کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 511
و ابن عامر و حمزة و الكسائي بالضم، قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف، و الغرفة بالفتح الفعل، و هو الاغتراف مرة واحدة، و مثله الأكلة و الأكلة، يقال: فلان يأكل في النهار أكلة واحدة، و ما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئا قليلا كاللقمة، و يقال: الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه، و حززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة، و نحوه: الخطوة و الخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين، و الخطوة أن يخطو مرة واحدة، و قال المبرد: غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده و كثيره و الغرفة بالضم اسم ملء/ الكف أو ما اغترف به.
المسألة الثانية: قوله: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ استثناء من قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي و هذه الجملة في حكم المتصلة بالاستثناء، إلا أنها قدمت في الذكر للعناية.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: كانت الغرفة يشرب منها هو و دوابه و خدمه، و يحمل منها.
و أقول: هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما: أنه كان مأذونا أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة، بغرفة واحدة، بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه و لدوابه و خدمه، و لأن يحمله مع نفسه و الثاني: أنه كان يأخذ القليل إلا أن اللّه تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء، و هذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان، كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة و السلام.
أما قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبي و الأعمش إلا قليل قال صاحب «الكشاف»: و هذا بسبب ميلهم إلى المعنى، و إعراضهم عن اللفظ، لأن قوله: فَشَرِبُوا مِنْهُ في معنى: فلم يطيعوه، لا جرم حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق، و الموافق عن المخالف، فلما ذكر اللّه تعالى أن الذين يكونون أهلا لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر، و أن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذونا في هذا القتال، و كان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال، لا جرم أقدموا على الشرب، فتميز الموافق عن المخالف، و الصديق عن العدو، و يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد، وقع أكثرهم في النهر، و أكثروا الشرب، و أطاع قوم قليل منهم أمر اللّه تعالى، فلم يزيدوا على الاغتراف، و أما الذين شربوا و خالفوا أمر اللّه فاسودت شفاههم و غلبهم العطش و لم يرووا، و بقوا على شط النهر، و جبنوا على لقاء العدو، و أما الذين أطاعوا أمر اللّه تعالى، فقوي قلبهم و صح إيمانهم، و عبروا النهر سالمين.
المسألة الثالثة: القليل الذي لم يشرب قيل: إنه أربعة آلاف، و المشهور و هو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلاثمائة و بضعة عشر و هم المؤمنون، و الدليل عليه أن
النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر و ما جاز معه إلا مؤمن،
قال البراء بن عازب: و كنا يومئذ ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا.
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 512
أما قوله: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا اللّه و شربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم و لم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع اللّه تعالى في باب الشرب من النهر، و إنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده، و فيه قولان الأول: أنه ما عبر معه إلا المطيع، و احتج هذا القائل بأمور الأول: أن اللّه تعالى قال: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فالمراد بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر اللّه تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية: الآية المتقدمة و هي قوله تعالى حكاية عن طالوت فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال: و معنى فَشَرِبُوا مِنْهُ أي ليتسببوا به إلى الرجوع، و ذلك لفساد دينهم و قلبهم.
الحجة الثالثة: أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي و المتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه و يردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، و إذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت و ما أذن لهم في عبور النهر.
القول الثاني: أنه استصحب كل جنوده و كلهم عبروا النهر و اعتمدوا في إثبات هذا القول على قوله تعالى حكاية عن قوم طالوت قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و معلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق، و هذه الحجة ضعيفة، و بيان ضعفها من وجوه أحدها: يحتمل أن يقال: إن طالوت لما عزم على مجاوزة النهر و تخلف الأكثرون ذكر المتخلفون أن عذرنا في هذا التخلف أنه لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده فنحن معذورون في هذا التخلف، أقصى ما في الباب أن يقال: إن الفاء في قوله: فَلَمَّا جاوَزَهُ تقتضي أن يكون قولهم: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ إنما وقع بعد المجاوزة، إلا أنا نقول يحتمل أن يقال: إن طالوت و المؤمنين لما جاوزوا النهر و رأوا القوم تخلفوا و ما جاوزوه، سألهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك، و ما كان النهر في العظم بحيث يمنع من المكالمة، و يحتمل أن يكون المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة، و على هذا التقدير فالإشكال أيضا زائل.
و الجواب الثاني: أنه يحتمل أن يقال: المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين: بعضهم ممن يحب الحياة و يكره الموت و كان الخوف و الجزع غالبا على طبعه، و منهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة اللّه تعالى.
فالقسم الأول: هم الذين قالوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ .
و القسم الثاني: هم الذين أجابوا بقولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً .
و الجواب الثالث: يحتمل أن يقال: القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالوا:/ لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ فلا بد أن نوطن أنفسنا على القتل، لأنه لا سبيل إلى الفرار من أمر اللّه، و القسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من اللّه الفتح و الظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة و الفوز
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 513
بالجنة، و غرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح و النصرة، و على هذا التقدير لا يكون في واحد من القولين ما ينقض الآخر.
المسألة الثانية: الطاقة مصدر بمنزلة الإطاقة، يقال: أطقت الشيء إطاقة و طاقة، و مثلها أطاع إطاعة، و الاسم الطاعة، و أغار يغير إغارة و الاسم الغارة، و أجاب يجيب إجابة و الاسم الجابة و في المثل: أساء سمعا فأساء جابة، أي جوابا.
أما قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ ففيه سؤال، و هو أنه تعالى لم جعلهم ظانين و لم يجعلهم حازمين؟
و جوابه: أن السبب فيه أمور الأول: و هو قول قتادة: أن المراد من لقاء اللّه الموت،
قال عليه الصلاة و السلام: «من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه و من كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه»
و هؤلاء المؤمنون لما وطنوا أنفسهم على القتل، و غلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت، لا جرم قيل في صفتهم: إنهم يظنون أنهم ملاقوا اللّه الثاني: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقوا ثواب اللّه بسبب هذه الطاعة، و ذلك لأن أحدا لا يعلم عاقبة أمره، فلا بد أن يكون ظانا راجيا و إن بلغ في الطاعة أبلغ الأمر، إلا من أخبر اللّه بعاقبة أمره، و هذا قول أبي مسلم و هو حسن.
الوجه الثالث: أن يكون المعنى: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا طاعة اللّه، و ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يكون قاطعا بأن هذا العمل الذي عمله طاعة، لأنه ربما أتى فيه بشيء من الرياء و السمعة، و لا يكون بنية خالصة فحينئذ لا يكون الفعل طاعة، إنما الممكن فيه أن يظن أنه أتى به على نعت الطاعة و الإخلاص.
الوجه الرابع: أنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أن المراد بالسكينة على قول بعض المفسرين أنه كان في التابوت كتب إلهية نازلة على الأنبياء المتقدمين، دالة على حصول النصر و الظفر لطالوت و جنوده، و لكنه ما كان في تلك الكتب أن النصر و الظفر يحصل في المرة الأولى أو بعدها، فقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يعني الذين يظنون أنهم ملاقوا وعد اللّه بالظفر، و إنما جعله ظنا لا يقينا لأن حصوله في الجملة و إن كان قطعا إلا أن حصوله في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل حسن الظن.
الوجه الخامس: قال كثير من المفسرين: المراد بقوله: يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أنهم يعلمون و يوقنون، إلا أنه أطلق لفظ الظن على اليقين على سبيل المجاز لما بين الظن و اليقين من المشابهة في تأكد الاعتقاد.
أما قوله: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ و المعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، و النصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة و الذلة، و إذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد و العدة.
المسألة الثانية: الفئة: الجماعة، لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة، و قال الزجاج: أصل الفئة من قولهم: فأوت رأسه بالسيف، و فأيت إذا قطعت، فالفئة الفرقة من الناس، كأنها قطعة منهم.
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 514
المسألة الثالثة: قال الفراء: لو ألغيت من هاهنا جاز في فئة الرفع و النصب و الخفض، أما النصب فلأن (كم) بمنزلة عدد فنصب ما بعده نحو عشرين رجلا، و أما الخفض فبتقدير دخول حرف (من) عليه، و أما الرفع فعلى نية تقديم الفعل كأنه قيل: كم غلبت فئة.
و أما قوله: وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فلا شبهة أن المراد المعونة و النصرة، ثم يحتمل أن يكون هذا قولا للذين قالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ و يحتمل أن يكون قولا من اللّه تعالى، و إن كان الأول أظهر.
[سورة البقرة (2): آية 250]
فيه مسائل:
المسألة الأولى: المبارزة في الحروب، هي أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه وقت القتال، و الأصل فيها أن الأرض الفضاء التي لا حجاب فيها يقال لها البراز، فكان البروز عبارة عن حصول كل واحد منهما في الأرض المسماة بالبراز، و هو أن يكون كل واحد منهما بحيث يرى صاحبه.
المسألة الثانية: أن العلماء و الأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع العوام و الضعفاء أنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه، و أوضحوا أن الفتح و النصرة لا يحصلان إلا بإعانة اللّه، لا جرم لما برز عسكر طالوت إلى عسكر جالوت و رأوا القلة في جانبهم، و الكثرة في جانب عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدعاء و التضرع، فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً و نظيره ما حكى اللّه عن قوم آخرين أنهم قالوا حين الالتقاء مع المشركين:
وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: 146]/ إلى قوله: وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [آل عمران: 147] و هكذا كان يفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم في كل المواطن، و
روي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي و يستنجز من اللّه وعده، و كان متى لقي عدوا قال: «اللهم إني أعوذ بك من شرورهم و أجعلك في نحورهم» و كان يقول: «اللهم بك أصول و بك أجول».
المسألة الثالثة: الإفراغ الصب، يقال: أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه، و أصله من الفراغ، يقال: فلان فارغ معناه أنه خال مما يشغله، و الإفراغ إخلاء الإناء مما فيه، و إنما يخلو بصب كل ما فيه.
إذا عرفت هذا فنقول قوله: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين أحدهما:
أنه إذا صب الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه، و هذا يدل على التأكيد و الثاني: أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه، و ذلك يكون بصب كل ما فيه، فمعنى: أفرغ علينا صبرا: أي أصبب علينا أتم صب و أبلغه.
المسألة الرابعة: اعلم أن الأمور المطلوبة عند المحاربة مجموع أمور ثلاثة فأولها: أن يكون الإنسان صبورا على مشاهدة المخاوف و الأمور الهائلة، و هذا هو الركن الأعلى للمحارب فإنه إذا كان جبانا لا يحصل منه مقصود أصلا و ثانيها: أن يكون قد وجد من الآلات و الأدوات و الاتفاقات الحسنة مما يمكنه أن يقف و يثبت و لا يصير ملجأ إلى الفرار و ثالثها: أن تزداد قوته على قوة عدوه حتى يمكنه أن يقهر العدو.
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 515
إذا عرفت هذا فنقول المرتبة الأولى: هي المراد من قوله: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً و الثانية: هي المراد بقوله:
وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا و الثالثة: هي المراد بقوله: وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ .
المسألة الخامسة: احتج الأصحاب على أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى بقوله: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً و ذلك لأنه لا معنى للصبر إلا القصد على الثبات، و لا معنى للثبات إلا السكون و الاستقرار و هذه الآية دالة على أن ذلك القصد المسمى بالصبر من اللّه تعالى، و هو قوله: أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً و على أن الثبات و السكون الحاصل عند ذلك القصد أيضا بفعل اللّه تعالى، و هو قوله: وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا و هذا صريح في أن الإرادة من فعل العبد و بخلق اللّه تعالى، أجاب القاضي عنه بأن المراد من الصبر و تثبيت القدم تحصيل أسباب الصبر، و أسباب ثبات القدم، و تلك الأسباب أمور أحدها: أن يجعل في قلوب أعدائهم الرعب و الجبن منهم فيقع بسبب ذلك منهم الاضطراب فيصير ذلك سببا لجراءة المسلمين عليهم، و يصير داعيا لهم إلى الصبر على القتال و ترك الانهزام، و ثانيها: أن يلطف ببعض أعدائهم في معرفة بطلان ما هم عليه فيقع بينهم الاختلاف و التفرق و يصير ذلك سببا لجراءة المؤمنين عليهم و ثالثها: أن يحدث تعالى فيهم و في ديارهم و أهاليهم من/ البلاء مثل الموت و الوباء، و ما يكون سببا لاشتغالهم بأنفسهم، و لا يتفرغون حينئذ للمحاربة فيصير ذلك سببا لجراءة المسلمين عليهم و رابعها: أن يبتليهم بمرض و ضعف يعمهم أو يعم أكثرهم، أو يموت رئيسهم و من يدبر أمرهم فيعرف المؤمنون ذلك فيصير ذلك سببا لقوة قلوبهم، و موجبا لأن يحصل لهم الصبر و الثبات، هذا كلام القاضي.
و الجواب عنه من وجهين: الأول: أنا بينا أن الصبر عبارة عن القصد إلى السكوت و الثبات عبارة عن السكون، فدلت هذه الآية على أن إرادة العبد و مراده من اللّه تعالى و ذلك يبطل قولكم و أنتم تصرفون الكلام عن ظاهره و تحملونه على أسباب الصبر و ثبات الأقدام، و معلوم أن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز.
الوجه الثاني: في الجواب أن هذه الأسباب التي سلمتم أنها بفعل اللّه تعالى إذا حصلت و وجدت فهل لها أثر في الترجيح الداعي أو ليس لها أثر فيه و إن لم يكن لها أثر فيه لم يكن لطلبها من اللّه فائدة و إن كان لها أثر في الترجيح فعند صدور هذه الأسباب المرجحة من اللّه يحصل الرجحان، و عند حصول الرجحان يمتنع الطرف المرجوح، فيجب حصول الطرف الراجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض و هو المطلوب و اللّه أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 251]
المعنى: أن اللّه تعالى استجاب دعاءهم، و أفرغ الصبر عليهم، و ثبت أقدامهم، و نصرهم على القوم الكافرين: جالوت و جنوده و حقق بفضله و رحمته ظن من قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ، و فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ و أصل الهزم في اللغة الكسر، يقال سقاء منهزم إذا تشقق مع جفاف، و هزمت العظم أو القصبة هزما، و الهزمة نقرة في الجبل، أو في الصخرة، قال سفيان بن عيينة في زمزم: هي هزمة جبريل يريد هزمها برجله فخرج الماء، و يقال: سمعت هزمة/ الرعد كأنه صوت فيه تشقق، و يقال للسحاب: هزيم، لأنه يتشقق بالمطر، و هزم الضرع و هزمه ما يكسر منه، ثم أخبر تعالى أن تلك الهزيمة كانت بإذن اللّه و بإعانته و توفيقه
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 516
و تيسيره، و أنه لو لا إعانته و تيسيره لما حصل ألبتة ثم قال: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن داود عليه السلام كان راعيا و له سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم إيشا أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم و هم في المصاف و بدر جالوت الجبار و كان من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا، فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت و هو يحرض الناس، فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي و أعطيه نصف ملكي فقال داود: فأنا خارج إليه و كان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب و الأسد في الرعي، و كان طالوت عارفا بجلادته، فلما هم داود بأن يخرج رماه فأصابه في صدره، و نفذ الحجر فيه، و قتل بعده ناسا كثيرا، فهزم اللّه جنود جالوت وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ فحسده طالوت و أخرجه من مملكته، و لم يف له بوعده، ثم ندم فذهب يطلبه إلى أن قتل، و ملك داود و حصلت له النبوة، و لم يجتمع في بني إسرائيل الملك و النبوة إلا له.
اعلم أن قوله: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ يدل على أن هزيمة عسكر جالوت كانت من طالوت و إن كان قتل جالوت ما كان إلا من داود و لا دلالة في الظاهر على أن انهزام العسكر كان قبل قتل جالوت أو بعده، لأن الواو لا تفيد الترتيب.
أما قوله تعالى: وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم آتاه اللّه الملك و النبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة، و بذل النفس في سبيل اللّه، مع أنه تعالى كان عالما بأنه صالح لتحمل أمر النبوة، و النبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ* وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ [الدخان: 32، 33] و قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] و ظاهر هذه الآية يدل أيضا على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت، قال بعده: وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ و السلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة، يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة، و قال الأكثرون: إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال، بل ذلك محض التفضل و الإنعام، قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ [الحج: 75].
المسألة الثانية: قال بعضهم: ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه اللّه الملك و النبوة، و ذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك و النبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت، و ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، و بيان المناسبة أنه عليه السلام/ لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع و الحجر، كان ذلك معجزا، لا سيما و قد تعلقت الأحجار معه و قالت: خذنا فإنك تقتل جالوت بنا، فظهور المعجز يدل على النبوة، و أما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل، فلا شك أن النفوس تميل إليه و ذلك يقتضي حصول الملك له ظاهرا، و قال الأكثرون: إن حصول الملك و النبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك، قالوا و الروايات وردت بذلك، قالوا: لأن اللّه تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته، و المشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل، و ملك ذلك الزمان طالوت، فلما توفي أشمويل أعطى اللّه تعالى النبوة
مفاتيح الغيب، ج6، ص: 517
لداود، و لما مات طالوت أعطى اللّه تعالى الملك لداود، فاجتمع الملك و النبوة فيه.
المسألة الثالثة: الحكمة هي وضع الأمور مواضعها على الصواب و الصلاح، و كمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة، فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة هاهنا النبوة، قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54] و قال فيما بعث به نبيه عليه السلام وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ* [آل عمران: 146].
فإن قيل: فإذا كان المراد من الحكمة النبوة، فلم قدم الملك على الحكمة؟ مع أن الملك أدون حالا من النبوة.
قلنا: لأن اللّه تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية، و إذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي، فكل ما كان أكثر تأخرا في الذكر كان أعلى حالا و أعظم رتبة.
أما قوله تعالى: وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ففيه وجوه أحدها: أن المراد به ما ذكره في قوله: وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 80] و قال: وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ: 10، 11] و ثانيها: أن المراد كلام الطير و النمل، قال تعالى حكاية عنه: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] و ثالثها: أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا و ضبط الملك، فإنه ما ورث الملك من آبائه، لأنهم ما كانوا ملوكا بل كانوا رعاة و رابعها: علم الدين، قال تعالى: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* [النساء: 163] و ذلك لأنه كان حاكما بين الناس، فلا بد و أن يعلمه اللّه تعالى كيفية الحكم و القضاء و خامسها: الألحان الطيبة، و لا يبعد حمل اللفظ على الكل.
فإن قيل: إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة، و كان المراد بالحكمة النبوة، فقد دخل العلم في ذلك، فلم ذكر بعده عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ .
قلنا: المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم، سواء كان نبيا أو لم يكن، و لهذا السبب قال لمحمد صلى اللّه عليه و سلّم: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] ثم قال تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ .
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت و جنوده زال بما كان من طالوت و جنوده، و بما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب، و هو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض، فقال: وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ و هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير و أبو عمرو وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ بغير ألف، و كذلك في سورة الحج وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ [الحج: 40] و قرءا جميعا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] بغير ألف و وافقهما عاصم و حمزة و الكسائي و ابن عامر اليحصبي على دفع اللّه بغير ألف إلا أنهم قرءوا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بالألف، و قرأ نافع و لو لا دفاع اللّه و إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بالألف.