کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 189
الجزء الحادي عشر
[تتمة سورة النساء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4): آية 94]
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا .
اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، و أمر المجاهدين بالتثبت فيه لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف، و هذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين و فيه مسائل:
[في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ] المسألة الأولى: قرأ حمزة و الكسائي هنا و كذلك في الحجرات فتثبتوا من ثبت ثباتا، و الباقون بالنون من البيان، و المعنيان متقاربان، فمن رجح التثبيت قال: إنه خلاف الإقدام، و المراد في الآية التأني و ترك العجلة، و من رجح التبيين قال المقصود من التثبيت التبيين، فكان التبيين أبلغ و أكمل.
المسألة الثانية: الضرب معناه السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد، و أصله من الضرب باليد، و هو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنسانا كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة، فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير. قال الزجاج: و معنى ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي غزوتم و سرتم إلى الجهاد.
ثم قال تعالى: و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا.
أراد الانقياد و الاستسلام إلى المسلمين، و منه قوله: وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النحل: 87] أي استسلموا للأمر، و من قرأ السَّلامَ بالألف فله معنيان: أحدها: أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين، أي لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا/ ماله و لكن كفوا و اقبلوا منه ما أظهره. و الثاني: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم و لم يقاتلكم لست مؤمنا، و أصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة. قال صاحب الكشاف: قرئ مؤمنا بفتح الميم من آمنه أي لا نؤمنك.
المسألة الثالثة: في سبب نزول هذه الآية روايات:
الرواية الأولى: أن
مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم و لم يسلم من قومه غيره، فذهبت سرية الرسول صلى اللَّه عليه و سلم إلى قومه و أميرهم غالب بن فضالة، فهرب القوم و بقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلما تلاحقوا و كبروا كبر و نزل، و قال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد و ساق غنمه، فأخبروا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم فوجد وجدا شديدا و قال: قتلتموه إرادة ما
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 190
معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال أسامة يا رسول اللَّه استغفر لي، فقال: فكيف و قد تلا لا إله إلا اللَّه! قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي و قال: أعتق رقبة.
الرواية الثانية: أن
القاتل محلم بن جثامة لقيه عامر بن الأضبط فحياة بتحية الإسلام، و كانت بين محلم و بينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله، فغضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم و قال: «لا غفر اللَّه لك» فما مضت به سبعة أيام حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات، فقال النبي صلى اللَّه عليه و سلم: «إن الأرض لتقبل من هو شر منه و لكن اللَّه أراد أن يريكم عظم الذنب عنده» ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة.
الرواية الثالثة: أن
المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة قال: فقلت يا رسول اللَّه أ رأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة، فقال أسلمت للَّه تعالى أ فأقتله يا رسول اللَّه بعد ذلك؟ فقال رسول اللَّه لا تقتله، فقلت يا رسول اللَّه إنه قطع يدي، فقال عليه الصلاة و السلام «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد أن تقتله و أنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال»
و
عن أبي عبيدة قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم: «إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا اللَّه فليرفع عنه الرمح»
قال القفال رحمه اللَّه: و لا منافاة بين هذه الروايات فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها، فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته و اللَّه أعلم.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا؟ فالفقهاء قبلوها و احتجوا عليه بوجوه:
الأول: هذه الآية فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق و بين غيره بل أوجب/ ذلك في الكل.
الحجة الثانية: قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] و هو عام في جميع أصناف الكفرة.
الحجة الثالثة: أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة، و التوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] و هذا عام في جميع الذنوب و في جميع أصناف الخلق.
المسألة الخامسة: إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة، و قال الشافعي لا يصح. قال أبو حنيفة دلّت هذه الآية على صحة إسلام الصبي لأن قوله: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً عام في حق الصبي، و في حق البالغ. قال الشافعي: لو صح الإسلام منه لوجب، لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر، و هو غير جائز، لكنه غير واجب عليه
لقوله عليه الصلاة و السلام: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» الحديث،
و اللَّه أعلم.
المسألة السادسة: قال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني: أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه، لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام و هو الإيمان، و لو قال لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فعند قوم لا يحكم بإسلامه، لأن فيهم من يقول: إنه رسول اللَّه إلى العرب لا إلى الكل، و منهم من يقول: إن محمدا الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء؛ و سيجيء بعد ذلك، بل لا بدّ و أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل و أن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق و اللَّه أعلم.
ثم قال تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 191
بفتح الراء، يقال: إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر و الفاجر، و العرض بسكون الراء ما سوى الدراهم و الدنانير، و إنما سمي متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير باق و منه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضا لقلة لبثه، فقوله: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يعني ثوابا كثيرا، فنبّه تعالى بتسميته عرضا على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء، و بقوله: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ على أن ثواب اللَّه موصوف بالدوام و البقاء كما قال: وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ* [مريم: 76].
ثم قال تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ و هذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا/ السلم، و ليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع، فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوها: الأول: أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة حقنت دماءكم و أموالكم من غير توقيف ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم، فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، و أن تعتبروا ظاهر القول، و أن لا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة لأجل الخوف من السيف، هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين، و فيه إشكال لأن لهم أن يقولوا: ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء، لأنا آمنا عن الطواعية و الاختيار، و هؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر.
الوجه الثاني: قال سعيد بن جبير: المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه، ثم منّ اللَّه عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم، فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة، و هذا أيضا فيه إشكال لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم. الثالث: قال مقاتل: المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول اللَّه بكلمة «لا إله إلا اللَّه» فاقبلوا منهم مثل ذلك، و هذا يتوجه عليه الإشكال الأول، و الأقرب عندي أن يقال: إن من ينتقل من دين إلى دين ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد و يتوقى إلى أن يكمل و يستحكم و يحصل الانتقال، فكأنه قيل لهم:
كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام، ثم من اللَّه عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل و تأكيد النفرة عن الكفر، فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان، فإن اللَّه تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم و يقوي تلك الرغبة في صدورهم، فهذا ما عندي فيه.
ثم قال تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ و فيه احتمالان: الأول: أن يكون هذا متعلقا بقوله: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب، أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلا بسبب ضعيف، ثم منّ اللَّه عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم و أعانكم على العمل به و المحبة له. و الثاني: أن يكون هذا منقطعا عن هذا الموضع، و يكون متعلقا بما قبله، و ذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا اللَّه، ثم انه تعالى نهاهم عن هذا الفعل و بين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي من عليكم بأن/ قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر.
ثم أعاد الأمر بالتبيين فقال: فَتَبَيَّنُوا و إعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً و المراد منه الوعيد و الزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار.
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 192
[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]
اعلم أن في كيفية النظم وجوها: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك ببيان أحكام الجهاد. فالنوع الأول من أحكام الجهاد: تحذير المسلمين عن قتل المسلمين، و بيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف، و على سبيل العمد كيف، و على سبيل تأويل الخطأ كيف، فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر و هو بيان فضل المجاهد على غيره و هو هذه الآية.
الوجه الثاني: لما عاتبهم اللَّه تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة، فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور، فلا جرم ذكر اللَّه تعالى في عقيبه هذه الآية و بيّن فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد، كأنه قيل: من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند اللَّه تعالى، فليحترز/ صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة، و اللَّه أعلم [في قوله تعالى لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ] و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرئ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالحركات الثلاث في غير فالرفع صفة لقوله:
الْقاعِدُونَ و المعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر و المجاهدون، و نظيره قوله: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ [النور: 31] و ذكرنا جواز أن يكون (غير) صفة المعرفة في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة: 7] قال الزجاج: و يجوز أن يكون غَيْرُ رفعا على جهة الاستثناء، و المعنى لا يستوي القاعدون و المجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر، و الكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] و أما القراءة بالنصب ففيها وجهان: الأول: أن يكون استثناء من القاعدين، و المعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، و هو اختيار الأخفش. الثاني: أن يكون نصبا على الحال، و المعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، و المجاهدون، كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي جاءني زيد صحيحا، و هذا قول الزجاج و الفرّاء و كقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: 1] و أما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل غير صفة للمؤمنين، فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات.
ثم هاهنا بحث آخر: و هو أن الأخفش قال: القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج.
روي في التفسير أنه لما ذكر اللَّه تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي صلى اللَّه عليه و سلم: حالتنا كما ترى، و نحن نشتهي الجهاد، فهل لنا من طريق؟ فنزل غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
فاستثناهم اللَّه تعالى من جملة القاعدين. و قال آخرون: القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 193
كلمة (غير) أن تكون صفة، ثم أنها و إن كانت صفة فالمقصود و المطلوب من الاستثناء حاصل منها، لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية، و إذا كان هذا المقصود حاصلا على كلا التقديرين و كان الأصل في كلمة (غير) أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى.
المسألة الثانية: الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض، أو كان بسبب عدم الأهبة.
المسألة الثالثة: حاصل الآية: لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء و المجاهدون في سبيل اللَّه، و اختلفوا في أن قوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الاضراء يساوون المجاهدين أم لا؟ قال بعضهم: أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ (غير) على الصفة و قلنا التخصيص/ بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك، و إن حملناه على الاستثناء و قلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضا ذلك، أما إذا حملناه على الاستثناء و قلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة. و اعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكره اللَّه تعالى في سورة التوبة و هو قوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى إلى قوله: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ [التوبة: 91].
و اعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد، و يدل عليه النقل و العقل، أما النقل
فقوله عليه الصلاة و السلام عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر»
و
قال عليه الصلاة و السلام: «إذا مرض العبد قال اللَّه عزّ و جلّ اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ»
و ذكر بعض المفسرون في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: 5، 6] أن من صار هرما كتب اللَّه تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئا. و ذكروا في تفسير
قوله عليه الصلاة و السلام «نية المؤمن خير من عمله»
أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان و الأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته، و أما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات و العبادات استنارة القلب بنور معرفة اللَّه تعالى، فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد و القاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، و إن كان القاعد أكثر حظا من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: إنه تعالى قال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] فقدم ذكر النفس على المال، و في الآية التي نحن فيها و هي قوله: الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ قدم ذكر المال على النفس، فما السبب فيه؟
و جوابه: أن النفس أشرف من المال، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد؛ و البائع أخر ذكرها تنبيها على أن المضايقة فيها أشد، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب.
و اعلم أنه تعالى لما بيّن أن المجاهدين و القاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة و يحتمل النقصان، لا جرم كشف تعالى عنه فقال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً و في انتصاب قوله دَرَجَةً وجوه: الأول: أنه يحذف الجار، و التقدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني: قوله دَرَجَةً أي فضيلة، و التقدير: و فضل اللَّه المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمرا إكراما
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 194
و الفائدة في التنكير التفخيم. الثالث: قوله/ دَرَجَةً نصب على التمييز.
ثم قال: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي و كلا من القاعدين و المجاهدين فقد وعده اللَّه الحسنى قال الفقهاء: و فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية، و ليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، و لو كان الجهاد واجبا على التعيين لما كان القاعد أهلا لوعد اللَّه تعالى إياه الحسنى.
ثم قال تعالى: وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً و فيه مسائل:
المسألة الأولى: في انتصاب قوله: أَجْراً وجهان: الأول: انتصب بقوله: وَ فَضَّلَ لأنه في معنى قولهم: آجرهم أجرا، ثم قوله: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً بدل من قوله: أَجْراً . الثاني: انتصب على التمييز و دَرَجاتٍ عطف بيان وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً معطوفان على دَرَجاتٍ .
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إنه تعالى ذكر أولا دَرَجَةً ، و هاهنا دَرَجاتٍ ، و جوابه من وجوه: الأول:
المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد، بل بالجنس، و الواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع، و ذلك هو الأجر العظيم، و الدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة و الرحمة. الثاني: أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الاضراء بدرجة، و من القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات، و هذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين و بين القاعدين الاضراء. الثالث:
فضل اللَّه المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة و هي الغنيمة، و في الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل و الرحمة و المغفرة. الرابع: قال في أول الآية وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً و لا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال و النفس فقط، و إلا حصل التكرار، فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهدا على الإطلاق في كل الأمور، أعني في عمل الظاهر، و هو الجهاد بالنفس و المال و القلب و هو أشرف أنواع المجاهدة، كما
قال عليه السلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»
و حاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير اللَّه إلى الاستغراق في طاعة اللَّه، و لما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة، و فضيلة هذا الثاني درجات.
المسألة الثالثة: قالت الشيعة: دلّت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من أبي بكر، و ذلك لأن عليا كان أكثر جهادا، فالقدر الذي فيه حصل التفاوت كان أبو بكر من/ القاعدين فيه، و علي من القائمين، و إذا كان كذلك وجب أن يكون عليّ أفضل منه لقوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فيقال لهم: إن مباشرة علي عليه السلام لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك، فيلزمكم بحكم هذه الآية أن يكون عليّ أفضل من محمد صلى اللَّه عليه و سلم، و هذا لا يقوله عاقل، فإن قلتم إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم، لأن الرسول صلى اللَّه عليه و سلم كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل و البينات و إزالة الشبهات و الضلالات، و هذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد، فنقول: فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر، و ذلك أن أبا بكر رضي اللَّه عنه لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان و طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و عثمان بن مظعون، و كان يبالغ في ترغيب الناس في
مفاتيح الغيب، ج11، ص: 195
الإيمان و في الذب عن محمد صلى اللَّه عليه و سلم بنفسه و بماله، و علي في ذلك الوقت كان صبيا ما كان أحد يسلم بقوله، و ما كان قادرا على الذب عن محمد عليه الصلاة و السلام، فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي من وجهين:
أحدهما: أن جهاد أبي بكر كان في أول الأمر حين كان الإسلام في غاية الضعف، و أما جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات، و كان الإسلام في ذلك الوقت قويا. و الثاني: أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين، و أكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده، و هذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة و السلام و أما جهاد علي فإنما كان بالقتل، و لا شك أن الأول أفضل.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: دلّت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب و الفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل، و أيضا لو لم يكن العمل موجبا للثواب لكان الثواب هبة لا أجرا، لكنه تعالى سماه أجرا، فبطل القول بذلك، فيقال لهم: لم لا يجوز أن يقال:
العمل علة الثواب لكن لا لذاته، بل بجعل الشارع ذلك العمل موجبا له.
المسألة الخامسة: قالت الشافعية: دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح، لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى و لو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعودا من عند اللَّه بالحسنى.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين، فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة، ثم إن قوله: وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يتناول جميع المجاهدين سواء كان جهاده واجبا أو مندوبا، و المشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد، فثبت أن الاشتغال/ بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح و اللَّه أعلم.
[سورة النساء (4): الآيات 97 الى 99]
[في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ] اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه و رضي بالسكون في دار الكفر، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الفرّاء: إن شئت جعلت تَوَفَّاهُمُ ماضيا و لم تضم تاء مع التاء، مثل قوله: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [البقرة: 70] و على هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا و مضوا، و إن شئت جعلته مستقبلا، و التقدير: إن الذين تتوفاهم الملائكة، و على هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة.
المسألة الثانية: في هذا التوفي قولان: الأول: و هو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت.