کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 497
ذلك على فوقيه القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه، لا ما ذكره أهل التشبيه و اللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (6): آية 19]
[في قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ] في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات و أعظمها شهادة اللَّه تعالى. ثم بيّن أن شهادة اللَّه حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول: يمكن أن يكون المراد حصول شهادة اللَّه في ثبوت نبوّة محمد صلى اللَّه عليه و سلم، و يمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية اللَّه تعالى.
أما الاحتمال الأول:
فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد اللَّه غيرك/ رسولا و ما نرى أحدا يصدقك و قد سألنا اليهود و النصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوّة فأرنا من يشهد لك بالنبوّة فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية
و قال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من اللَّه حتى يعترفوا بالنبوّة، فإن أكبر الأشياء شهادة هو اللَّه سبحانه و تعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن اللَّه شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن و هذا القرآن معجز، لأنكم أنتم الفصحاء و البلغاء و قد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزا، كان إظهار اللَّه إياه على وفق دعواي شهادة من اللَّه على كوني صادقا في دعواي. و الحاصل: أنهم طلبوا شاهدا مقبول القول يشهد على نبوّته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو اللَّه، ثم بيّن أنه شهد له بالنبوّة و هو المراد من قوله وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ فهذا تقرير واضح.
و أما الاحتمال الثاني: و هو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية اللَّه تعالى.
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة، و هي أنا نقول: المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع، و إلا لزم الدور.
و منها ما يمتنع إثباته بالعقل و هو كل شيء يصح وجوده و يصح عدمه عقلا، فلا امتناع في أحد الطرفين أصلا، فالقطع على أحد الطرفين بعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي، و منها ما يمكن إثباته بالعقل و السمع معا، و هو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به، فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية و البراءة عن الشركاء و الأضداد و الأنداد و الأمثال و الأشباه.
ثم قال: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، و أن القول بالشرك باطل مردود.
المسألة الثانية: نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئا.
و اعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتا موجودا و حقيقة إلا أنه ينكر تسميته تعالى بكونه شيئا، فيكون هذا
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 498
خلافا في مجرد العبارة. و احتج الجمهور على تسمية اللَّه تعالى بالشيء بهذه الآية و تقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ اللَّهُ و هذا يوجب كونه تعالى شيئا، كما أنه لو قال:
أي الناس أصدق؛ فلو قيل: جبريل، كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا هاهنا.
فإن قيل: قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن/ قوله اللَّهُ مبتدأ، و قوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ خبره، و هو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها.
قلنا الجواب فيه وجهين: الأول: أن نقول قوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً لا شك أنه سؤال و لا بدّ له من جواب: إما مذكور، و إما محذوف.
فإن قلنا: الجواب مذكور: كان الجواب هو قوله قُلِ اللَّهُ و هاهنا يتم الكلام. فأما قوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فههنا يضمر مبتدأ، و التقدير: و هو شهيد بيني و بينكم، و عند هذا يصح الاستدلال المذكور.
و أما إن قلنا: الجواب محذوف فنقول: هذا على خلاف الدليل، و أيضا فبتقدير أن يكون الجواب محذوفا، إلا أن ذلك المحذوف لا بدّ و أن يكون أمرا يدل المذكور عليه و يكون لائقا بذلك الموضع.
و الجواب اللائق بقوله أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً هو أن يقال: هو اللَّه، ثم يقال بعده اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ و على هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضا على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل.
و في المسألة دليل آخر و هو قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] و المراد بوجهه ذاته، فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله كُلُّ شَيْءٍ و المستثنى يجب أن يكون داخلا تحت المستثنى منه، فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء. و احتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه: الأول:
قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] و المراد ليس مثل مثله شيء و ذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن اللَّه تعالى لا يسمى باسم الشيء و لا يقال الكاف زائدة، و التقدير: ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثا باطلا لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة. و الثاني: قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ* [الرعد: 16] و لو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقا لنفسه و هو محال، لا يقال: هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول: إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها و لا يلتفت إليها، فيجري وجودها مجرى عدمها، فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم و من المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء و أشرفها، و إطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجا عنه يكون محض كذب و لا يكون من باب التخصيص. الثالث:
التمسك بقوله وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] و الاسم إنما يحسن لحسن مسماه و هو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت/ الجلال و لفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلا في أحسن الأشياء و في أرذلها و متى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال و لا نعتا من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة اللَّه تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى و اللَّه تعالى أمر بأن يدعى بالأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء اللَّه تعالى بهذا الاسم و كل من منع من دعاء
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 499
اللَّه بهذا الاسم قال: إن هذا اللفظ ليس اسما من أسماء اللَّه تعالى ألبتة. الرابع: أن اسم الشيء يتناول المعدوم، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى بيان الأول: قوله تعالى: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الكهف: 23] سمى الشيء الذي سيفعله غدا باسم الشيء في الحال و الذي سيفعله غدا يكون معدوما في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم.
و إذا ثبت هذا فقولنا: إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة و لا بخاصة متميزة و لا يفيد كونه موجودا فيكون هذا لفظا لا يفيد فائدة في حق اللَّه تعالى البتة، فكان عبثا مطلقا، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى.
و الجواب عن هذه الوجوه أن يقال: لما تعارضت الدلائل.
فنقول: لفظ الشيء أعم الألفاظ، و متى صدق الخاص صدق العام، فمتى صدق فيه كونه ذاتا و حقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئا و ذلك هو المطلوب و اللَّه أعلم.
أما قوله وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ فالمراد أنه تعالى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به، و هو خطاب لأهل مكة، و قوله وَ مَنْ بَلَغَ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به، و أنذر كل من بلغه القرآن، من العرب و العجم، و قيل من الثقلين، و قيل: من بلغه إلى يوم القيامة، و عن سعيد بن جبير:
من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدا صلى اللَّه عليه و سلم، و على هذا التفسير فيحصل في الآية حذف، و التقدير: و أوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به، و من بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه، كما يقال الذي رأيت زيد، و الذي ضربت عمرو. و في تفسير قوله وَ مَنْ بَلَغَ قول آخر، و هو أن يكون قوله وَ مَنْ بَلَغَ أي و من احتلم و بلغ حد التكليف، و عند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول.
أما قوله أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فنقول: فيه بحثان:
البحث الأول: قرأ ابن كثير: (أينكم) بهمزة و كسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة، و أبو عمرو و قالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد و الباقون بهمزتين بلا مد.
و البحث الثاني: أن هذا استفهام معناه الجحد و الإنكار. قال الفرّاء: و لم يقل آخر لأن الآلهة جمع و الجمع يقع عليه التأنيث كما قال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] و قال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: 51] و لم يقل الأول و لا الأولين و كل ذلك صواب.
ثم قال تعالى: قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ و اعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد و البراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه: أولها: قوله قُلْ لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء. و ثانيها: قوله قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ و كلمة إِنَّما تفيد الحصر، و لفظ الواحد صريح في التوحيد و نفي الشركاء. و ثالثها: قوله إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ و فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إيجاب التوحيد بأعظم طرق البيان و أبلغ وجوه التأكيد. قال العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين و يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام.
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 500
و نص الشافعي رحمه اللَّه على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد.
[سورة الأنعام (6): آية 20]
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود و النصارى عن صفة محمد عليه الصلاة و السلام فأنكروا دلالة التوراة و الإنجيل على نبوّته، فبيّن اللَّه تعالى في الآية الأولى أن شهادة اللَّه على صحة نبوّته كافية في ثبوتها و تحققها، ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمدا عليه الصلاة و السلام، لأنهم يعرفونه بالنبوّة و الرسالة كما يعرفون أبناءهم لما
روي أنه لما قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم المدينة قال عمر لعبد اللَّه بن سلام: أنزل اللَّه على نبيّه هذه الآية فكيف هذه المعرفة، فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني و لأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء و أشهد أنه حق من اللَّه تعالى.
و اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوّة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم و فيه سؤال و هو أن يقال: المكتوب في التوراة و الإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق، أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان و المكان و النسب و الصفة/ و الحلية و الشكل، فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام، فكيف يصح أن يقال: علمهم بنبوّته مثل علمهم بنبوّة أبنائهم، و إن كان الثاني وجب أن يكون جميع اليهود و النصارى عالمين بالضرورة من التوراة و الإنجيل بكون محمد عليه الصلاة و السلام نبيا من عند اللَّه تعالى، و الكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة و الإنجيل ما كانا مشتملين على هذه التفاصيل التامة الكاملة، لأن هذا التفصيل إما أن يقال: إنه كان باقيا في التوراة و الإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة و السلام أو يقال: إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة و الإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرف إليهما قبل ذلك، و الأول باطل لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق و الغرب ممتنع، و الثاني أيضا باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان، و نصارى ذلك الزمان عالمين بنبوّة محمد صلى اللَّه عليه و سلم علمهم بنبوّة أبنائهم، و حينئذ يسقط هذا الكلام.
و الجواب عن الأول: أن يقال المراد ب الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اليهود و النصارى، و هم كانوا أهلا للنظر و الاستدلال، و كانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة و السلام، فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولا من عند اللَّه، و المقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه.
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ففيه قولان الأول: أن قوله الَّذِينَ صفة للذين الأولى، فيكون عاملهما واحدا و يكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون و يجحدون. و الثاني: أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء. و قوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خبره، و في قوله الَّذِينَ خَسِرُوا وجهان: الأول: أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر و الثاني: جاء في التفسير أنه ليس من كافر و لا مؤمن إلا و له منزلة في الجنة، فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه و أهله بأن ورث منزلته غيره.
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 501
[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]
اعلم أنه تعالى لما حكم على أولئك المنكرين بالخسران في الآية الأولى بيّن في هذه الآية سبب ذلك الخسران، و هو أمران: أحدهما: أن يفترى على اللَّه كذبا، و هذا الافتراء يحتمل وجوها: الأول: أن كفار مكة كانوا يقولون هذه الأصنام شركاء اللَّه، و اللَّه سبحانه و تعالى أمرهم بعبادتها و التقرب إليها، و كانوا أيضا يقولون الملائكة بنات اللَّه، ثم نسبوا إلى اللَّه تحريم البحائر و السوائب. و ثانيها: أن اليهود و النصارى كانوا يقولون:
حصل في التوراة و الإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ و التغيير، و أنهما لا يجيء بعدهما نبي، و ثالثها: ما ذكره اللَّه تعالى في قوله وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] و رابعها: أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] و كانوا يقولون لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] و خامسها: أن بعض الجهال منهم كان يقول: إن اللَّه فقير و نحن أغنياء، و أمثال هذه الأباطيل التي كانوا ينسبونها إلى اللَّه كثيرة، و كلها افتراء منهم على اللَّه.
و النوع الثاني: من أسباب خسرانهم تكذيبهم بآيات اللَّه، و المراد منه قدحهم في معجزات محمد صلى اللَّه عليه و سلم، و طعنهم فيها و إنكارهم كون القرآن معجزة قاهرة بينة، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذين الأمرين قال: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا و في الآخرة بل يبقون في الحرمان و الخذلان.
أما قوله وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ففي ناصب قوله وَ يَوْمَ أقوال: الأول: أنه محذوف و تقديره و يوم نحشرهم كان كيت و كيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف، و الثاني: التقدير اذكر يوم نحشرهم، و الثالث: أنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبدا و يوم نحشرهم.
و أما قوله ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فالمقصود منه التقريع و التبكيت لا السؤال، و يحتمل أن يكون معناه أين نفس الشركاء، و يحتمل أن يكون المراد أين شفاعتهم لكم و انتفاعكم بهم، و على كلا الوجهين: لا يكون الكلام إلا توبيخا و تقريعا و تقريرا في نفوسهم أن الذي كانوا يظنونه مأيوس عنه، و صار ذلك تنبيها لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة، و العائد على الموصول من قوله الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ محذوف، و التقدير: الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء، فحذف مفعول الزعم لدلالة السؤال عليه، قال ابن عباس: و كل زعم في كتاب اللَّه كذب.
[سورة الأنعام (6): الآيات 23 الى 24]
[في قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ] اعلم أن هاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر و حفص عن عاصم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بالتاء المنقطة من فوق و فتنتهم بالرفع، و قرأ حمزة و الكسائي ثم لم يكن بالياء و فتنتهم بالنصب، و أما القراءة بالتاء المنقطة من فوق و نصب الفتنة، فههنا قوله أن قالوا: في محل الرفع لسكونه اسم تكن، و إنما أنث لتأنيث الخبر كقوله من كانت أمك أو
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 502
لأن ما قالوا: فتنة في المعنى، و يجوز تأويل إلا أن قالوا لا مقالتهم و أما القراءة بالياء المنقطة من تحت، و نصب فتنتهم، فههنا قوله أن قالوا: في محل الرفع لكونه اسم يكن، و فتنتهم هو الخبر. قال الواحدي: الاختيار قراءة من جعل أن قالوا الاسم دون الخبر لأن أن إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المظهر و المضمر، إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسما أولى من جعله خبرا، فكذا هاهنا تقول كنت القائم، فجعلت المضمر اسما و المظهر خبرا فكذا هاهنا، و نقول قراءة حمزة و الكسائي: و اللَّه ربنا بنصب قوله ربنا لوجهين: أحدهما: بإضمار أعني و أذكر، و الثاني: على النداء، أي و اللَّه يا ربنا، و الباقون بكسر الباء على أنه صفة للَّه تعالى.
المسألة الثانية: قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام و تصرف العرب في ذلك، و ذلك أن اللَّه تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه، فأعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم و إقامتهم عليه، إلا أن تبرؤا منه و تباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين:
و مثاله أن ترى إنسانا يحب عاريا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له ما كانت محبتك لفلان، إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة هاهنا افتتانهم بالأوثان، و يتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس:
أنه قال ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ معناه شركهم في الدنيا، و هذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، و مثله قولك ما كانت محبتك لفلان، إلا أن فررت منه و تركته.
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يقتضي: أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين، و هذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة، و للناس فيه قولان: الأول: و هو قول أبي علي الجبائي، و القاضي: أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب و احتجا عليه بوجوه: الأول: ن أهل القيامة يعرفون اللَّه تعالى بالاضطرار، إذ لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف، و ذلك باطل، و إذا كانوا عارفين باللَّه على سبيل الاضطرار، وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم اللَّه منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح، و أنه لا يجوز، فثبت أن أهل القيامة يعلمون اللَّه بالاضطرار، و ثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح، و ذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه لا يجوز منهم فعل القبيح، إذا كانوا عقلاء إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم، فقالوا: هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا.
و الجواب عن الأول: أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم: و يورد عليهم التوبيخ بقوله أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام: 22] ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء، لأن هذا لا يليق بحكمة اللَّه تعالى، و أيضا فالمكلفون لا بد و أن يكونوا عقلاء يوم القيامة، ليعلموا أنهم بما يعاملهم اللَّه به غير مظلومين.
و الجواب عن الثاني: أن النسيان: لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال، و إن بعد العهد، و إنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور و لو لا أن الأمر كذلك لجوزنا
مفاتيح الغيب، ج12، ص: 503
أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهرا طويلا، و مع ذلك فقد نسيه، و معلوم أن تجويزه يوجب السفسطة.
الحجة الثانية: أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال: إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء، فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة اللَّه تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر، و إن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن اللَّه تعالى عالم بأحوالهم، مطلع على أفعالهم و يعلمون أن تجويز الكذب على اللَّه محال، و أنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت و الغضب و إذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب.
الحجة الثالثة: أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على هذين النوعين من القبح و الذنب و ذلك يوجب العقاب، فتصير الدار الآخرة دار التكليف، و قد أجمعوا على أنه ليس الأمر كذلك، و أما إن قيل إنهم لا يستحقون على ذلك الكذب، و على ذلك الحلف الكاذب عقابا و ذما، فهذا يقتضي حصول الاذن من اللَّه تعالى في ارتكاب القبائح و الذنوب، و أنه باطل، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح و الكذب.
و إذا ثبت هذا: فعند ذلك قالوا يحمل قوله وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ أي ما كنا مشركين في اعتقادنا و ظنوننا، و ذلك لأن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين متباعدين من الشرك.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير: يكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم أخبروا بأنهم كانوا غير مشركين عند أنفسهم، فلما ذا قال اللَّه تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ و لنا أنه ليس تحت قوله انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أنهم كذبوا فيما تقدم ذكره من قوله وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ حتى يلزمنا هذا السؤال بل يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم: إنهم على صواب و إن ما هم عليه ليس بشرك و الكذب يصح عليهم في دار الدنيا، و إنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة، و الحاصل أن المقصود من قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ اختلاف الحالين، و أنهم في دار الدنيا كانوا يكذبون و لا يحترزون عنه و أنهم في الآخرة يحترزون عن الكذب و لكن حيث لا ينفعهم الصدق فلتعلق أحد الأمرين بالآخر أظهر اللَّه تعالى للرسول ذلك و بين أن القوم لأجل شركهم كيف يكون حالهم في الآخرة عند الاعتذار مع أنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون على أنفسهم و يزعمون أنهم على صواب. هذا جملة كلام القاضي في تقرير القول الذي اختاره أبو علي الجبائي.