کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 472
المسألة الأولى: في الفرق بين المدح و الحمد و الشكر.
اعلم أن المدح أعم من الحمد، و الحمد أعم من الشكر.
أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل و لغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله و لطافة خلقته، و يمدح الياقوت على نهاية صفائه و صقالته! فيقال: ما أحسنه و ما أصفاه، و أما الحمد: فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام و الإحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
و أما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك، و أما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك و حصل عندك. فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، و هو أعم من الشكر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل المدح للَّه لأنا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار، فقد يحصل لغيره. أما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ تصريحا بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة و المشيئة و ليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها، و لا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين و إنما لم يقل الشكر للَّه، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب انعام صدر منه و وصل إليك، و هذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وصول النعمة إليه و هذه درجة حقيرة، فأما إذا قال: الحمد للَّه، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل/ النعمة إليه، فيكون الإخلاص أكمل، و استغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم، و انقطاعه عما سوى الحق أقوى و أثبت.
المسألة الثانية: الحمد: لفظ مفرد محلى بالألف و اللام فيفيد أصل الماهية.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ يفيد أن هذه الماهية للَّه، و ذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير اللَّه، فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد و الثناء و التعظيم ليس إلا للَّه سبحانه.
فإن قيل: إن شكر المنعم واجب، مثل شكر الأستاذ على تعليمه، و شكر السلطان على عدله، و شكر المحسن على إحسانه، كما
قال عليه الصلاة و السلام: «من لم يشكر الناس لم يشكر اللَّه».
قلنا: المحمود و المشكور في الحقيقة ليس إلا اللَّه، و بيانه من وجوه: الأول: صدور الإحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الإحسان في قلب العبد، و حصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد، و إلا لا فتقر في حصولها إلى داعية أخرى و لزم التسلسل، بل حصولها ليس إلا من اللَّه سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل، و عند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا اللَّه، فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو اللَّه تعالى. و ثانيها: أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير، فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة، أما جلب المنفعة: فانه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سببا لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة. و أما دفع المضرة، فهو أن الإنسان إذا رأى حيوانا في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه، و تلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 473
مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب و صار فارغ القلب طيب الوقت، فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسيّة، فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة، أما الحق سبحانه و تعالى، فإنه يحسن و لا يستفيد منه جلب منفعة و لا دفع مضرة، و كان المحسن الحقيقي ليس إلا اللَّه تعالى، فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو اللَّه، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ و ثالثها: أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان اللَّه، ألا ترى أنه لو لا أن اللَّه تعالى خلق أنواع النعمة و إلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة و الفواكه إلى الغير، و أيضا فلولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحيح و البنية السليمة و إلا لما أمكنه الانتفاع بها، فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى اللَّه/ تعالى، فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان اللَّه تعالى. و عند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا اللَّه، و لا مستحق للحمد إلا اللَّه. فلهذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ و رابعها: أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حيا قادرا عالما، و نعمة الوجود و الحياة و القدرة و العلم ليست إلا من اللَّه سبحانه و التربية الأصلية و الأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من اللَّه سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر. ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان و وصل إلى ما أودع اللَّه تعالى في أعضائه من أنواع المنافع و المصالح علم أنها بحر لا ساحل له، كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] فبتقدير: أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة، و نعم اللَّه لا نهاية لها أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق و الثناء المطلق ليس إلا اللَّه سبحانه فلهذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ .
المسألة الثالثة: إنما قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ و لم يقل: أحمد اللَّه، لوجوه: أحدها: أن الحمد صفة القلب و ربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلا يقلبه عن استحضار معنى الحمد و الثناء، فلو قال في ذلك الوقت أحمد اللَّه، كان كاذبا و استحق عليه الذم و العقاب، حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجودا. أما إذا قال: الحمد للَّه، فمعناه: أن ماهية الحمد و حقيقته مسلمة للَّه تعالى. و هذا الكلام حق و صدق سواء كان معنى الحمد و الثناء حاضرا في قلبه أو لم يكن، و كان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة و طاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين. و ثانيها:
روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر، فقال داود:
يا رب و كيف أشكرك؟ و شكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك و ذلك التوفيق نعمة زائدة و إنها توجب الشكر لي أيضا و ذلك يجر إلى ما لا نهاية له و لا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له. فأوحى اللَّه تعالى إلى داود: لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني.
إذا عرفت هذا فنقول: لو قال العبد أحمد اللَّه كان دعوى أنه أتى بالحمد و الشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال. أما لو قال، الحمد للَّه فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد و الثناء، بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد و الثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذين اللفظين من هذا الوجه، و ثالثها: أنه لو قال أحمد اللَّه كان ذلك مشعرا بأنه ذكر حمد نفسه و لم يذكر حمد غيره. أما إذا قال:
الحمد للَّه، فقد دخل فيه حمده و حمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 474
و دركات النيران، كما قال تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] فكان هذا الكلام أفضل و أكمل.
المسألة الرابعة: اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة. أولها: الفاتحة، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] و ثانيها: في أول هذه السورة، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [الأنعام: 1] و الأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى اللَّه تعالى، فقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يدخل فيه كل موجود سوى اللَّه تعالى. أما قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لا يدخل فيه إلا خلق السموات و الأرض و الظلمات و النور، و لا يدخل فيه سائر الكائنات و المبدعات، فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة و تفصيل لتلك الجملة. و ثالثها: سورة الكهف، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] و ذلك أيضا تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة و هو نعمة العلم و المعرفة و الهداية و القرآن، و بالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل، و رابعها: سورة سبأ و هي قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [سبأ: 1] و هو أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و خامسها: سورة فاطر، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [فاطر: 1] و ظاهر أيضا أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة و هو قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و ذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته، و إما ممكن الوجود لذاته.
و واجب الوجود لذاته واحد و هو اللَّه سبحانه و تعالى و ما سواه ممكن و كل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد اللَّه تعالى و تكوينه و الوجود نعمة فالإيجاد إنعام و تربية، فلهذا السبب قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و أنه تعالى المربي لكل ما سواه و المحسن إلى كل ما سواه. فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي بالمقصود.
أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد و نوع من أنواعه.
فإن قيل: ما الفرق بين الخالق و بين الفاطر و الرب؟ و أيضا لم قال هاهنا خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بصيغة فعل الماضي؟ و قال في سورة فاطر الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بصيغة اسم الفاعل فنقول في الجواب عن الأول: الخلق عبارة عن التقدير و هو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات و الجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات و الممكنات و أما كونه فاطرا فهو عبارة عن الإيجاد و الا بداع، فكونه تعالى خالقا إشارة إلى صفة العلم، و كونه فاطرا إشارة إلى صفة القدرة، و كونه تعالى ربا و مربيا مشتمل على الأمرين، فكان ذلك أكمل.
و الجواب عن الثاني: أن الخلق عبارة عن التقدير و هو في حق اللَّه تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات، و العلم بالشيء يصح تقدمه على وجود المعلوم. ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل/ دخوله في الوجود. أما إيجاد الشيء، فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور. فلهذا السبب قال: خَلَقَ السَّماواتِ و المراد أنه كان عالما بها قبل وجودها، و قال: فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* و المراد أنه تعالى إنما يكون فاطرا لها و موجدا لها عند وجودها.
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 475
المسألة الخامسة: في قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ قولان: الأول: المراد منه احمدوا اللَّه تعالى، و إنما جاء على صيغة الخبر لفوائد: إحداها: أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ يفيد تعليم اللفظ و المعنى، و لو قال: احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين. و ثانيها: أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده. و ثالثها: أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى.
و القول الثاني: و هو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد للَّه. قالوا: و الدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ و هذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد. و المقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد و قد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام، فحينئذ يصير هذا الأمر حاملا للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم اللَّه تعالى عليه. ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين: أحدهما: أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بدّ لها من محدث و محصل و ليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه، فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد و اختياره، لوجب أن يكون كل واحد واصلا إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا و هو يريد تحصيل كل النعم لنفسه، و لما ثبت أنه لا بدّ لحدوث هذه النعم من محدث و ثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد، فوجب الإقرار بمحدث قاهر قادر، و هو اللَّه سبحانه و تعالى.
و النوع الثاني: من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها و بغض من أساء إليها فإذا أمر اللَّه تعالى العبد بالتحميد، و كان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم اللَّه تعالى، صار ذلك التكليف حاملا للعبد على تذكر أنواع نعم اللَّه عليه، و لما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد و الإحصاء، صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب اللَّه تعالى في قلب العبد. فثبت أن تذكير النعم يفيد هاتين الفائدتين الشريفتين. إحداهما: الاستدلال بحدوثها عن الإقرار بوجود اللَّه تعالى. و ثانيهما: أن الشعور بكونها نعما يوجب ظهور حب اللَّه في القلب، و لا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران. فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .
و اعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له، لأن العالم اسم لكل ما سوى اللَّه تعالى، و ما سوى اللَّه إما جسم أو حال فيه أو لا جسم و لا حال فيه، و هو الأرواح. ثم الأجسام إما فلكية، و إما عنصرية. أما الفلكيات فأولها العرش المجيد، ثم الكرسي الرفيع. و يجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو، و أن الكرسي ما هو، و أن يعرف صفاتهما و أحوالهما، ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ، و القلم و الرفرف، و البيت المعمور، و سدرة المنتهى ما هي، و أن يعرف حقائقها، ثم يتفكر في طبقات السموات و كيفية اتساعها و أجرامها و أبعادها، ثم يتأمل في الكواكب الثابتة و السيارة، ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة و المواليد الثلاثة و هي المعادن و النبات و الحيوان، ثم يتأمل في كيفية حكمة اللَّه تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة و الضعيفة كالبق و البعوض، ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض و أنواعها القريبة و البعيدة، و كيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها، ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية و العلوية و العرشية و الفلكية، و مراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء: 19] فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة و الطاقة، فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم، و هو كل ما سوى اللَّه تعالى. ثم عند هذا يعرف أن كل ما
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 476
حصل لها من الوجود و كمالات الوجود في ذواتها من صفاتها و أحوالها و علائقها، فمن إيجاد الحق و من جوده و وجوده، فعند هذا يعرف من معنى قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ذرة، و هذا بحر لا ساحل له، و كلام لا آخر له و اللَّه أعلم.
المسألة السادسة: إنا و إن ذكرنا أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أجري مجرى قوله قولوا: الحمد للَّه ربّ العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الإضمار. أما هذه السورة و هي قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء اللَّه تعالى به على نفسه.
و إذا ثبت هذا فنقول: إن هذا يدل من بعض الوجوه، على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات و الصفات و الأفعال و ذلك لأن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ جار مجرى مدح النفس و ذلك قبيح في الشاهد، فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق، فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق. و بهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من اللَّه.
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق، فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق، و ذاته لا تشبه ذوات الخلق، و عند هذا يحصل التنزيه المطلق و التقديس الكامل عن كونه تعالى/ مشابها لغيره في الذات و الصفات و الأفعال، فهو اللَّه سبحانه واحد في ذاته، لا شريك له في صفاته، و لا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى و تقدس و اللَّه أعلم.
أما قوله سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ففيه مسألتان: الأولى: في السؤالات المتوجهة على هذه الآية و هي ثلاثة:
السؤال الأول: أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ جار مجرى ما يقال: جاءني الرجل الفقيه. فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه، و إلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا هاهنا قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ يوهم أن هناك إلها لم يخلق السموات و الأرض، و إلا فأي فائدة في هذه الصفة؟
و الجواب: أنا بينا أن قوله (اللَّه) جار مجرى اسم العلم. فإذا ذكر الوصف لا سم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوصف التمييز، بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى، موصوفا بتلك الصفة. مثاله إذا قلنا الرجل العالم، فقولنا: الرجل اسم الماهية، و الماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين. فكان المقصود هاهنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة. أما إذا قلنا: زيد العالم، فلفظ زيد اسم علم، و هو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة، لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات. فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفا بهذه الصفة. و لما كان لفظ (اللَّه) من باب أسماء الأعلام، لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه و اللَّه أعلم.
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 477
السؤال الثاني: لم قدم ذكر السماء على الأرض، مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء؟
و الجواب: السماء كالدائرة، و الأرض كالمركز، و حصول الدائرة يوجب تعين المركز و لا ينعكس، فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار.
السؤال الثالث: لم ذكر السماء بصيغة الجمع و الأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضا كثيرة بدليل قوله تعالى وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ [الطلاق: 12].
و الجواب: أن السماء جارية مجرى الفاعل و الأرض مجرى القابل. فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر، و ذلك يخل بمصالح هذا العالم. أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول/ الأربعة، و سائر الأحوال المختلفة، و حصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم. أما الأرض فهي قابلة للأثر و القابل الواحد كاف في القبول، و أما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها و اللَّه أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع. و تقريره أن أجرام السموات و الأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة، و ذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار. أما بيان المقام الأول فمن وجوه: الأول: أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلا مقدارا أزيد منه أو أنقص منه. و الثاني: أن كل فلك بمقدار مركب من أجزاء، و الجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا و بالعكس. فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز. و الثالث:
أن الحركة و السكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة. و لوازم الأمور الواحدة واحدة. فإذا صح السكون و الحركة على بعض الأجسام، وجب أن يصحا على كلها. فاختصاص الجسم الفلكي بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن. و الرابع: أن كل حركة، فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع و أبطأ مما وقع، فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة و البطء اختصاص بأمر ممكن.
و الخامس: أن كل حركة، وقعت متوجهة إلى جهة، فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات. فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن. و السادس: أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه و إما أسفل منه، و قد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمرا ممكنا، بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية، فكل ما صحّ على بعضها صح على كلها، فكان اختصاصه بذلك الحيز و الترتيب أمرا ممكنا. و السابع: و هو أن لحركة كل فلك أولا، لأن وجود حركة لا أول لها محال. لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة. و هذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير. و الأول ينافي المسبوقية بالغير، و الجمع بينهما محال. فثبت أن لكل حركة أولا، و اختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت، دون ما قبله و ما بعده اختصاص بأمر ممكن. و الثامن: هو أن الأجسام، لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية و بعضها بالعنصرية دون العكس، اختصاصا بأمر ممكن. و التاسع: و هو أن حركاتها فعل لفاعل مختار، و متى كان كذلك فلها أول. بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها، فيلزم
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 478
من دوام تلك، دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة. و لما كان ذلك محالا ثبت أن المؤثر فيها ليس علة موجبة بالذات، بل/ فاعلا مختارا. و إذا كان كذلك، وجب كون ذلك الفاعل متقدما على هذه الحركات، و ذلك يوجب أن يكون لها بداية. العاشر: أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا و بين الجهة التي تلي خلفنا، و ثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة. و إذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، و إذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن، فثبت بهذه الوجوه العشرة: أن أجرام السموات و الأرضين مختلفة بصفات و أحوال، فكان يجوز في العقل حصول أضدادها و مقابلاتها، فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح و مقدر و إلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح و هو محال.
و إذا ثبت هذا فنقول: إنه لا معنى للخلق إلا التقدير. فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة، وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة. فلهذا المعنى. قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و اللَّه أعلم، و من الناس من قال المقصود من ذكر السموات و الأرض و الظلمات و النور التنبيه على ما فيها من المنافع.
و اعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات، و ذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب و الأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية و العلل القابلة أرضية و بها يتم أمر المواليد الثلاثة. و الاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له.
أما قوله وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ (جعل) يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث و أنشأ كقوله تعالى:
وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ و إلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] و الفرق بين الخلق و الجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، و في الجعل معنى التضمين و التصيير كإنشاء شيء من شيء، و تصيير شيء شيئا، و منه: قوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف: 189] و قوله وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً [الرعد: 38] و قوله أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] و إنما حسن لفظ الجعل هاهنا لأن النور و الظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر.
المسألة الثانية: في لفظ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ قولان: الأول: أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر و الذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما. و أيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين/ بذكر السموات و الأرض، فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان و الثاني: نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ أي ظلمة الشرك و النفاق و الكفر و النور يريد نور الإسلام و الإيمان و النبوّة و اليقين.