کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 221
و أعاننا عليها و هدانا إليها و أزاح الأعذار عنا و إلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من اللّه تعالى.
الفرع الثاني: أن أول نعم اللّه على العبيد هو أن خلقهم أحياء، و يدل عليه العقل و النقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به، و لا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة، فإن الجماد و الميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة، و أما النقل فهو أنه تعالى قال:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] ثم قال عقيبه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] فبدأ بذكر الحياة، و ثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها، و ذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة.
الفرع الثالث: اختلفوا في أنه هل للّه تعالى نعمة على الكافر أم لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس للّه تعالى على الكافر نعمة، و قالت المعتزلة: للّه على الكافر نعمة دينية، و نعمة دنيوية و احتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن و المعقول: أما القرآن فآيات. إحداها: قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و ذلك لأنه لو كان للّه على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و لو كان كذلك لكان قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ طلباً لصراط الكفار، و ذلك باطل، فثبت بهذه الآية أنه ليس للّه نعمة على الكفار، فإن قالوا: إن قوله الصراط يدفع ذلك، قلنا: إن قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من قوله:
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، و حينئذ يعود المحذور المذكور. و الآية الثانية: قوله تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] و أما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر، و مثل هذا لا يكون نعمة، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير، فكذا هاهنا.
و أما الذين قالوا إن للّه على الكافر نعماً كثيرة فقد احتجوا بآيات: إحداها: قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً [البقرة: 21، 22] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة اللّه لمكان هذه النعم العظيمة. و ثانيها: قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] ذكر ذلك في معرض الامتنان و شرح النعم. و ثالثها: قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ . [البقرة: 40] و رابعها: قوله تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] و قول إبليس: وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف: 17] و لو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر. و لم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور، لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة.
الفائدة الثانية: قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يدل على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه، لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم و اللّه تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم اللّه عليهم من هم فقال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ [النساء: 69]، الآية و لا شك أن رأس الصديقين و رئيسهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، فكان معنى الآية أن اللّه أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق و سائر الصديقين، و لو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 222
الفائدة الثالثة: قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يتناول كل من كان للّه عليه نعمة، و هذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين، و لما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين، فنقول: كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، و أما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، و هذا يدل على أن المراد من قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هو نعمة الإيمان، فرجع حاصل القول في قوله:
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان، و إذا ثبت هذا الأصل فنقول: يتفرع عليه أحكام:- الحكم الأول: أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان، و لفظ الآية صريح في أن اللّه تعالى هو المنعم بهذه النعمة، ثبت أن خالق الإيمان و المعطي للإيمان هو اللّه تعالى، و ذلك يدل على فساد قول المعتزلة، و لأن الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف و أعلى من إنعام اللّه، و لو كان كذلك لما حسن من اللّه أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
الحكم الثاني: يجب أن لا يبقى المؤمن مخلداً في النار، لأن قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام، و لو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من اللّه تعالى ذكره في معرض التعظيم.
الحكم الثالث: دلت الآية على أنه لا يجب على اللّه رعاية الصلاح و الأصلح في الدين، لأنه لو كان الإرشاد واجباً على اللّه لم يكن ذلك إنعاماً، لأن أداء الواجب لا يكون إنعاماً، و حيث سماه اللّه تعالى إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن اللّه تعالى أقدر المكلف عليه و أرشده إليه و أزاح أعذاره و علله عنه، لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلما خص اللّه تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار و إزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الأقدار عليه و إزاحة الموانع عنه.
الفصل التاسع في قوله تعالى غير المغضوب عليهم و لا الضالين،
و فيه فوائد معنى قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ - إلخ:
الفائدة الأولى: المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60] و الضالين: هم النصارى لقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] و قيل: هذا ضعيف، لأن منكري الصانع و المشركين أخبث ديناً من اليهود و النصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 223
و هم الفساق، و يحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام و التقييد خلاف الأصل، و يحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار، و الضالون هم المنافقون، و ذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين و الثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار و هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 6] ثم أتبعه بذكر المنافقين و هو قوله: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [البقرة: 8] فكذا هاهنا بدأ بذكر المؤمنين و هو قوله:
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ثم أتبعه بذكر الكفار و هو قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ثم أتبعه بذكر المنافقين و هو قوله:
الفائدة الثانية: لما حكم اللّه عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين، و إلا لزم انقلاب خبر اللّه الصدق كذباً، و ذلك محال، و المفضي إلى المحال محال.
الفائدة الثالثة: [عصمة الأنبياء و الأولياء] قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ يدل على أن أحداً من الملائكة و الأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم اللّه عليهم، و لا على اعتقاد الذين أنعم اللّه عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] و لو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، و لا الاهتداء بطريقهم، و لكانوا خارجين عن قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و لما كان ذلك باطلًا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء و الملائكة عليهم السلام.
الفائدة الرابعة: الغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، و اعلم أن هذا على اللّه تعالى محال، لكن هاهنا قاعدة كلية، و هي أن جميع الأعراض النفسانية- أعني الرحمة، و الفرح، و السرور، و الغضب، و الحياء، و الغيرة، و المكر و الخداع، و التكبر، و الاستهزاء- لها أوائل، و لها غايات، و مثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، و غايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق اللّه تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الاضرار، و أيضاً، و الحياء له أول و هو انكسار يحصل في النفس، و له غرض و هو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق اللّه يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس، و هذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
الفائدة الخامسة: قالت المعتزلة: غضب اللّه عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم و إلا لكان الغضب عليهم ظلماً من اللّه تعالى، و قال أصحابنا: لما ذكر غضب اللّه عليهم و أتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب اللّه عليهم علة لكونهم ضالين، و حينئذ تكون صفة اللّه مؤثرة في صفة العبد، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب اللّه عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة اللّه تعالى، و ذلك محال.
الفائدة السادسة: أول السورة مشتمل على الحمد للّه و الثناء عليه و المدح له، و آخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به و الإقرار بطاعته، و ذلك يدل على أن مطلع الخيرات و عنوان السعادات هو الإقبال على اللّه تعالى، و مطلع الآفات و رأس المخافات هو الأعراض عن اللّه تعالى و البعد عن طاعته و الاجتناب عن خدمته.
الفائدة السابعة: دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة، و إليهم الإشارة بقوله: أنعمت عليهم، و أهل المعصية و إليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم، و أهل الجهل في دين اللّه و الكفر و إليهم الإشارة بقوله و لا الضالين.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 224
فإن قيل: لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة؟ قلنا: لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم.
الفائدة الثامنة: في الآية سؤال، و هو أن غضب اللّه إنما تولد عن علمه بصدور القبيح و الجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم، أو محدث، فإن كان هذا العلم قديماً فلم خلقه و لم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم، و لأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده و على تكوينه؟ و أما إن كان ذلك العلم حادثاً كان الباري تعالى محلًا للحوادث، و لأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر، و يتسلسل، و هو محال، و جوابه يفعل اللّه ما يشاء و يحكم ما يريد.
الفائدة التاسعة: في الآية سؤال آخر، و هو أن من أنعم اللّه عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه و أن يكون من الضالين، فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم و لا الضالين؟
و الجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء و الخوف، كما
قال عليه السلام: «لو وزن خوف المؤمن و رجاؤه لاعتدلا،
فقوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يوجب الرجاء الكامل، و قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ يوجب الخوف الكامل، و حينئذ يقوى الإيمان بركنيه و طرفيه، و ينتهي إلى حد الكمال.
الفائدة العاشرة: في الآية سؤال آخر، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة و هم الذين أنعم اللّه عليهم، و المردودين فريقين: المغضوب عليهم، و الضالين؟ و الجواب أن الذين كملت نعم اللّه عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته و الخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقوله: أنعمت عليهم، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة و هم المغضوب عليهم كما قال تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ [النساء: 93] و إن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى:
فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] و هذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل، و اللّه أعلم.
القسم الثاني
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الفصل الأول في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة
اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة، و عالم الآخرة عالم الصفاء، فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع، و كالجسم بالنسبة إلى الظل، فكل ما في الدنيا فلا بد له في الآخرة من أصل، و إلا كان كالسراب الباطل و الخيال العاطل، و كل ما في الآخرة فلا بد له في الدنيا من مثال، و إلا لكان كالشجرة بلا ثمرة و مدلول بلا دليل، فعالم الروحانيات عالم الأضواء و الأنوار و البهجة و السرور و اللذة و الحبور، و لا شك أن الروحانيات
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 225
مختلفة بالكمال و النقصان و لا بد و أن يكون منها واحد هو أشرفها و أعلاها و أكملها و أبهاها، و يكون ما سواه في طاعته و تحت أمره و نهيه، كما قال: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 20، 21] و أيضاً فلا بد في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم و أكملها و أعلاها و أبهاها، و يكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته و أمره، فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات و المطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات، فذاك مطاع العالم الأعلى، و هذا مطاع العالم الأسفل و لما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات و كالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة و مقارنة و مجانسة، فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، و المطاع في عالم الأجسام هو المظهر و المصدر هو الرسول الملكي، و المظهر هو الرسول البشري، و بهما يتم أمر السعادات في الآخرة و في الدنيا.
و إذا عرفت هذا فنقول: كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى اللّه، و هذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها اللّه تعالى في خاتمة سورة البقرة و هي قوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ - الآية و يندرج في أحكام الرسل قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ، و هي معرفة الربوبية، ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية/ و هو مبني على أمرين: أحدهما: المبدأ، و الثاني:
الكمال. فالمبدأ هو قوله تعالى: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا [البقرة: 285] لأن هذا المعنى لا بد منه لمن يريد الذهاب إلى اللّه، و أما الكمال فهو التوكل على اللّه و الالتجاء بالكلية إليه و هو قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا و هو قطع النظر عن الأعمال البشرية و الطاعات الإنسانية و الالتجاء بالكلية إلى اللّه تعالى و طلب الرحمة منه و طلب المغفرة، ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة و تمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب و الاستعداد للذهاب إلى المعاد، و هو المراد من قوله: وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و يظهر من هذا أن المراتب ثلاثة: المبدأ و الوسط، و المعاد، أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة: و هي معرفة اللّه، و الملائكة، و الكتب، و الرسل، و أما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين: «سمعنا و أطعنا» نصيب عالم الأجساد، و «غفرانك ربنا» نصيب عالم الأرواح، و أما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد، و هو قوله: وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فابتداء الأمر أربعة، و في الوسط صار اثنين، و في النهاية صار واحداً.
و لما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء و التضرع:- فأولها: قوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: 286] و ضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] و قوله: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف: 24] و قوله: تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] و قوله: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ* [الإنسان:
25] و هذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم اللّه الرحمن الرحيم.
و ثانيها: قوله: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: 286] و دفع الأصر- و الأصر هو الثقل- يوجب الحمد، و ذلك إنما يحصل بقوله الحمد للّه رب العالمين.
و ثالثها: قوله: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و ذلك إشارة إلى كمال رحمته، و ذلك هو قوله الرحمن الرحيم.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 226
و رابعها: قوله: وَ اعْفُ عَنَّا لأنك أنت المالك للقضاء و الحكومة في يوم الدين، و هو قوله مالك يوم الدين.
و خامسها: قوله تعالى: وَ اغْفِرْ لَنا لأنا في الدنيا عبدناك و استعنا بك في كل المهمات، و هو قوله إياك نعبد و إياك نستعين.
و سادسها: قوله: وَ ارْحَمْنا لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا: اهدنا الصراط المستقيم.
و سابعها: قوله: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] و هو المراد من قوله غير المغضوب عليهم و لا الضالين.
فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة و السلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة و السلام من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب
قال عليه السلام: «الصلاة معراج المؤمن».
الفصل الثاني في مداخل الشيطان:
مداخل الشيطان:
اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، و الغضب، و الهوى، فالشهوة بهيمية، و الغضب سبعية، و الهوى شيطانية: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه، و الغضب آفة لكن الهوى أعظم منه، فقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ المراد آثار الشهوة، و قوله: وَ الْمُنْكَرِ المراد منه آثار الغضب، و قوله: و البغي [العنكبوت: 45] المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، و بالغضب يصير ظالماً لغيره، و بالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال اللّه تعالى، و لهذا
قال عليه السلام: الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، و ظلم لا يترك و ظلم عسى اللّه أن يتركه. فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك باللّه، و الظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، و الظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه، فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى. و منشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب، و منشأ الظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو الشهوة،
ثم لها نتائج، فالحرص و البخل نتيجة الشهوة، و العجب و الكبر نتيجة الغضب، و الكفر و البدعة نتيجة الهوى، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع- و هو الحسد- و هو نهاية الأخلاق الذميمة. كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، و لهذا السبب ختم اللّه مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، و هو قوله: وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: 5] كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة و هو قوله:
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ [الناس: 5، 6] فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس، بل قيل: الحاسد أشر من إبليس، لأن إبليس
روي أنه أتى باب فرعون و قرع الباب
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 227
فقال فرعون/ من هذا؟ فقال إبليس: لو كنت إلهاً لما جهلتني، فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شرًّا مني و منك، قال: نعم، الحاسد، و بالحسد وقعت في هذه المحنة.
إذا عرفت هذا فنقول: أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة، و الأولاد و النتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل اللّه تعالى سورة الفاتحة و هي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع و أيضاً أصل سورة الفاتحة هو التسمية، و فيها الأسماء الثلاثة، و هي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة، فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية، و الآيات السبع (التي هي الفاتحة) في مقابلة الأخلاق السبعة، ثم إن جملة القرآن كالنتائج و الشعب من الفاتحة، و كذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج و الشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة.
أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول: إن من عرف اللّه و عرف أنه لا إله إلا اللّه تباعد عنه الشيطان و الهوى، لأن الهوى إله سوى اللّه يعبد، بدليل قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] و قال تعالى لموسى: يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا الهوى، و من عرف أنه رحمن لا يغضب، لأن منشأ الغضب طلب الولاية، و الولاية للرحمن لقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] و من عرف أنه رحيم وجب أنه يتشبه به في كونه رحيماً و إذا صار رحيماً لم يظلم نفسه، و لم يلطخها بالأفعال البهيمية.
و أما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع، و قبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى، و هي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة، و ذكر معها اسمين آخرين: و هما الرب، و المالك، فالرب قريب من الرحيم، لقوله: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] و المالك قريب من الرحمن، لقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ فحصلت هذه الأسماء الثلاثة: الرب و الملك، و الإله، فلهذا السبب ختم اللّه آخر سورة القرآن عليها، و التقدير كأنه قيل: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ و إن أتاك من قبل الغضب فقل: مَلِكِ النَّاسِ و إن أتاك من قبل الهوى فقل: إِلهِ النَّاسِ [الناس: 1- 3].