: المالك قد يكون ملكاً و قد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكاً و قد لا يكون فالملكية و المالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 205
المالكية سبب لإطلاق التصرف، و الملكية ليست كذلك فكان المالك أولى. الرابع: إن الملك ملك للرعية، و المالك مالك للعبيد، و العبد أدون حالًا من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالًا من الملك، الخامس: أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية. السادس: أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية،
قال عليه الصلاة و السلام / و كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته،
و لا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك و أن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء و الإمامة و الشهادة و إذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، و إن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً، فعلمنا أن الانقياد و الخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك.
و حجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه: الأول: أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس و أعلاهم فكان الملك أشرف من المالك. الثاني: أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1، 2] لفظ الملك فيه متعين، و لولا أن الملك أعلى حالًا من المالك و إلا لم يتعين. الثالث: الملك أولى لأنه أقصر، و الظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة، هكذا نقل عن أبي عمرو، و أجاب الكسائي بأن قال: إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلًا للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه، لأنه و إن كان ذلك تطويلًا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، و يجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول: إن لم أبلغ ألى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا هاهنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك و إن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام و هو المراد.
ثم نقول: أنه يتفرع على كونه ملكاً أحكام، و على كونه مالكاً أحكام أخر.
أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكاً فوجوه: الأول: أن السياسات على أربعة أقسام: سياسة الملاك، و سياسة الملوك، و سياسة الملائكة، و سياسة ملك الملوك: فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك، لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكاً واحداً، ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة و أجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس، و أما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك، لأن عالماً من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد، و أما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة، ألا ترى إلى قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً [النبأ: 38] و قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] و قال في صفة الملائكة: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] فيا أيها الملوك لا تغتروا بما لكم من المال و الملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين و يا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أ فما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 206
الحكم الثاني: من أحكام كونه تعالى ملكاً أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم، و قلت خزائنهم، أما الحق سبحانه و تعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء و الإحسان، بل يزداد، بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولداً واحداً لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد، أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه و تكليفه لازماً على الكل، فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً. الحكم الثالث: من أحكام كونه ملكاً كمال الرحمة، و الدليل عليه آيات: إحداها: ما ذكر في هذه السورة من كونه رباً رحماناً رحيماً و ثانيها: قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ثم قال بعده: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ [الحشر: 22، 23] ثم ذكر بعده كونه قدوساً عن الظلم و الجور، ثم ذكر بعده كونه سلاماً، و هو الذي سلم عباده من ظلمه و جوره، ثم ذكر بعده كونه مؤمناً، و هو الذي يؤمن عبيده عن جوره و ظلمه، فثبت أن كونه ملكاً لا يتم إلا مع كمال الرحمة. و ثالثها: قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر، فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف و حصول الرحمة. و رابعها: قوله تعالى:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1، 2] فذكر أولًا كونه رباً للناس ثم أردفه بكونه ملكاً للناس، و هذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن و لا يكمل إلا مع الإحسان و الرحمة، فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات و ارحموا هؤلاء المساكين و لا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك اللّه تعالى. الحكم الرابع: للملك أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه و لم يطيعوه وقع الهرج و المرج في العالم و حصل الاضطراب و التشويش و دعا ذلك إلى تخريب العالم و فناء الخلق، فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم و فناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح و حصول المفاسد؟ و تمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم، قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: 90، 91] و بين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: 132] فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم، و يا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم.
الحكم الخامس: أنه لما وصف نفسه بكونه ملكاً ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال: وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ثم بين كيفية العدل فقال: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء: 47] فظهر بهذا أن كونه ملكاً حقاً ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل، فإن كان الملك المجازي عادلًا كان ملكاً حقاً و إلا كان ملكاً باطلًا فإن كان ملكاً عادلًا حقاً حصل من بركة عدله الخير و الراحة في العالم و إن كان ملكاً ظالماً ارتفع الخير من العالم.