کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 24
فيها كيف يشاء، و هو قول أبي مسلم، و على هذين الوجهين الآية عامة. الثالث: أراد به الملائكة و عزيزاً و المسيح، أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له،
يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى: لو لا تمرد عيسى عن عبادة اللّه لصرت على دينه، فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى/ عيسى مع جده في طاعة اللّه، فقال علي رضي اللّه عنه: فإن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة، فانقطع النصراني.
المسألة الثانية: لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات و بقاءها به سبحانه و لأجله و هذا يقتضي أن العالم حال بقائه و استمراره محتاج إليه سبحانه و تعالى، فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا محال حدوثه و لا حال بقائه.
المسألة الثالثة: يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله: قانِتُونَ جوابه: كأنه جاء بما دون من تحقيراً لشأنهم.
أما قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: البديع و المبدع بمعنى واحد. قال القفال: و هو مثل أليم بمعنى مؤلم و حكيم بمعنى محكم، غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه و أنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة: سامع و سميع و قد يجيء بديع بمعنى مبدع، و الإبداع الإنشاء و نقيض الإبداع الاختراع على مثال و لهذا السبب فإن الناس يسمعون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعاً.
المسألة الثانية: اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول، لأنه تعالى قال: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فبين بذلك كونه مالكاً لما في السموات و الأرض [في قوله تعالى وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ] ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات و الأرض، ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعض الأدباء: القضاء مصدر في الأصل سمي به و لهذا جمع على أقضيه كغطاء و أغطية، و في معناه القضية، و جمعها القضايا و وزنه فعال من تركيب «ق ض ى» و أصله «قضاي» إلا أن الياء لما وقعت طرفاً بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفاً، ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظا، و من نظائره المضاء و الإتاء، من مضيت و أتيت و السقاء، و الشفاء، من سقيت و شفيت، و الدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول: قضيت و قضينا، و قضيت إلى قضيتن، و قضيا و قضين، و هما يقضيان، و هي و أنت تقضي، و المرأتان و أنتما تقضيان، و هن يقضين، و أما أنت تقضين، فالياء فيه ضمير المخاطبة، و أما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من ذلك قولهم، قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم، لأنه فصل للدعوى، و لهذا قيل: حاكم فيصل إذا كان قاطعاً للخصومات و حكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها، و قولهم انقضى الشيء إذا تم و انقطع، و قولهم: قضى حاجته، معناه قطعها عن المحتاج و دفعها عنه و قضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي و الاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه،/ و قولهم: قضى الأمر، إذا أتمه و أحكمه، و منه قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] و هو من هذا لأن في إتمام العمل قطعاً له و فراغاً منه، و منه:
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 25
درع قضاء من قضاها إذا أحكمها و أتم صنعها، و أما قولهم؛ قضى المريض و قضى نحبه إذا مات، و قضى عليه:
قتله فمجاز مما ذكر و الجامع بينهما ظاهر، و أما تقضي البازي فليس من هذا التركيب، و مما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه و هو القيض و الضيق، أما الأول فيقال: قاضه فانقاض، أي شقه فانشق، و منه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى، و انقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم، و القطع و الشق و الفلق و الهدم متقاربة، و أما الضيق و ما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة، و ذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس، و مما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضاً على معنى القطع، فأولها: قضبه إذا قطعه، و منه القضبة المرطبة، لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر، و القضيب: الغصن، فعيل بمعنى مفعول، و المقضب ما يقضب به كالمنجل. و ثانيها: القضم و هو الأكل بأطراف الأسنان، لأن فيه قطعاً للمأكول، و سيف قضيم: في طرفه تكسر و تفلل. و ثالثها: القضف و هو الدقة، يقال رجل قضيف، أي: نحيف، لأن القلة من مسببات القطع. و رابعها: القضاة فعلة و هي الفساد، يقال قضئت القربة إذا عفيت و فسدت و في حسبه قضأة أي عيب، و هذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة.
المسألة الثانية: في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا: أنه يستعمل على وجوه. أحدها: بمعنى الخلق، قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ يعني خلقهن. و ثانيها: بمعنى الأمر قال تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23]. و ثالثها: بمعنى الحكم، و لهذا يقال للحاكم: القاضي. و رابعها: بمعنى الإخبار، قال تعالى: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الإسراء: 4] أي أخبرناهم، و هذا يأتي مقروناً بإلى.
و خامسها: أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29] يعني لما فرغ من ذلك، و قال تعالى: وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ [هود: 44] يعني فرغ من إهلاك الكفار و قال: لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج: 29] بمعنى ليفرغوا منه، إذا عرفت هذا فنقول: قوله: إِذا قَضى أَمْراً [آل عمران: 47] قيل: إذا خلق شيئاً، و قيل: حكم بأنه يفعل شيئاً، و قيل: أحكم أمراً، قال الشاعر:
و عليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة: اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، و هل هو حقيقة في الفعل و الشأن الحق؟ نعم و هو المراد بالأمر هاهنا، و بسط القول فيه مذكور في أصول الفقه.
المسألة الرابعة: قرأ ابن عامر: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين:
في أول آل عمران: كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُ [آل عمران: 59، 60] و في الأنعام: كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ [الأنعام: 73] فإنه رفعهما، و عن الكسائي بالنصب في النحل و يس و بالرفع في سائر القرآن، و الباقون بالرفع في كل القرآن، أما النصب فعلى جواب الأمر، و قيل هو بعيد، و الرفع على الاستئناف أي فهو يكون.
المسألة الخامسة: اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] هو أنه تعالى يقول له: كُنْ فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد و الذي يدل عليه وجوه. الأول: أن قوله: كُنْ فَيَكُونُ إما أن يكون قديماً أو محدثاً و القسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على كُنْ إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه. الأول: أن كلمة كُنْ لفظة مركبة من الكاف و النون بشرط تقدم الكاف على النون، فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد و أن يكون محدثاً، و الكاف لكونه متقدماً على
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 26
المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً. الثاني: أن كلمة إِذا لا تدخل إلا على سبيل الاستقبال، فذلك القضاء لا بد و أن يكون محدثاً لأنه دخل عليه حرف إِذا و قوله كُنْ مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ و المتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون: كُنْ قديما. الثالث:
أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله: كُنْ بفاء التعقيب فيكون قوله: كُنْ مقدماً على تكون المخلوق بزمان واحد و المتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد و أن يكون محدثاً فقوله: كُنْ لا يجوز أن يكون قديماً، و لا جائز أيضاً أن يكون قوله: كُنْ محدثاً لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: كُنْ و قوله: كُنْ أيضاً محدث فيلزم افتقار: كُنْ آخر و يلزم إما التسلسل و إما الدور و هما محالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله: كُنْ .
الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود، و الأول: باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه، و الثاني: أيضاً باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً و ذلك أيضاً لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جماداً، و تكليف الجماد عبث و لا يليق بالحكيم.
الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصح منه الفعل و تركه بحسب الإرادات، فإذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله: كُنْ فإما أن يتمكن من الإيجاد و الأحداث أو لا يتمكن، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفاً على قوله: كُنْ و إن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن و ذلك نزاع في اللفظ.
الحجة الخامسة: أن كُنْ لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير، و لما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.
الحجة السادسة: أن كُنْ كلمة مركبة من الكاف و النون، بشرط كون الكاف متقدماً على النون، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما، فإن كان الأول لم يكن لكلمة كُنْ أثر ألبتة، بل التأثير لأحد هذين الحرفين، و إن كان الثاني فهو محال، لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلًا، و حين جاء الثاني فقد فات الأول، و إن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] بين أن قوله: كُنْ متأخر عن خلقه إذا المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: كُنْ في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب، و إذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل و هو من وجوه:
الأول: و هو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة اللّه في تكوين الأشياء، و أنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة و معاناة و تجربة و نظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات و الأرض: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] من غير قول كان منهما لكن على سبيل سرعة نفاذ قدرته في
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 27
تكوينهما من غير ممانعة و مدافعة و نظيره قول العرب: قال الجدار للوتد لم تشقني؟ قال: سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي و نظيره قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]. الثاني: أنه علامة يفعلها اللّه تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً يحكى ذلك عن أبي الهذيل. الثالث: أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم؛ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ* [البقرة: 65] و من جرى مجراهم و هو قول الأصم. الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت و للموتى بالحياة و الكل ضعيف و القوي هو الأول.
[سورة البقرة (2): آية 118]
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود و النصارى و المشركين، ففيه مسائل:
المسألة الأولى: [ما حكي عن اليهود و النصارى و المشركين في قدح النبوة] أن اللّه تعالى لما حكى عن اليهود و النصارى و المشركين ما يقدح في التوحيد و هو أنه تعالى اتخذ الولد، حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة، و قال أكثر المفسرين؛ هؤلاء هم مشركو العرب و الدليل عليه قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] و قالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5]، و قالوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: 21] هذا قول أكثر المفسرين، إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك، و الدليل عليه قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النساء: 153] فإن قيل: الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، و أهل الكتاب أهل العلم، قلنا: المراد أنهم لا يعلمون التوحيد و النبوة كما ينبغي، و أهل الكتاب كانوا كذلك.
المسألة الثانية: تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلا بد/ و أن يختار أقرب الطرق المفضية إليه و أبعدها عن الشكوك و الشبهات، إذا ثبت هذا فنقول: إن اللّه تعالى يكلم الملائكة و كلم موسى و أنت تقول: يا محمد، إنه كلمك و الدليل عليه قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] فلم لا يكلمنا مشافهة و لا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد و تزول الشبهة و أيضاً فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية و معجزة و هذا منهم طعن في كون القرآن آية و معجزة، لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا: هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، و حاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد صلى اللّه عليه و سلّم بالمعجزات، و بينا صحة قوله بالآيات و هي القرآن و سائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت و إذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه. الأول: أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها و طلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد و اللجاج، فلم تكن إجابتها واجبة و نظيره قوله تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 50، 51] فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية. و ثانيها: لو كان في معلوم اللّه تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها، و لكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 28
يفعل ذلك و لذلك قال تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23]. و ثالثها: إنما حصل في تلك الآيات أنواع من المفاسد و ربما أوجب حصولها هلاكهم و استئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب و ربما كان بعضها منتهياً إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف، و ربما كانت كثرتها و تعاقبها يقدح في كونها معجزة، لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً و كل ذلك أمور لا يعلمها إلا اللّه علام الغيوب فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة.
أما قوله تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم و أفعالهم، فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت و اقتراح الأباطيل، كقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] و قولهم:
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] و قولهم: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: 67] و قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العناد و اللجاج و طلب الباطل.
أما قوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالمراد أن القرآن و غيره من المعجزات كمجيء الشجرة و كلام الذئب، و إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرة، و معجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين.
[سورة البقرة (2): آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
اعلم أن القوم لما أصروا على العناد و اللجاج الباطل و اقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بين اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه و سلّم أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة و كما بين ذلك بين أنه لا مزيد على ما فعله الرسول في باب الإبلاغ و التنبيه لكي لا يكثر غمه بسبب إصرارهم على كفرهم و في قوله: بِالْحَقِ وجوه.
أحدها: أنه متعلق بالإرسال، أي أرسلناك إرسالًا بالحق. و ثانيها: أنه متعلق بالبشير و النذير أي أنت مبشر بالحق و منذر به. و ثالثها: أن يكون المراد من الحق الدين و القرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيراً لمن أطاع اللّه بالثواب و نذيراً لمن كفر بالعقاب، و الأولى أن يكون البشير و النذير صفة للرسول صلى اللّه عليه و سلّم فكأنه تعالى قال:
إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشراً لمن اتبعك و اهتدى بدينك و منذراً لمن كفر بك و ضل عن دينك.
أما قوله تعالى: وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ففيه قراءتان:
الجمهور برفع التاء و اللام على الخبر، و أما نافع فبالجزم و فتح التاء على النهي.
أما على القراءة الأولى ففي التأويل وجوه. أحدها: أن مصيرهم إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك و لست بمسؤول عن ذلك و هو كقوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40]، و قوله: عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ [النور: 54]. و الثاني: أنك هاد و ليس لك من الأمر شيء، فلا تأسف و لا تغتم لكفرهم و مصيرهم إلى العذاب و نظيره قوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8]. الثالث: لا تنظر إلى المطيع و العاصي في الوقت، فإن الحال قد يتغير فهو غيب فلا تسأل عنه، و في الآية دلالة على أن أحداً لا يسأل عن ذنب غيره و لا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء كان قريباً أو كان بعيداً.
أما القراءة الثانية ففيها وجهان، الأول:
روي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟
فنهي عن السؤال عن
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 29
الكفرة و هذه الرواية بعيدة لأنه عليه الصلاة و السلام كان عالماً بكفرهم «1» ، و كان عالماً بأن الكافر معذب، فمع هذا العلم كيف يمكن أن يقول: ليت شعري ما فعل أبواي. و الثاني: معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بلية فيقال لك: لا تسأل عنه، و وجه التعظيم أن المسؤول يجزع أن يجرى على لسانه ما هو فيه لفظاعته فلا تسأله و لا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع و إضجاره، فلا تسأل، و القراءة الأولى يعضدها قراءة أبي: و ما تسأل و قراءة عبد اللّه و لن تسأل.
[سورة البقرة (2): آية 120]
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله بما تقدم من الآية و بين أن العلة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم و أنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في تشددهم في باطلهم و ثباتهم على كفرهم أنهم يريدون مع ذلك أن يتبع ملتهم و لا يرضون منه بالكتاب، بل يريدون منه الموافقة لهم فيما هم عليه فبين بذلك شدة عداوتهم للرسول و شرح ما يوجب اليأس من موافقتهم و الملة هي الدين ثم قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى بمعنى أن هدى اللّه هو الذي يهدي إلى الإسلام و هو الهدي الحق و الذي يصلح أن يسمى هدى و هو الهدى كله ليس وراءه هدى، و ما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى، ألا ترى إلى قوله: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء و بدع، بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي معين يعصمك و يذب عنك، بل اللّه يعصمك من الناس إذا أقمت على الطاعة و الاعتصام بحبله قالوا: الآية تدل على أمور منها أن الذي علم اللّه منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله، فإن في هذه الصورة علم اللّه أنه لا يتبع أهواءهم و مع ذلك فقد توعده عليه و نظيره قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] و إنما حسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هذا الوعيد أحد صوارفه. و ثانيها: أن قوله: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة و إذا صح ذلك فبأن لا يجوز الوعيد إلا بعد القدرة أولى فبطل به قول من يجوز تكليف ما لا يطاق. و ثالثها: فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلًا، فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد. و رابعها: فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعاً و نصيراً لكان الرسول أحق بذلك و هذا ضعيف، لأن اتباع أهوائهم كفر، و عندنا لا شفاعة في الكفر.
[سورة البقرة (2): آية 121]
/ المسألة الأولى: الَّذِينَ موضعه رفع بالابتداء. و أُولئِكَ ابتداء ثان و يُؤْمِنُونَ بِهِ خبره.
(1) قوله: «كان عالماً بكفرهم إلخ» هذا كلام تقشعر منه جلود المؤمنين، و يرفضه من كان في عداد المسلمين، و هو خطأ صريح، و الصواب أن أصحاب الجحيم هم اليهود و النصارى المذكورون في الآيات السابقة، و هذا هو الموافق لنظم الكتاب الكريم، و هو ما رجحه الإمام أبو حيان في تفسيره، و توجد مؤلفات عدة لكثير من علماء المتقدمين و المتأخرين في نجاة الأبوين.
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 30
المسألة الثانية: المراد بقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من هم فيه قولان:
القول الأول: أنهم المؤمنون الذين آتاهم اللّه القرآن و احتجوا عليه من وجوه. أحدها: أن قوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ حث و ترغيب في تلاوة هذا الكتاب، و مدح على تلك التلاوة، و الكتاب الذي هذا شأنه هو القرآن لا التوراة و الإنجيل، فإن قراءتهما غير جائزة. و ثانيها: أن قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يدل على أن الإيمان مقصود عليهم، و لو كان المراد أهل الكتاب لما كان كذلك. و ثالثها: قوله: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ و الكتاب الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن.
القول الثاني: أن المراد بالذين آتاهم الكتاب، هم الذين آمنوا بالرسول من اليهود، و الدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم و حكى عنهم سوء أفعالهم، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم، بل تأمل التوراة و ترك تحريفها و عرف منها صحة نبوة محمد عليه السلام.
أما قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ فالتلاوة لها معنيان. أحدهما: القراءة. الثاني: الإتباع فعلًا، لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلًا، قال اللّه تعالى: وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشمس: 2] فالظاهر أنه يقع عليهما جميعا، و يصح فيهما جميعاً المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه، و كذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه، و الذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه. فأولها: أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال و حرام و غيرهما. و ثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته، و خشعوا إذا قرءوا القرآن في صلاتهم و خلواتهم. و ثالثها: أنهم عملوا بمحكمه و آمنوا بمتشابهه، و توقفوا فيما أشكل عليهم منه و فوضوه إلى اللّه سبحانه. و رابعها: يقرءونه كما أنزل اللّه، و لا يحرفون الكلم عن مواضعه، و لا يتأولونه على غير الحق. و خامسها: أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، و هو تعظيمها، و الانقياد لها لفظاً و معنى، فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيراً لفوائد كلام اللّه تعالى و اللّه أعلم.
[سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 124]
أعلم أنه سبحانه و تعالى لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل ثم في شرح قبائحهم في أديانهم و أعمالهم و ختم هذا الفصل بما بدأ به و هو قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إلى قوله: وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ شرع سبحانه هاهنا في نوع آخر من البيان و هو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام و كيفية أحواله، و الحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام شخص يعترف بفضله جميع الطوائف و الملل، فالمشركين كانوا معترفين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده و من ساكني حرمه و خادمي بيته.