کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 225
مختلفة بالكمال و النقصان و لا بد و أن يكون منها واحد هو أشرفها و أعلاها و أكملها و أبهاها، و يكون ما سواه في طاعته و تحت أمره و نهيه، كما قال: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 20، 21] و أيضاً فلا بد في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم و أكملها و أعلاها و أبهاها، و يكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته و أمره، فالمطاع الأول هو المطاع في عالم الروحانيات و المطاع الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات، فذاك مطاع العالم الأعلى، و هذا مطاع العالم الأسفل و لما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات و كالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة و مقارنة و مجانسة، فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، و المطاع في عالم الأجسام هو المظهر و المصدر هو الرسول الملكي، و المظهر هو الرسول البشري، و بهما يتم أمر السعادات في الآخرة و في الدنيا.
و إذا عرفت هذا فنقول: كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى اللّه، و هذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها اللّه تعالى في خاتمة سورة البقرة و هي قوله: وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ - الآية و يندرج في أحكام الرسل قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ، و هي معرفة الربوبية، ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية/ و هو مبني على أمرين: أحدهما: المبدأ، و الثاني:
الكمال. فالمبدأ هو قوله تعالى: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا [البقرة: 285] لأن هذا المعنى لا بد منه لمن يريد الذهاب إلى اللّه، و أما الكمال فهو التوكل على اللّه و الالتجاء بالكلية إليه و هو قوله: غُفْرانَكَ رَبَّنا و هو قطع النظر عن الأعمال البشرية و الطاعات الإنسانية و الالتجاء بالكلية إلى اللّه تعالى و طلب الرحمة منه و طلب المغفرة، ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة و تمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب و الاستعداد للذهاب إلى المعاد، و هو المراد من قوله: وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و يظهر من هذا أن المراتب ثلاثة: المبدأ و الوسط، و المعاد، أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة: و هي معرفة اللّه، و الملائكة، و الكتب، و الرسل، و أما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين: «سمعنا و أطعنا» نصيب عالم الأجساد، و «غفرانك ربنا» نصيب عالم الأرواح، و أما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد، و هو قوله: وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فابتداء الأمر أربعة، و في الوسط صار اثنين، و في النهاية صار واحداً.
و لما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء و التضرع:- فأولها: قوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [البقرة: 286] و ضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] و قوله: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [الكهف: 24] و قوله: تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] و قوله: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ* [الإنسان:
25] و هذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم اللّه الرحمن الرحيم.
و ثانيها: قوله: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: 286] و دفع الأصر- و الأصر هو الثقل- يوجب الحمد، و ذلك إنما يحصل بقوله الحمد للّه رب العالمين.
و ثالثها: قوله: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و ذلك إشارة إلى كمال رحمته، و ذلك هو قوله الرحمن الرحيم.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 226
و رابعها: قوله: وَ اعْفُ عَنَّا لأنك أنت المالك للقضاء و الحكومة في يوم الدين، و هو قوله مالك يوم الدين.
و خامسها: قوله تعالى: وَ اغْفِرْ لَنا لأنا في الدنيا عبدناك و استعنا بك في كل المهمات، و هو قوله إياك نعبد و إياك نستعين.
و سادسها: قوله: وَ ارْحَمْنا لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا: اهدنا الصراط المستقيم.
و سابعها: قوله: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] و هو المراد من قوله غير المغضوب عليهم و لا الضالين.
فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة و السلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة و السلام من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب
قال عليه السلام: «الصلاة معراج المؤمن».
الفصل الثاني في مداخل الشيطان:
مداخل الشيطان:
اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة، و الغضب، و الهوى، فالشهوة بهيمية، و الغضب سبعية، و الهوى شيطانية: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه، و الغضب آفة لكن الهوى أعظم منه، فقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ المراد آثار الشهوة، و قوله: وَ الْمُنْكَرِ المراد منه آثار الغضب، و قوله: و البغي [العنكبوت: 45] المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، و بالغضب يصير ظالماً لغيره، و بالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال اللّه تعالى، و لهذا
قال عليه السلام: الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، و ظلم لا يترك و ظلم عسى اللّه أن يتركه. فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك باللّه، و الظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، و الظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه، فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى. و منشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب، و منشأ الظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو الشهوة،
ثم لها نتائج، فالحرص و البخل نتيجة الشهوة، و العجب و الكبر نتيجة الغضب، و الكفر و البدعة نتيجة الهوى، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع- و هو الحسد- و هو نهاية الأخلاق الذميمة. كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، و لهذا السبب ختم اللّه مجامع الشرور الإنسانية بالحسد، و هو قوله: وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [الفلق: 5] كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة و هو قوله:
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ [الناس: 5، 6] فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس، بل قيل: الحاسد أشر من إبليس، لأن إبليس
روي أنه أتى باب فرعون و قرع الباب
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 227
فقال فرعون/ من هذا؟ فقال إبليس: لو كنت إلهاً لما جهلتني، فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شرًّا مني و منك، قال: نعم، الحاسد، و بالحسد وقعت في هذه المحنة.
إذا عرفت هذا فنقول: أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة، و الأولاد و النتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل اللّه تعالى سورة الفاتحة و هي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع و أيضاً أصل سورة الفاتحة هو التسمية، و فيها الأسماء الثلاثة، و هي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة، فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية، و الآيات السبع (التي هي الفاتحة) في مقابلة الأخلاق السبعة، ثم إن جملة القرآن كالنتائج و الشعب من الفاتحة، و كذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج و الشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة.
أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول: إن من عرف اللّه و عرف أنه لا إله إلا اللّه تباعد عنه الشيطان و الهوى، لأن الهوى إله سوى اللّه يعبد، بدليل قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] و قال تعالى لموسى: يا موسى، خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا الهوى، و من عرف أنه رحمن لا يغضب، لأن منشأ الغضب طلب الولاية، و الولاية للرحمن لقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] و من عرف أنه رحيم وجب أنه يتشبه به في كونه رحيماً و إذا صار رحيماً لم يظلم نفسه، و لم يلطخها بالأفعال البهيمية.
و أما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع، و قبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى، و هي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة، و ذكر معها اسمين آخرين: و هما الرب، و المالك، فالرب قريب من الرحيم، لقوله: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] و المالك قريب من الرحمن، لقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ فحصلت هذه الأسماء الثلاثة: الرب و الملك، و الإله، فلهذا السبب ختم اللّه آخر سورة القرآن عليها، و التقدير كأنه قيل: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ و إن أتاك من قبل الغضب فقل: مَلِكِ النَّاسِ و إن أتاك من قبل الهوى فقل: إِلهِ النَّاسِ [الناس: 1- 3].
و لنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول: من قال الحمد للّه فقد شكر اللّه، و اكتفى بالحاصل، فزالت شهوته، و من عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد، و بخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة و لذاتها، و من عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن الرحيم زال غضبه، و من قال إياك نعبد و إياك نستعين زال كبره بالأول و عجبه بالثاني، فاندفعت/ عنه آفة الغضب بولديها، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى، و إذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره و شبهته، و إذا قال غير المغضوب عليهم و لا الضالين اندفعت عنه بدعته، فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة.
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 228
الفصل الثالث في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ و الوسط و المعاد
جمع الفاتحة لكل ما يحتاج إليه:
اعلم أن قوله الحمد للّه إشارة إلى إثبات الصانع المختار، و تقريره: أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ [البقرة: 258]، و قال في موضع آخر: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78]، و قال موسى عليه السلام: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50]، و قال في موضع آخر: رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* [الشعراء: 26]، و قال تعالى في أول سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] و قال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق: 1، 2] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى، و إذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيراً جداً.
و اعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل، و من حيث أنها نفع عظيم وصل من اللّه إلى العبد إنعام، فلا جرم هو دليل من وجه، و إنعام من وجه، و الإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاماً كان يستحق هو الحمد، و حدوث بدن الإنسان أيضاً كذلك، و ذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع و الصور و الإشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور و الطبائع، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقدورات قصد بحكم رحمته و إحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا، و متى كان الأمر كذلك كان مستحقاً للحمد و الثناء، فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ يدل على وجود الصانع، و على علمه و قدرته، و رحمته، و كمال حكمته و على كونه مستحقاً للحمد و الثناء و التعظيم، فكان قوله الحمد للّه دالًا على جملة هذه المعاني، و أما قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ فهو يدل على أن ذلك الإله واحد، و أن كل العالمين ملكه و ملكه،/ و ليس في العالم إله سواه، و لا معبود غيره، و أما قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة و الكرم و الفضل و الإحسان قبل الموت و عند الموت و بعد الموت، و أما قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فيدل على أن من لوازم حكمته و رحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء، و يظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين، و لو لم يحصل هذا البعث و الحشر لقدح ذلك في كونه رحماناً رحيماً، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ يدل على وجود الصانع المختار، و قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ يدل على وحدانيته، و قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يدل على رحمته في الدنيا و الآخرة، و قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يدل على كمال حكمته و رحمته بسبب خلق الدار الآخرة، و إلى هاهنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية. أما قوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ - إلى آخر السورة فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية، و هي محصورة
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 229
في نوعين: الأعمال التي يأتي بها العبد، و الآثار المتفرعة على تلك الأعمال: أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان: أحدهما: إتيانه بالعبادة و إليه الإشارة بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ . و الثاني: علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة اللّه و إليه الإشارة بقوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و هاهنا ينفتح البحر الواسع في الجبر و القدر، و أما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية و الانكشاف و التجلي، و إليه الإشارة بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الكاملون المحقون المخلصون، و هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته، و معرفة الخير لأجل العمل به، و إليهم الإشارة بقوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . و الطائفة الثانية: الذين أخلوا بالأعمال الصالحة، و هم الفسقة و إليهم الإشارة بقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ . و الطائفة الثالثة: الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة، و هم أهل البدع و الكفر، و إليهم الإشارة بقوله: وَ لَا الضَّالِّينَ .
إذا عرفت هذا فنقول: استكمال النفس الإنسانية بالمعارف و العلوم على قسمين: أحدهما: أن يحاول تحصيلها بالفكر و النظر و الاستدلال، و الثاني: أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه، و قوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إشارة إلى القسم الأول، و قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إشارة إلى القسم الثاني، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة و الأعمال الصائبة، و تبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة، و هم المغضوب عليهم، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة، و هم الضالون، و هذا آخر السورة، و عند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية و معرفة العبودية.
الفصل الرابع قسمة اللّه للصلاة بينه و بين عباده:
قال عليه السلام حكاية عن اللّه تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، فإذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى ذكرني عبدي، و إذا قال الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه حمدني عبدي، و إذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي، و إذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي، و في رواية أخرى فوض إلي عبدي، و إذا قال إياك نعبد يقول اللّه عبدني عبدي، و إذا قال و إياك نستعين يقول اللّه تعالى توكل علي عبدي، و في رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد و إياك نستعين يقول اللّه تعالى هذا بيني و بين عبدي، و إذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه هذا لعبدي و لعبدي ما سأل.
فوائد هذا الحديث:
الفائدة الأولى:
قوله تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين
يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق، كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] و ذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية، ثم بمعرفة العبودية، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد، كما قال:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] و قال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان: 2] و قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 230
أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] و لما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل اللّه هذه السورة على محمد عليه السلام و جعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية، و النصف الثاني منها في معرفة العبودية، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد.
الفائدة الثانية: اللّه تعالى سمي الفاتحة باسم الصلاة، و هذا يدل على أحكام: الحكم الأول: أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة، و ذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، كما يقوله أصحابنا و يتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى: أحدها: أنه عليه الصلاة و السلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ* و
لقوله عليه الصلاة و السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
و ثانيها: أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك،
لقوله عليه الصلاة و السلام: «عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي»
و ثالثها: أن جميع المسلمين شرقاً و غرباً لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى/ وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115] و رابعها:
قوله عليه الصلاة و السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
خامسها: قوله تعالى:
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] و قوله: فَاقْرَؤُا أمر، و ظاهره الوجوب، فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة، و قراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملًا بظاهر الأمر، و سادسها: أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها،
لقوله عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
و سابعها: أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرماً لقوله تعالى:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] و ثامنها: أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل و أكمل من قراءة غيرها، إذا ثبت هذا فنقول: التكليف كان متوجهاً على العبد بإقامة الصلاة، و الأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة، و قد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة و لا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص، فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة، و تاسعها:
أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب، لقوله تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] و هذه السورة مع كونها مختصرة، جامعة لمقامات الربوبية و العبودية و المقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف و لهذا السبب جعل اللّه هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها ألبتة. و عاشرها: أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة.
الفائدة الثالثة:
أنه قال: «إذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى: «ذكرني عبدي»
و فيه أحكام: أحدها: أنه تعالى قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] فههنا لما أقدم العبد على ذكر اللّه لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملائه. و ثانيها: أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية، لأنه وقع الابتداء به، و مما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] ثم قال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ
مفاتيح الغيب، ج1، ص: 231
[الأعراف: 201] فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر. و ثالثها: إن
قوله: «ذكرني عبدي»
يدل على أن قولنا: «اللّه» اسم علم لذاته المخصوصة، إذ لو كان اسماً مشتقاً لكان مفهومه مفهوماً كلياً، و لو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ، فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان،/ فثبت أن
قوله: «ذكرني عبدي»
يدل على أن قولنا اللّه اسم علم، أما
قوله: «و إذا قال الحمد للّه يقول اللّه تعالى حمدني عبدي»
فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر و يدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد، بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] و آخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضاً، بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] و العقل أيضاً يدل عليه، لأن الفكر في ذات اللّه غير ممكن،
لقوله عليه الصلاة و السلام: «تفكروا في الخلق و لا تفكروا في الخالق»
و لأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره، و تصور كنه حقيقة الحق غير ممكن، فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله و مخلوقاته، ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات، و الشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته و مصنوعاته كان وقوفه على رحمته و فضله و إحسانه أكثر، فلا جرم كان اشتغاله بالحمد و الشكر أكثر، فلهذا قال: الحمد للّه رب العالمين، و عند هذا
يقول: حمدني عبدي،
فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله و فكره على وجود فضله و إحسانه في ترتيب العالم الأعلى و العالم الأسفل، و على أن لسانه صار موافقاً لعقله و مطابقاً له، و إن غرق في بحر الإيمان به و الإقرار بكرمه بقلبه و لسانه و عقله و بيانه، فما أجل هذه الحالة.
و أما
قوله: «و إذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي»
فلقائل أن يقول: إنه لما قال بسم اللّه الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم و هناك لم يقل اللّه عظمني عبدي، و هاهنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق؟ و جوابه أن قوله الحمد للّه دل على إقرار العبد بكماله في ذاته، و بكونه مكملًا لغيره، ثم قال بعده: رب العالمين، و هذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك، فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك و النظير و المثل و الضد و الند في غاية الرحمة و الفضل و الكرم مع عباده و لا شك أن غاية ما يصل العقل و الفهم و الوهم إليه من تصور معنى الكمال و الجلال ليس إلا هذا المقام، فلهذا السبب
قال اللّه تعالى هاهنا: «عظمني عبدي».
و أما
قوله: «و إذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي»
أي: نزهني و قدسني عما لا ينبغي- فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين، و كون الأقوياء مستولين على الضعفاء، و نرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش، و نرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة و الغبطة، و هذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين و أحكم الحاكمين، فلو لم يحصل المعاد و البعث و الحشر حتى ينتصف اللّه فيه للمظلومين من الظالمين و يوصل إلى أهل الطاعة الثواب، و إلى أهل الكفر العقاب، لكان هذا الإهمال و الامهال ظلماً من اللّه على/ العباد، أما لما حصل يوم الجزاء و يوم الدين اندفع و هم الظلم، فلهذا السبب قال اللّه تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] و هذا هو المراد من قوله تعالى:
مجدني عبدي، الذي نزهني عن الظلم و عن شيمه.
و أما
قوله: «و إذا قال العبد إياك نعبد و إياك نستعين قال اللّه هذا بيني و بين عبدي»