کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 149
متروك، و الشيء الثاني مطلوب و هما متغايران، فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية و الوحدانية، فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث و القدم، فهناك تنقطع الحركات، و تضمحل العلامات و الأمارات، و لم يبق في العقول و الألباب إلا مجرد أنه هو، فيا هو و يا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف، فإن عبدك بفنائك و مسكينك ببابك.
المسألة السادسة: إن قيل: ما معنى إضافته بقوله: وَ إِلهُكُمْ و هل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف؟ قلنا: لما كان الإله هو يستحق أن يكون معبوداً و الذي يليق به أن يكون معبوداً بهذا الوصف، إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة اللّه تعالى، فإذن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين، و إلى جميع من تصح صيرورته مكلفاً تقديراً.
المسألة السابعة: قوله: وَ إِلهُكُمْ يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى و قادركم قادر واحد و معلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود.
المسألة الثامنة: قوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ معناه أنه واحد في الإلهية، لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها، فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد، و بأنه عالم واحد، و لما قال: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق، فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و ذلك لأن قولنا: لا رجل يقتضي نفي هذه الماهية، و متى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها، إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد، فقد حصلت الماهية، و ذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية: فثبت أن قولنا: لا رجل يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قيل بعد: إلا زيداً، أفاد التوحيد التام المحقق و في هذه الكلمة أبحاث. أحدها: أن جماعة من النحويين قالوا: الكلام فيه حذف و إضمار و التقدير: لا إله لنا، أو لا إله في الوجود إلا اللّه، و اعلم أن هذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق و ذلك لأنك لو قلت: التقدير أنه لا إله لنا إلا اللّه، لكان هذا توحيداً لإلهنا لا توحيد للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و بين قوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فرق، فيكون ذلك تكراراً محضاً، و أنه غير جائز، و أما لو قلنا: التقدير لا إله في الوجود، فذلك الإشكال زائل، إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر، و ذلك لأنك إذا قلنا: لا إله في الوجود لا إله إلا هو؛ كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني، أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك: لا إله إلا اللّه نفياً لماهية الإله الثاني، و معلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، و الإعراض عن هذا الإضمار أولى، فإن قيل: نفي الماهية كيف يعقل؟ فإنك إذا قلت السواد ليس بسواد، كان ذلك حكماً بأن السواد ليس بسواد، و هو غير معقول، أما إذا قلت: السواد ليس بموجود، فهذا معقول منتظم مستقيم، قلنا: بنفي الماهية أمر لا بد منه، فإنك إذا قلت: السواد ليس بموجود، فقد نفيت الوجود، و الوجود من حيث هو وجود ماهية، فإذا نفيته فقد نفيت هذه الماهية المسماة بالوجود، فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي، فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضاً، فإذا عقل ذلك صح اجراء قولنا: لا إله إلا اللّه على ظاهره، من غير حاجة إلى الإضمار، فإن قلت: إنا إذا قلنا السواد ليس بموجود، فما نفيت الماهية و ما نفيت الوجود، و لكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود، قلت: فموصوفية الماهية بالوجود، هل هي أمر منفصل
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 150
عن الماهية و عن الوجود أم لا، فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفيا لتلك الماهية، فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها، و حينئذ يعود التقريب المذكور، و إن لم تكن تلك الموصوفية أمرا منفصلا عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي، إما إلى الماهية و إما إلى الوجود، و حينئذ يعود التقريب المذكور فثبت أن قولنا، لا إله إلا هو حق و صدق من غير حاجة إلى الإضمار ألبتة.
البحث الثاني: فيما يتعلق بهذه الكلمة أن تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات، فإنك ما لم تتصور الوجود أولا، استحال أن تتصور العدم، فإنك لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود. فتصور الوجود غني عن تصور العدم، و تصور العدم مسبوق بتصور الوجود، فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي و أخرنا الإثبات.
و الجواب: أن الأمر في العقل على ما ذكرت، إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد و نفي الشركاء و الأنداد.
البحث الثالث: في كلمة هُوَ اعلم أن المباحث اللفظية المتعلقة بهو قد تقدمت في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أما الأسرار المعنوية فنقول، اعلم أن الألفاظ على نوعين: مظهرة و مضمرة: أما المظهرة فهي الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة من حيث هي هي، كالسواد، و البياض، و الحجر، و الإنسان، و أما المضمرات فهي الألفاظ الدالة على شيء ما، هو المتكلم، و المخاطب، و الغائب، من غير دلالة على ماهية ذلك المعين، و هي ثلاثة: أنا، و أنت، و هو، و أعرفها أنا، ثم أنت، ثم هو، و الدليل على صحة هذا الترتيب أن تصوري لنفسي من حيث أني أنا مما لا يتطرق إليه الاشتباه، فإنه من المستحيل أن أصير مشتبها بغيري، أو يشتبه بي غيري، بخلاف أنت، فإنك قد تشتبه بغيرك، و غيرك يشتبه بك في عقلي و ظني، و أيضا فأنت أعرف من هو، فالحاصل أن أشد المضمرات عرفانا أنا و أشدها بعدا عن العرفان. (هو) و أما (أنت) فكالمتوسط بينهما، و التأمل التام يكشف عن صدق هذه القضية، و مما يدل على أن أعرف الضمائر قولا قولي (أنا) أن المتكلم حصل له عند الانفراد لفظ يستوي فيه المذكر و المؤنث من غير فصل، لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الالتباس، و هاهنا لا يمكن الالتباس، فلا حاجة إلى الفصل، و أما عند التثنية و الجمع فاللفظ واحد، أما في المتصل فكقولك: شربنا، و أما المنفصل فقولك: نحن، و إنما كان كذلك للأمن من اللبس، و أما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه و مذكره، و يثنى و يجمع، لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث و مذكر و هو مقبل عليهما، فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة: و تثنية المخاطب و جمعه إنما حسن لهذه العلة، و أما إن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري، إذا عرفت هذا فنقول: ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره سواء كان حاضرا أو غائبا؛ فالعرفان التام باللّه ليس إلا للّه: لأنه هو الذي يقول لنفسه (أنا) و لفظ (أنا) أعرف الأقسام الثلاثة، فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر و هو قول (أنا) إلا له سبحانه علمنا أن العرفان التام به سبحانه و تعالى ليس الإله.
بقي أن هناك قوما يجوزون الاتحاد: الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول و عند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول: أنا اللّه إلا أن القول بالاتحاد غير معقول، لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما، فذاك ليس باتحاد، و إن بقيا فهما اثنان لا واحد،/ و لما انسد هذا الطريق الذي هو
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 151
أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران، و هو (أنت) و (هو) أما (أنت) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات و المشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر اللّه تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فنى عن ظلمات عالم الحدوث و عن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ [الأنبياء: 87] و هذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة و المخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه و
قال محمد صلى اللّه عليه و سلّم: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»
و أما هُوَ فللغائبين، ثم هاهنا بحث و هو أن هُوَ في حقه أشرف الأسماء، و يدل عليه وجوه:
أحدها: أن الإسم إما كلي أو جزئي، و أعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة، و أعنى بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعا من الشركة، و هو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين، فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه، لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمرا لا يمنع الشركة و ذاته المعينة سبحانه و تعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه، فإذن جميع الأسماء المشتقة: كالرحمن، و الرحيم، و الحكيم، و العليم، و القادر، لا يتناول ذاته المخصوصة و لا يدل عليها بوجه ألبتة، و إن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم و العلم قائم مقام الإشارة فلا فرق بين قولك: يا زيد و بين قولك: يا أنت و يا هو. و إذا كان العلم قائما مقام الإشارة فالعلم فرع و اسم الإشارة أصل و الأصل أشرف من الفرع، فقولنا: يا أنت، يا هو أشرف من سائر الأسماء بالكلية إلا أن الفرق أن (أنت) لفظ يتناول الحاضر و (هو) يتناول الغائب و فيه سر آخر و هو أن (هو) إنما يصح التعبير عنه إذا حصل في العقل صورة ذلك الشيء و قولك (هو) يتناول تلك الصورة و هي حاضرة، فقد عاد القول إلى أن (هو) أيضا لا يتناول إلا الحاضر. و ثانيها: أنا قد دللنا على أن حقيقة الحق منزهة عن جميع أنحاء التراكيب، و الفرد المطلق لا يمكن نعته، لأن النعت يقتضي المغايرة بين الموصوف و الصفة و عند حصول الغيرية لا تبقى الفردانية، و أيضا لا يمكن الإخبار عنه لأن النعت يقتضي مخبرا عنه و مخبرا به و ذلك ينافي الفردانية، فثبت أن جميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الوصول إلى كنه حقيقة الحق و أما لفظ (هو) فإنه يصل إلى كنه تلك الحقيقة المفردة المبرأة عن جميع جهات الكثرة فهذه اللفظة لوصولها إلى كنه الحقيقة وجب أن تكون أشرف من سائر الألفاظ التي يمتنع وصولها إلى كنه تلك الحقيقة. و ثالثها: أن الألفاظ المشتقة دالة على حصول صفة للذات ثم ماهيات صفة الحق أيضا غير معلومة إلا بآثارها الظاهرة في عالم الحدوث، فلا يعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي باعتباره صح منه الإحكام و الإتقان، و من قدرته إلا أنها الأمر الذي باعتباره صح منه صدور الفعل و الترك، فإذن هذه الصفات لا يمكننا تعلقها إلا عند الالتفات إلى الأحوال المختلفة في عالم الحدوث، فالألفاظ المشتقة لا تشير إلى الحق سبحانه وحده، بل تشير إليه و إلى عالم الحدوث معا/ و الناظر إلى شيئين لا يكون مستكملا في كل واحد منهما بل يكون ناقصا قاصرا، فإذن جميع الأسماء المشتقة لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تصير حجابا بين العبد و بين الاستغراق في معرفة الرب، و أما (هو) فإنه لفظ يدل عيله من حيث هو هو لا من حيث عرضت له إضافة أو نسبة بالقياس إلى عالم الحدوث، فكان لفظ (هو) يوصلك إلى الحق و يقطعك عما سواء، و ما عداه من الأسماء فإنه لا يقطعك عما سواء، فكان لفظ (هو) أشرف. و رابعها: أن البراهين السالفة قد دلت على أن منبع الجلال و العزة هو الذات، و أن ذاته ما كملت بالصفات بل ذاته لكمالها استلزمت
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 152
صفات الكمال، و لفظ (هو) يوصلك إلى ينبوع الرحمة و العزة و العلو و هو الذات و سائر الألفاظ لا توقفك إلا في مقامات النعوت و الصفات، فكان لفظ (هو) أشرف، فهذا ما خطر بالبال في الكشف عن أسرار لفظ (هو) و إليه الرغبة سبحانه في أن ينور بدرة من لمعات أنوارها صدورنا و أسرارنا، و يروح بها عقولنا و أرواحنا حتى نتخلص من ضيق عالم الحدوث إلى فسحة معارج القدم، و نرقى من حضيض ظلمة البشرية إلى سموات الأنوار و ما ذلك عليه بعزيز.
المسألة التاسعة: قال النحويون في قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ارتفع هُوَ لأنه بدل من موضع لا مع الاسم و لنتكلم في قوله: ما جاءني رجل إلا زيد فقوله: إلا زيد مرفوع على البدلية لأن البدلية هي الإعراض عن الأول و الأخذ بالثاني فكأنك قلت: ما جاءني إلا زيد و هذا معقول لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل إلا عن زيد، أما قوله: جاءني إلا زيدا فههنا البدلية غير ممكنة لأنه يصير في التقدير: جاءني خلق إلا زيدا، و ذلك يقتضي أنه جاء كل أحد إلا زيدا و ذلك محال فظهر الفرق و اللّه أعلم.
أما الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فقد تقدم القول في تفسيرهما و بينا أن الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة و فاعلها هو الراحم فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا (رحيم) و إذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا الرَّحْمنُ .
و اعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر و العلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية، و عزة الفردانية و إشعارا بأن رحمته سبقت غضبه و أنه ما خلق الخلق إلا للرحمة و الإحسان.
[سورة البقرة (2): آية 164]
اعلم أنه سبحانه و تعالى لما حكم بالفردانية و الوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده سبحانه أولا و على توحيده و براءته على الأضداد و الأنداد ثانيا، و قبل الخوض في شرح تكلم الدلائل لا بد من بيان مسائل:
المسألة الأولى: و هي أن الناس اختلفوا في أن الخلق هل هو المخلوق أو غيره؟ فقال عالم من الناس:
الخلق هو المخلوق. و احتجوا عليه بالآية و المعقول، أما الآية فهي هذه الآية، و ذلك لأنه تعالى قال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إلى قول: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و معلوم أن الآيات ليست إلا في المخلوق، و أما المعقول فقد احتجوا عليه بأمور. أحدها: أن الخلق عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، فهذا الإخراج لو كان أمرا مغايرا للقدرة و الأثر فهو إما أن يكون قديما أو حديثا، فإن كان قديما فقد حصل في الأزل مسمى الإخراج من العدم إلى الوجود و الإخراج من العدم إلى الوجود مسبوق بالعدم و الأزل هو نفي المسبوقية فلو حصل الإخراج في الأزل لزم اجتماع النقيضين و هو محال، و إن كان محدثا فلا بد له أيضا من مخرج يخرجه من العدم إلى الوجود فلا بد له من إخراج آخر و الكلام فيه كما في الأول و يلزم التسلسل.
و ثانيها: أنه تعالى في الأزل لم يكن مخرجا للأشياء من عدمها إلى وجودها، ثم في الأزل هل أحدث أمرا أو لم
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 153
يحدث؟ فإن أحدث أمرا فذلك الأمر الحادث هو المخلوق، و إن لم يحدث أمرا فاللّه تعالى قط لم يخلق شيئا.
و ثالثها: أن المؤثرية نسبة بين ذات المؤثر و ذات الأثر و النسبة بين الأمرين يستحيل تقريرها بدون المنتسب فهذه المؤثرية إن كانت حادثة لزم التسلسل و إن كانت قديمة كانت من لوازم ذات اللّه تعالى، و حصول الأثر أما في الحال أو في الاستقبال من لوازم هذا الصفة القديمة العظيمة و لازم اللازم لازم فيلزم أن يكون الأثر من لوازم ذات اللّه تعالى فلا يكون اللّه تعالى قادرا مختارا بل ملجأ مضطرا إلى ذلك التأثير فيكون علة موجبة و ذلك كفر.
و احتج القائلون بأن الخلق غير المخلوق بوجوه. أولها: أن قالوا: لا نزاع في أن اللّه تعالى موصوف بأنه خالق قبل أن يخلق الأشياء، و الخالق هو الموصوف بالخلق، فلو كان الخلق هو المخلوق لزم كونه تعالى موصوفا بالمخلوقات التي منها الشياطين و الأبالسة و القاذورات، و ذلك/ لا يقوله عاقل. و ثانيها: أنا إذا رأينا حادثا حدث بعد أن لم يكن قلنا: لم وجد هذا الشيء بعد أن لم يكن فإذا قيل لنا إن اللّه تعالى خلقه و أوجده قبلنا ذلك و قلنا: إنه حق و صواب، و لو قيل إنه إنما وجد بنفسه لقلنا إنه خطأ و كفر و متناقض، فلما صح تعليل حدوثه بعد ما لم يكن بأن اللّه تعالى خلقه و لم يصح تعليل حدوثه بحدوثه بنفسه، علمنا أن خلق اللّه تعالى إياه مغاير لوجوده في نفسه، فالخلق غير المخلوق. و ثالثها: أنا نعرف أفعال العباد و نعرف اللّه تعالى و قدرته مع أنا لا نعرف أن المؤثر في أفعال العباد أهو قدرة اللّه أم هو قدرة العبد و المعلوم غير ما هو معلوم فمؤثرية قدرة القادر في وقوع المقدور مغايرة لنفس تلك القدرة و لنفس ذلك المقدور، ثم إن هذه المغايرة يستحيل أن تكون سلبية لأنه نقيض المؤثرية التي هي عدمية، فهذه المؤثرية صفة ثبوتية زائدة على ذات المؤثر و ذات الأثر و هو المطلوب. و رابعها: أن النحاة قالوا: إذ قلنا خلق اللّه العالم فالعالم ليس هو المصدر بل هو المفعول به، و ذلك يدل على أن خلق العالم غير العالم. و خامسها: أنه يصح أن يقال: خلق السواد و خلق البياض و خلق و الجوهر و خلق العرض فمفهوم الخلق أمر واحد في الكل مغاير لهذه الماهيات المختلفة بدليل أنه يصح تقسيم الخالقية إلى خالقية الجوهر و خالقية العرض و مورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فثبت أن الخلق غير المخلوق فهذا جملة ما في هذه المسألة.
المسألة الثانية: قال أبو مسلم رحمة اللّه: أصل الخلق في كلام العرب التقدير و صار ذلك اسما لأفعال اللّه تعالى لما كان جميعها صوابا قال تعالى: وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] و يقول الناس في كل أمر محكم هو معمول على تقدير.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أنه لا بد من الاستدلال على وجود الصانع بالدلائل العقلية و أن التقليد ليس طريقا ألبتة إلى تحصيل هذا الغرض.
المسألة الرابعة: ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية: عن عطاء أنه عليه السلام عند قدومه المدينة نزل عليه: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل اللّه تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و
عن سعيد بن مسروق قال: سألت قريش اليهود فقالوا حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات فحدثوهم بالعصا و باليد البيضاء و سألوا النصارى عن ذلك فحدثوهم بإبراء الأكمة و الأبرص و إحياء الموتى فقالت قريش عند ذلك للنبي عليه السلام ادع اللّه أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنزداد يقينا و قوة على عدونا، فسأل ربه ذلك فأوحى اللّه تعالى إليه أن يعطيهم و لكن إن كذبوا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 154
العالمين فقال عليه السلام: «ذرني و قومي أدعوهم يوما فيوما» فأنزل اللّه تعالى هذه الآية مبينا لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبا ليزدادوا يقينا فخلق السموات و الأرض و سائر ما ذكر أعظم.
و اعلم أن الكلام في هذه الأنواع الثمانية من الدلائل على أقسام:
القسم الأول: في تفصيل القول في كل واحد منها، فالنوع الأول من الدلائل: الاستدلال/ بأحوال السموات و قد ذكرنا طرفا من ذلك في تفسير قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] و لنذكر هاهنا نمطا آخر من الكلام:
روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوما: ما الذي تقرءونه فقال: أفسر آية من القرآن، و هي قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: 6] فأنا أفسر كيفية بنيانها، و لقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار مخلوقات اللّه تعالى كان أكثر علما بجلال اللّه تعالى و عظمته فنقول: الكلام في أحوال السموات على الوجه المختصر الذي يليق بهذا الموضع مرتب في فصول:
الفصل الأول في ترتيب الأفلاك
قالوا: أقربها إلينا كرة القمر، و فوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل، ثم كرة الثوابت، ثم الفلك الأعظم.
و اعلم أن في هذا الموضوع أبحاثا:
البحث الأول: ذكروا في طريق معرفة هذا الترتيب ثلاثة أوجه. الأول: السير، و ذلك أن الكواكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا و بين الكواكب الأعلى فإنهما يبصران ككوكب واحد، و يتميز السائر عن المستور بلونه الغالب، كصفرة عطارد، و بياض الزهرة و حمرة المريخ، و درية المشتري، و كمودة زحل، ثم إن القدماء وجدوا القمر يكسف الكواكب الستة، و كثيرا من الثوابت في طريقه في ممر البروج، و كوكب عطارد يكسف الزهرة، و الزهرة تكسف المريخ و على هذا الترتيب فهذا الطريق يدل على كون القمر تحت الشمس لانكسافها به، لكن لا يدل على كون الشمس فوق سائر الكواكب أو تحتها، لأن الشمس لا تنكسف بشيء منها لاضمحلال أضوائها في ضوء الشمس، فسقط هذا الطريق بالنسبة إلى الشمس. الثاني: اختلاف المنظر فإنه محسوس للقمر و عطارد و الزهرة، و غير محسوس للمريخ و المشتري و زحل، و أما في حق الشمس فقليل جدا، فوجب أن تكون الشمس متوسطة بين القسمين، و هذا الطريق بين جدا لمن اعتبر اختلاف منظر الكواكب، و شاهده على الوجه الذي حكيناه، فأما من لم يمارسه، فإنه يكون مقلدا فيه، لا سيما و أن أبا الريحان و هو أستاذ هذه الصناعة ذكر في تلخيصه لفصول الفرغاني أن اختلاف المنظر لا يحس به إلا في القمر. الثالث: قال بطليموس: إن زحل و المشتري و المريخ تبعد عن الشمس في جميع الأبعاد، و أما عطارد و الزهرة فإنهما لا يبعدان عن الشمس بعد
مفاتيح الغيب، ج4، ص: 155
التسديس فضلا عن سائر الأبعاد، فوجب كون الشمس متوسطة بين القسمين، و هذا الدليل ضعيف، فإنه منقوض بالقمر، فإنه يبعد عن الشمس كل الأبعاد، مع أنه تحت الكل.
البحث الثاني: في أعداد الأفلاك، قالوا إنها تسعة فقط، و الحق أن الرصد لما دل على هذه التسعة أثبتناها، فاما ما عداها، فلما لم يدل الرصد عليه، لا جرم ما جزمنا بثبوتها و لا بانتفائها، و ذكر ابن سينا في الشفاء: أنه لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة، أو كرات منطبق بعضها على بعض، و أقول: هذا الاحتمال واقع، لأن الذي يمكن أن يستدل به على وحدة كرة الثوابت ليس إلا أن يقال: إن حركاتها متساوية، و إذا كان كذلك وجب كونها مركوزة في كرة واحدة، و المقدمتان ضعيفتان.
أما المقدمة الأولى: فلأن حركاتها و إن كانت في حواسنا متشابهة، لكنها في الحقيقة لعلها ليست كذلك، لأنا لو قدرنا أن الواحد منها يتم الدور في ستة و ثلاثين ألف سنة، و الآخر يتم هذا الدور في مثل هذا الزمان لكن ينقصان عاشرة، إذا وزعنا تلك العاشرة على أيام ستة و ثلاثين ألف سنة، لا شك أن حصة كل يوم، بل كل سنة، بل كل ألف سنة مما لا يصير محسوسا، و إذا كان كذلك سقط القطع بتشابه حركات الثوابت.
و أما المقدمة الثانية: و هي أنها لما تشابهت في حركاتها وجب كونها مركوزة في كرة واحدة و هي أيضا ليست يقينية، فإن الأشياء المختلفة لا يستبعد اشتراكها في لازم واحد، بل أقول هذا الاحتمال الذي ذكره ابن سينا في كرة الثوابت قائم في جميع الكرات، لأن الطريق إلى وحدة كل كرة ليس إلا ما ذكرناه و زيفناه، فإذن لا يمكن الجزم بوحدة الكرة المتحركة اليومية فعلها كرات كثيرة مختلفة في مقادير حركاتها بمقدار قليل جدا لا تفي بضبط ذلك التفاوت أعمارنا، و كذلك القول في جميع الممثلات و الحوامل.
و من الناس من أثبت كرة فوق كرة الثوابت، و تحت الفلك الأعظم، و احتجوا من وجوه. الأول: أن الراصدين للميل الأعظم وجدوه مختلف المقدار، و كل من كان رصده أقدم كان وجدان الميل الأعظم أعظم، فإن بطليموس وجده. (كجنا) ثم وجد في زمان المأمون (كجله) ثم وجد بعد المأمون و قد تناقص بدقيقة، و ذلك يقتضي أن من شأن القطبين أن يقل ميلهما تارة و يكثر أخرى، و هذا إنما يمكن إذا كان بين كرة الكل، و كرة الثوابت كرة أخرى يدور قطباها حول قطبي كرة الكل، و يكون كرة الثوابت يدور أيضا قطباها حول قطبي تلك الكرة فيعرض لقطبها تارة أن يصير إلى جانب الشمال منخفضا، و تارة إلى جانب الجنوب مرتفعا فيلزم من ذلك أن ينطبق معدل النهار على منطقة البروج، و أن ينفصل عنه تارة أخرى إلى الجنوب. و ثانيها: أن أصحاب الأرصاد اضطربوا اضطرابا شديدا في مقدار مسير الشمس على ما هو مشروح في المطولات، حتى أن بطليموس حكى عن أبرخس أنه كان شاكا في أن هذا السير يكون في أزمنة متساوية أو مختلفة.