کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 494
فإن قيل: أليس من لم يعاقبه اللَّه تعالى و يتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين و ذلك يبطل دلالة الآية على قولكم؟
قلنا: هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه: الأول: أن التفضل يكون كالابتداء من قبل اللَّه تعالى، و ليس يكون ذلك مطلوبا من الفعل و الفوز هو الظفر بالمطلوب، فلا بدّ و أن يفيد أمرا مطلوبا. و الثاني: أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضى مبالغة في عظم النعمة، و ذلك لا يكون إلا ثوابا. و الثالث: أن الآية معطوفة على قوله إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15] و المقابل للعذاب هو الثواب، فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب.
و اعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جدا و ضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء و اللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (6): آية 17]
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير اللَّه وليا، و تقريره أن الضر اسم للألم و الحزن و الخوف و ما يفضي إليها أو إلى أحدها. و النفع اسم للذة و السرور و ما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. و الخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر و بين حصول النفع. فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل. و إذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن اللَّه تعالى أن المضار قليلها و كثيرها لا يندفع إلا باللَّه، و الخيرات لا يحصل قليلها و كثيرها إلا باللَّه. و الدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته و إما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكنا لذاته و الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، و كل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق و تكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، و حصول جميع الخيرات و المنافع لا يكون إلا به، فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه.
فإن قيل: قد نرى أن الإنسان يدفع المضار عن نفسه بماله و بأعوانه و أنصاره، و قد يحصل الخير له بكسب نفسه و بإعانة غيره، و ذلك يقدح في عموم الآية. و أيضا فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة اللَّه تعالى. و رأس الخيرات هو الإيمان، فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد اللَّه تعالى، و لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقابا و لا بفعل الإيمان ثوابا. و أيضا فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء و يتضرر بتناول السموم، و كل ذلك يقدح في ظاهر الآية.
و الجواب عن الأول: أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال، و حصول تلك الداعية ليس إلا من اللَّه تعالى. و على هذا التقدير فيكون الكل من اللَّه تعالى و هكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات.
المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر إمساس الضر و إمساس الخير، إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجهين: الأول:
أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير، و ذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ و أن يحصل
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 495
عقيبها الخير و السلامة. و الثاني: أنه قال في إمساس الضر فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ و ذكر في إمساس الخير فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فذكر في الخير كونه قادرا على جميع الأشياء و ذلك يدل على أن إرادة اللَّه تعالى لا يصال الخيرات غالبة على إرادته لا يصال/ المضار. و هذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة اللَّه تعالى جانب الرحمة غالب، كما
قال: (سبقت رحمتي غضبي).
[سورة الأنعام (6): آية 18]
وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن صفات الكمال محصورة في القدرة و العلم فإن قالوا: كيف أهملتم وجوب الوجود.
قلنا: ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات و المفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكنا لذاته واجبا بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب و ذلك محال فثبت أنه عين الذات، و ثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة و العلم فقوله وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ إشارة إلى كمال القدرة، و قوله وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى كمال العلم. و قوله وَ هُوَ الْقاهِرُ يفيد الحصر و معناه أنه لا موصوف بكمال القدرة و كمال العلم إلا الحق سبحانه و عند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو، و كل من سواه فهو ناقص.
إذا عرفت هذا فنقول: أما دلالة كونه قاهرا على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته، و الممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه و لا عدمه على وجوده إلا بترجيحه و تكوينه و إيجاده و إبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم، و تارة في طرف ترجيح العدم على الوجود و يدخل في هذا الباب كونه قاهرا لهم بالموت و الفقر و الإذلال و يدخل فيه كل ما ذكره اللَّه تعالى في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] إلى آخر الآية. و أما كونه حكيما، فلا يمكن حمله هاهنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز، فوجب حمله على كونه محكما في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل و الفساد و الخبير هو العالم بالشيء المروي. قال الواحدي: و تأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال: و الخبر علمك بالشيء تقول: لي به خبر أي علم و أصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم.
المسألة الثانية: المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم و هو مردود و يدل عليه وجوه: الأول: أنه لو كان موجودا فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب و إما أن يكون ذاهبا في الأقطار متمددا في الجهات. و الأول: يقتضي أن يكون في الصغر و الحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباءات الواقعة في كوة البيت و ذلك لا يقوله عاقل، و إن كان/ الثاني كان متبعضا متجزئا، و ذلك على اللَّه محال.
و الثاني: أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجوانب فيلزم كون ذاته مخالطا للقاذورات و هو باطل أو يكون متناهيا من كل الجهات و حينئذ يصح عليه الزيادة و النقصان. و كل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 496
لتخصيص مخصص، فيكون محدثا أو يكون متناهيا من بعض الجوانب دون البعض، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه و ذلك يوجب القسمة و التجزئة. و الثالث: إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد و الخلاء. فإن كان الأول: فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا و لا ملا و لا مكان و لا حيث و لا جهة، فيمتنع حصول ذات اللَّه تعالى فيه. و إن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته و إذا كان كذلك، فلو صحّ حصول اللَّه في جزء من أجزاء ذلك الخلاء لصح حصوله في سائر الأجزاء، و لو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص، و كل ما كان واقعا بالفاعل المختار فهو محدث، فحصول ذاته في الجزء محدث. و ذاته لا تنفك عن ذلك الحصول و ما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم كون ذاته محدثة و هو محال. و الرابع: أن البعد و الخلاء أمر قابل للقسمة و التجزئة، و كل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته و مفتقر إلى الموجد و يكون موجده موجودا قبله فيكون ذات اللَّه تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء و الجهة و الحيث و الحيز.
و إذا ثبت هذا: فبعد الحيز و الجهة و الخلاء وجب أن تبقى ذات اللَّه تعالى كما كانت و إلا فقد وقع التغيير في ذات اللَّه تعالى و ذلك محال.
و إذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزها عن الأحياز و الجهات في جميع الأوقات. و الخامس: أنه ثبت أن العالم كرة.
و إذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رؤوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين.
و إذا ثبت هذا، فإما أن يقال: إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم. أو يقال: إنه تعالى فوق الكل. و الأول:
باطل، لأن كونه فوقا لبعضهم يوجب كونه تحتا لآخرين، و ذلك باطل. و الثاني: يوجب كونه تعالى محيطا بكرة الفلك فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك و ذلك لا يقوله مسلم.
و السادس: هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ و ملحوق بلفظ آخر. أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر، و القاهر مشعر بكمال القدرة و تمام المكنة. و أما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله عِبادِهِ و هذا اللفظ مشعر بالمملوكية و المقدورية، فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة.
فإن قيل: ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ دل على كمال القدرة.
فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار، فوجب حمله على فوقية المكان و الجهة.
قلنا: ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض و قوله فَوْقَ عِبادِهِ دل على أن ذلك القهر و القدرة عام في حق الكل. و السابع: و هو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية ردا على من يتخذ غير اللَّه وليا، و التقدير: كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده، و متى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير اللَّه وليا. و هذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية، الفوقية بالقدرة و القوة.
أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلا في جهة فوق أن يكون التعويل عليه في كل الأمور مفيدا و أن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازما. أما إذا حملنا
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 497
ذلك على فوقيه القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه، لا ما ذكره أهل التشبيه و اللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (6): آية 19]
[في قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ] في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات و أعظمها شهادة اللَّه تعالى. ثم بيّن أن شهادة اللَّه حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول: يمكن أن يكون المراد حصول شهادة اللَّه في ثبوت نبوّة محمد صلى اللَّه عليه و سلم، و يمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية اللَّه تعالى.
أما الاحتمال الأول:
فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد اللَّه غيرك/ رسولا و ما نرى أحدا يصدقك و قد سألنا اليهود و النصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوّة فأرنا من يشهد لك بالنبوّة فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية
و قال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من اللَّه حتى يعترفوا بالنبوّة، فإن أكبر الأشياء شهادة هو اللَّه سبحانه و تعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن اللَّه شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن و هذا القرآن معجز، لأنكم أنتم الفصحاء و البلغاء و قد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزا، كان إظهار اللَّه إياه على وفق دعواي شهادة من اللَّه على كوني صادقا في دعواي. و الحاصل: أنهم طلبوا شاهدا مقبول القول يشهد على نبوّته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو اللَّه، ثم بيّن أنه شهد له بالنبوّة و هو المراد من قوله وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ فهذا تقرير واضح.
و أما الاحتمال الثاني: و هو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية اللَّه تعالى.
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة، و هي أنا نقول: المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع، و إلا لزم الدور.
و منها ما يمتنع إثباته بالعقل و هو كل شيء يصح وجوده و يصح عدمه عقلا، فلا امتناع في أحد الطرفين أصلا، فالقطع على أحد الطرفين بعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي، و منها ما يمكن إثباته بالعقل و السمع معا، و هو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به، فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية و البراءة عن الشركاء و الأضداد و الأنداد و الأمثال و الأشباه.
ثم قال: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، و أن القول بالشرك باطل مردود.
المسألة الثانية: نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئا.
و اعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتا موجودا و حقيقة إلا أنه ينكر تسميته تعالى بكونه شيئا، فيكون هذا
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 498
خلافا في مجرد العبارة. و احتج الجمهور على تسمية اللَّه تعالى بالشيء بهذه الآية و تقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ اللَّهُ و هذا يوجب كونه تعالى شيئا، كما أنه لو قال:
أي الناس أصدق؛ فلو قيل: جبريل، كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا هاهنا.
فإن قيل: قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن/ قوله اللَّهُ مبتدأ، و قوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ خبره، و هو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها.
قلنا الجواب فيه وجهين: الأول: أن نقول قوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً لا شك أنه سؤال و لا بدّ له من جواب: إما مذكور، و إما محذوف.
فإن قلنا: الجواب مذكور: كان الجواب هو قوله قُلِ اللَّهُ و هاهنا يتم الكلام. فأما قوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فههنا يضمر مبتدأ، و التقدير: و هو شهيد بيني و بينكم، و عند هذا يصح الاستدلال المذكور.
و أما إن قلنا: الجواب محذوف فنقول: هذا على خلاف الدليل، و أيضا فبتقدير أن يكون الجواب محذوفا، إلا أن ذلك المحذوف لا بدّ و أن يكون أمرا يدل المذكور عليه و يكون لائقا بذلك الموضع.
و الجواب اللائق بقوله أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً هو أن يقال: هو اللَّه، ثم يقال بعده اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و على هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضا على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل.
و في المسألة دليل آخر و هو قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] و المراد بوجهه ذاته، فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله كُلُّ شَيْءٍ و المستثنى يجب أن يكون داخلا تحت المستثنى منه، فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء. و احتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه: الأول:
قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] و المراد ليس مثل مثله شيء و ذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن اللَّه تعالى لا يسمى باسم الشيء و لا يقال الكاف زائدة، و التقدير: ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثا باطلا لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة. و الثاني: قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ* [الرعد: 16] و لو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقا لنفسه و هو محال، لا يقال: هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول: إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها و لا يلتفت إليها، فيجري وجودها مجرى عدمها، فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم و من المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء و أشرفها، و إطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجا عنه يكون محض كذب و لا يكون من باب التخصيص. الثالث:
التمسك بقوله وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] و الاسم إنما يحسن لحسن مسماه و هو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت/ الجلال و لفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلا في أحسن الأشياء و في أرذلها و متى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال و لا نعتا من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة اللَّه تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى و اللَّه تعالى أمر بأن يدعى بالأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء اللَّه تعالى بهذا الاسم و كل من منع من دعاء
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 499
اللَّه بهذا الاسم قال: إن هذا اللفظ ليس اسما من أسماء اللَّه تعالى ألبتة. الرابع: أن اسم الشيء يتناول المعدوم، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى بيان الأول: قوله تعالى: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الكهف: 23] سمى الشيء الذي سيفعله غدا باسم الشيء في الحال و الذي سيفعله غدا يكون معدوما في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم.
و إذا ثبت هذا فقولنا: إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة و لا بخاصة متميزة و لا يفيد كونه موجودا فيكون هذا لفظا لا يفيد فائدة في حق اللَّه تعالى البتة، فكان عبثا مطلقا، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى.
و الجواب عن هذه الوجوه أن يقال: لما تعارضت الدلائل.
فنقول: لفظ الشيء أعم الألفاظ، و متى صدق الخاص صدق العام، فمتى صدق فيه كونه ذاتا و حقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئا و ذلك هو المطلوب و اللَّه أعلم.
أما قوله وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ فالمراد أنه تعالى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به، و هو خطاب لأهل مكة، و قوله وَ مَنْ بَلَغَ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به، و أنذر كل من بلغه القرآن، من العرب و العجم، و قيل من الثقلين، و قيل: من بلغه إلى يوم القيامة، و عن سعيد بن جبير:
من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدا صلى اللَّه عليه و سلم، و على هذا التفسير فيحصل في الآية حذف، و التقدير: و أوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به، و من بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه، كما يقال الذي رأيت زيد، و الذي ضربت عمرو. و في تفسير قوله وَ مَنْ بَلَغَ قول آخر، و هو أن يكون قوله وَ مَنْ بَلَغَ أي و من احتلم و بلغ حد التكليف، و عند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول.
أما قوله أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فنقول: فيه بحثان:
البحث الأول: قرأ ابن كثير: (أينكم) بهمزة و كسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة، و أبو عمرو و قالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد و الباقون بهمزتين بلا مد.
و البحث الثاني: أن هذا استفهام معناه الجحد و الإنكار. قال الفرّاء: و لم يقل آخر لأن الآلهة جمع و الجمع يقع عليه التأنيث كما قال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] و قال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: 51] و لم يقل الأول و لا الأولين و كل ذلك صواب.
ثم قال تعالى: قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ و اعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد و البراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه: أولها: قوله قُلْ لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء. و ثانيها: قوله قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ و كلمة إِنَّما تفيد الحصر، و لفظ الواحد صريح في التوحيد و نفي الشركاء. و ثالثها: قوله إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ و فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إيجاب التوحيد بأعظم طرق البيان و أبلغ وجوه التأكيد. قال العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين و يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام.
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 500
و نص الشافعي رحمه اللَّه على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد.
[سورة الأنعام (6): آية 20]
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود و النصارى عن صفة محمد عليه الصلاة و السلام فأنكروا دلالة التوراة و الإنجيل على نبوّته، فبيّن اللَّه تعالى في الآية الأولى أن شهادة اللَّه على صحة نبوّته كافية في ثبوتها و تحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة و السلام، لأنهم يعرفونه بالنبوّة و الرسالة كما يعرفون أبناءهم لما
روي أنه لما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم المدينة قال عمر لعبد اللَّه بن سلام: أنزل اللَّه على نبيّه هذه الآية فكيف هذه المعرفة، فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني و لأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء و أشهد أنه حق من اللَّه تعالى.
و اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوّة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم و فيه سؤال و هو أن يقال: المكتوب في التوراة و الإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان و المكان و النسب و الصفة/ و الحلية و الشكل، فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام، فكيف يصح أن يقال: علمهم بنبوّته مثل علمهم بنبوّة أبنائهم، و إن كان الثاني وجب أن يكون جميع اليهود و النصارى عالمين بالضرورة من التوراة و الإنجيل بكون محمد عليه الصلاة و السلام نبيا من عند اللَّه تعالى، و الكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة و الإنجيل ما كانا مشتملين على هذه التفاصيل التامة الكاملة، لأن هذا التفصيل إما أن يقال: إنه كان باقيا في التوراة و الإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة و السلام أو يقال: إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة و الإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرف إليهما قبل ذلك، و الأول باطل لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق و الغرب ممتنع، و الثاني أيضا باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان، و نصارى ذلك الزمان عالمين بنبوّة محمد صلى اللَّه عليه و سلم علمهم بنبوّة أبنائهم، و حينئذ يسقط هذا الكلام.
و الجواب عن الأول: أن يقال المراد ب الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اليهود و النصارى، و هم كانوا أهلا للنظر و الاستدلال، و كانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة و السلام، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولا من عند اللَّه، و المقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه.