کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 123
نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله لا تُحَمِّلْنا حقيقة فيه و لو حملناه على التكليف كان قوله لا تُحَمِّلْنا مجازاً فيه، فكان الأول أولى.
الوجه الثالث: هب أنهم سألوا اللّه تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بباطل، و كذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء: 87] على جواز أن يخزي الأنبياء، و قال اللّه تعالى لرسوله صلى اللّه عليه و سلم وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ* [الأحزاب: 48] و لا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين و المنافقين و كذا الكلام في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] هذا جملة أجوبة المعتزلة.
أجاب الأصحاب فقالوا:
أما الوجه الأول: فمدفوع من وجهين الأول: أنه لو كان قوله وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ محمولًا على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه و معنى الآية المتقدمة عليه و هو قوله وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً و ذلك غير جائز الثاني: أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة و القدرة، فقوله لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.
و أما الوجه الثاني: فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف، قال اللّه تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ [الأحزاب: 72] إلى قوله وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 72] ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ عام في العذاب و في التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.
و أما الوجه الثالث: فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء و التضرع و يصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه و تضرعه: ربنا لا تجمع بين الضدين و لا تقلب القديم محدثاً، كما أن ذلك غير جائز، فكذا ما ذكرتم.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل و باللّه التوفيق.
المسألة الثالثة: اعلم أنه بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم قال في الآية الأولى لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً و قال في هذه الآية لا تُحَمِّلْنا خص ذلك بالحمل و هذا بالتحميل.
الجواب: أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن و أما الشاق فالحمل و التحميل يمكنان فيه، فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل.
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 124
السؤال الثاني: أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق، و على هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى.
و الجواب: الذي أتخيله فيه و العلم عند اللّه تعالى أن للعبد مقامين أحدهما: قيامه بظاهر الشريعة و الثاني:
شروعه في بدء المكاشفات، و ذلك هو أن يشتغل بمعرفة اللّه و خدمته و طاعته و شكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد، و في المقام الثاني قال: لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك، و لا شكراً يليق بآلائك و نعمائك، و لا معرفة تليق بقدس عظمتك، فإن ذلك لا يليق بذكري و شكري و فكري و لا طاقة لي بذلك، و لما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً مقدماً في الذكر على قوله لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ .
السؤال الثالث: أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ...* وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا * ... وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء؟
و الجواب: المقصود منه بيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل و ذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح و الدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل.
قوله تعالى: وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ .
اعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك و كانت مقرونة بلفظ رَبَّنا و أما هذا الدعاء الرابع، فقد حذف منه لفظ رَبَّنا و ظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يذكر هاهنا لفظ ربنا؟.
الجواب: النداء إنما يحتاج إليه عند البعد، أما عند القرب فلا و إنما حذف النداء إشعاراً/ بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من اللّه تعالى و هذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أخر.
السؤال الثاني: ما الفرق بين العفو و المغفرة و الرحمة؟.
الجواب: أن العفو أن يسقط عنه العقاب، و المغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل و الفضيحة، كأن العبد يقول: أطلب منك العفو و إذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، و الأول: هو العذاب الجسماني، و الثاني: هو العذاب الروحاني، فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب، و هو أيضاً قسمان: ثواب جسماني و هو نعيم الجنة و لذاتها و طيباتها، و ثواب روحاني و غايته أن يتجلى له نور جلال اللّه تعالى، و ينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء اللّه و ذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى اللّه تعالى، مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال اللّه تعالى، فقوله وَ ارْحَمْنا طلب للثواب الجسماني و قوله بعد ذلك أَنْتَ مَوْلانا طلب للثواب الروحاني، و لأن يصير العبد مقبلا بكليته على اللّه تعالى لأن قوله أَنْتَ مَوْلانا خطاب الحاضرين، و لعلّ كثيراً من المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات، و يقولون: إنها من باب الطاعات، و لقد صدقوا فيما يقولون، فذلك مبلغهم من العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى [النجم: 30].
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 125
و في قوله أَنْتَ مَوْلانا فائدة أخرى، و ذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع و التذلل و الاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها، و هو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله و إحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، و العبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قيوم السموات و الأرض، و القائم بإصلاح مهمات الكل، و هو المتولي في الحقيقة للكل، على ما قال: نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ* [الأنفال: 40] و نظير هذه الآية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257] أي ناصرهم، و قوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التحريم: 4] أي ناصره، و قوله ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11].
ثم قال: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، و في مناظرتنا بالحجة معهم، و في إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* [التوبة: 33] و من المحققين من قال: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ المراد منه إعانة اللّه بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى اللّه، و هذا آخر السورة.
و
روى الواحدي رحمه اللّه عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى اللّه عليه و سلم إلى السماء أعطي خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكة: إن اللّه عزّ و جلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله آمَنَ الرَّسُولُ فسله و ارغب إليه، فعلمه جبريل عليهما الصلاة و السلام كيف يدعو،/ فقال محمد صلى اللّه عليه و سلم: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ فقال اللّه تعالى: «قد غفرت لكم» فقال: لا تُؤاخِذْنا فقال اللّه: «لا أؤاخذكم» فقال: وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً فقال: «لا أشدد عليكم» فقال محمد لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ فقال: «لا أحملكم ذلك» فقال محمد وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا فقال اللّه تعالى: «قد عفوت عنكم و غفرت لكم و رحمتكم و أنصركم على القوم الكافرين» و في بعض الروايات أن محمداً صلى اللّه عليه و سلم كان يذكر هذه الدعوات، و الملائكة كانوا يقولون آمين.
و هذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول: إلهي و سيدي كل ما طلبته و كتبته ما أردت به إلا وجهك و مرضاتك، فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك و إن أخطأت فتجاوز عني بفضلك و رحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين، و لا يشغله سؤال السائلين و هذا آخر الكلام في تفسير هذه و السورة الحمد للّه ربِّ العالمين، و صلّى اللّه على سيدنا محمد النبي و على آله و أصحابه و سلّم.
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 126
سورة آل عمران
مائتا آية مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آلعمران (3): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
أما تفسير الم فقد تقدم في سورة البقرة، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو بكر عن عاصم الم، اللَّهُ بسكون الميم، و نصب همزة: اللّه، و الباقون موصولًا بفتح الميم، أما قراءة عاصم فلها و وجهان الأول: نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء و الثاني: أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل، فمن فصل و أظهر الهمزة فللتفخيم و التعظيم، و أما من نصب الميم ففيه قولان:
القول الأول: و هو قول الفراء و اختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر، يقول:
ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، و على هذا التقدير وجب الابتداء بقوله: اللّه، فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة، إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف، ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها.
فإن قيل: إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة، و إن كان التقدير هو الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها، و إذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها، و امتنع إلقاء حركتها، على الميم.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون ساقطاً بصورته باقياً بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفرّاء.
و القول الثاني: قول سيبويه، و هو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين، و هذا القول رده كثير من الناس، و فيه دقة و لطف، و الكلام في تلخيصه طويل.
و أقول: فيه بحثان أحدهما: سبب أصل الحركة و الثاني: كون تلك الحركة فتحة.
أما البحث الأول: فهو بناء على مقدمات:
المقدمة الأولى: أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفاً من حروف المد و اللين لم يجب
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 127
التحريك، لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين، كقولك: هذا إبراهيم و إسحاق و يعقوب موقوفة الأواخر، أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين، لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة.
المقدمة الثانية: مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام، و هي ساكنة، و الساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل و حركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام، فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفاً آخر فإن كان متحركاً توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة و إن كان ساكناً حركوه و توصلوا به إلى النطق بهذه اللام، و على هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام، فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام، فتحذف هذه الهمزة صورة و معنى، حقيقة و حكماً، و إذا كان كذلك امتنع أن يقال: ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكماً، لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام، أو أثر من الآثار، لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها و بآثارها سقوطاً كلياً، و بهذا يبطل قول الفرّاء.
المقدمة الثالثة: أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر، و ذلك متفق عليه.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الميم من قولنا الم ساكن و لام التعريف من قولنا اللَّهُ ساكن، و قد اجتمعا فوجب تحريك الميم، و لزم سقوط الهمزة بالكلية صورة و معنى، و صح بهذا البيان قول سيبويه، و بطل قول الفرّاء.
أما البحث الثاني: فلقائل أن يقول: الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، فلم اختير الفتح/ هاهنا، قال الزجاج في الجواب عنه: الكسر هاهنا لا يليق، لأن الميم من قولنا الم مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء و ذلك ثقيل، فتركت الكسرة و اختيرت الفتحة، و طعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج، و قال: ينتقض قوله بقولنا: جير، فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء، و هذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل و الياء أختها، فإذا اجتمعا عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك اللَّهُ و هو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلًا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، و الانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا اللَّهُ فكان النطق به سهلًا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه و اللّه أعلم.
المسألة الثانية: في سبب نزول أول هذه السورة قولان:
القول الأول: و هو قول مقاتل بن سليمان: أن بعض أول هذه السورة في اليهود، و قد ذكرناه في تفسير الم، ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1، 2].
و القول الثاني: من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى، و هو قول محمد بن إسحاق
قال: قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و ثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم: أميرهم، و اسمه عبد المسيح، و الثاني: مشيرهم و ذو رأيهم، و كانوا يقولون له: السيد، و اسمه الأيهم، و الثالث: حبرهم و أسقفهم و صاحب مدارسهم، يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل،
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 128
و ملوك الروم كانوا شرفوه و مولوه و أكرموه لما بلغهم عنه من علمه و اجتهاده في دينهم، فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته، و كان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت، فقال كرز أخوه: تعس الأبعد يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فقال أبو حارثة: بل تعست أمك، فقال: و لم يا أخي؟ فقال: إنه و اللّه النبي الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك منه و أنت تعلم هذا، قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالًا كثيرة و أكرمونا، فلو آمنا بمحمد صلى اللّه عليه و سلم لأخذوا منا كل هذه الأشياء، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز، و كان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك، ثم تكلم أولئك الثلاثة: الأمير، و السيد و الحبر، مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على اختلاف من أديانهم، فتارة يقولون عيسى هو اللّه، و تارة يقولون: هو ابن اللّه، و تارة يقولون: ثالث ثلاثة، و يحتجون لقولهم: هو اللّه، بأنه كان يحيي الموتى، و يبرئ الأكمه و الأبرص، و يبرئ الأسقام، و يخبر بالغيوب، و يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، و يحتجون في قولهم: إنه ولد اللّه بأنه لم يكن له أب يعلم، و يحتجون على ثالث ثلاثة بقول اللّه تعالى: فعلنا و جعلنا، و لو كان واحداً لقال فعلت فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أسلموا، فقالوا: قد أسلمنا، فقال صلى اللّه عليه و سلم/ كذبتم كيف يصح إسلامكم و أنتم تثبتون للّه ولداً، و تعبدون الصليب، و تأكلون الخنزير، قالوا: فمن أبوه؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، فأنزل اللّه تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية منها.
ثم أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يناظر معهم، فقال: ألستم تعلمون أن اللّه حي لا يموت، و أن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و يشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه و يحفظه و يرزقه، فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك؟ قالوا: لا، قال أ لستم تعلمون أن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام و لا يشرب الشراب و لا يحدث الحدث و تعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة و وضعته كما تضع المرأة، ثم كان يطعم الطعام و يشرب الشراب، و يحدث الحدث قالوا: بلى فقال صلى اللّه عليه و سلم: «فكيف يكون كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً، ثم قالوا: يا محمد أ لست تزعم أنه كلمة اللّه و روح منه؟ قال: بلى»، قالوا: فحسبنا فأنزل اللّه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ [آل عمران: 7] الآية.
ثم إن اللّه تعالى أمر محمداً صلى اللّه عليه و سلم بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك، فدعاهم رسول اللّه إلى الملاعنة، فقالوا:
يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل، فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض: ما ترى؟ فقال: و اللّه يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل، و لقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، و لقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط إلا و في كبيرهم و صغيرهم، و أنه الاستئصال منكم إن فعلتم، و أنتم قد أبيتم إلا دينكم و الإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك و أن نتركك على دينك، و نرجع نحن على ديننا، فابعث رجلًا من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا، فقال عليه السلام: آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين و كان عمر يقول: ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فلما صلينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه و عن يساره، و جعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يردد بصره حتى
مفاتيح الغيب، ج7، ص: 129
رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: اخرج معهم و اقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
و اعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة في تقرير الدين و إزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و أن مذهب الحشوية في إنكار البحث و النظر باطل قطعاً، و اللّه أعلم.
المسألة الثالثة: اعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب، و ذلك لأن أولئك النصارى/ الذين نازعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في معرفة الإله، أو في النبوّة، فإن كان النزاع في معرفة الإله و هو أنكم تثبتون له ولداً و أن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، و الحي القيوم يستحيل عقلًا أن يكون له ولد و إن كان النزاع في النبوّة، فهذا أيضاً باطل، لأن بالطريق الذي عرفتم أن اللّه تعالى أنزل التوراة و الإنجيل على موسى و عيسى فهو بعينه قائم في محمد صلى اللّه عليه و سلم، و ما ذاك إلا بالمعجزة و هو حاصل هاهنا، فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة، فهذا هو وجه النظم و هو مضبوط حسن جداً فلننظر هاهنا إلى بحثين.
البحث الأول: ما يتعلق بالإلهيات فنقول: إنه تعالى حي قيوم، و كل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد، و إنما قلنا: إنه حي قيوم، لأنه واجب الوجود لذاته، و كل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه و تخليقه و إيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ و إذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له و إلهاً، كما قال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] و أيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً، و ثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد، و كان يأكل و يشرب و يحدث، و النصارى زعموا أنه قتل و ما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حياً قيوماً، و ذلك يقتضي القطع و الجزم بأنه ما كان إلهاً، فهذه الكلمة و هي قوله الْحَيُّ الْقَيُّومُ جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.