کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 214
هُدىً [محمد: 17] و هذه الزوائد و الفوائد و المزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، و يجوز حصولها في الآخرة بعد الموت، قال القفال: و إذا حملنا الآية على هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم و تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، إلا أن حذف الواو و جعل قوله: تَجْرِي خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله.
و التأويل الثالث: أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات.
المقدمة الأولى: أن العلم نور و الجهل ظلمة و صريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، و مما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما و ما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهم متهللا مشرقا مضيئا، و وجه من لم يفهم عبوسا مظلما منقبضا، و لهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم و الإيمان و النور، و عن الجهل و الكفر بالظلمات.
و المقدمة الثانية: أن الروح كاللوح، و العلوم و المعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح. ثم هاهنا دقيقة، و هي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف و العلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف و العلوم، فإذا احتال و حصل شيء منها، كان حصول ما حصل منها معينا له على سهولة تحصيل الباقي، و كلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا من حصول الباقي، و النقوش الروحانية يكون بعضها معينا على حصول البقية، و ذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني.
المقدمة الثالثة: أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا و طلب الآخرة، و الأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك.
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الإنسان إذا آمن باللَّه فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة و في الإعراض عن الدنيا، و كلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد، و كلما/ كان الاستعداد أقوى و أكمل كانت معارج المعارف أكثر و إشراقها و لمعانها أقوى، و لما كان لا نهاية لمراتب المعارف و الأنوار العقلية، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ .
المسألة الثانية: قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين و الأنهار تجري من بين أيديهم، و نظيره قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:
24] و هي ما كانت قاعدة عليها، و لكن المعنى بين يديك، و كذا قوله: وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] المعنى بين يدي فكذا هاهنا.
المسألة الثالثة: الإيمان هو المعرفة و الهداية المترتبة عليها أيضا من جنس المعارف، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم بل قال: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ و ذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة ثم إذا حصل هذا
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 215
الاستعداد، كان التكوين من الحق سبحانه و تعالى، و هذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق و الجواد الحق، ليس إلا اللَّه سبحانه و تعالى.
المرتبة الثانية: من مراتب سعاداتهم و درجات كمالاتهم قوله سبحانه و تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: في دَعْواهُمْ وجوه: الأول: أن الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء، يقال: دعا يدعو دعاء و دعوى، كما يقال: شكا يشكو شكاية و شكوى. قال بعض المفسرين: دَعْواهُمْ أي دعاؤهم. و قال تعالى في أهل الجنة: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس: 57] و قال في آية أخرى يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان: 55] و مما يقوى أن المراد من الدعوى هاهنا الدعاء هو أنهم قالوا: اللهم و هذا نداء للَّه سبحانه و تعالى، و معنى قولهم: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: «اللهم إياك نعبد» الثاني: أن يراد بالدعاء العبادة، و نظيره قوله تعالى: وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] أي و ما تعبدون فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا اللَّه و يحمدوه، و يكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر اللَّه تعالى. الثالث: قال بعضهم: لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم و المعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا و في الآخرة تنزيه اللَّه تعالى عن كل المعايب و الإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصل ذلك أيضا من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع: قال مسلم: دَعْواهُمْ أي قولهم و إقرارهم و نداؤهم، و ذلك هو قولهم: سُبْحانَكَ/ اللَّهُمَ الخامس: قال القاضي: المراد من قوله: دَعْواهُمْ أي طريقتهم في تمجيد اللَّه تعالى و تقديسه و شأنهم و سنتهم. و الدليل على أن المراد ذلك أن قوله: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ ليس بدعاء و لا بدعوى، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظبا على ذكره، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة و الملازمة فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها.
السادس: قال القفال: قيل في قوله: لَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس: 57] أي ما يتمنونه، و العرب تقول: ادع ما شئت علي، أي تمن. و قال ابن جريج: أخبرت أن قوله: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَ هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا سُبْحانَكَ اللَّهُمَ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني، و في هذا التفسير وجه آخر هو أفضل و أشرف مما تقدم، و هو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا اللَّه تعالى، أي تمنيهم لما يتمنونه، ليس إلا في تسبيح اللَّه تعالى و تقديسه و تنزيهه. السابع: قال القفال أيضا: و يحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه و يستنصرونه، كقولهم: يا آل فلان، فأخبر اللَّه تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم اللَّه تعالى، و سكونهم بتحميدهم اللَّه و لذتهم بتمجيدهم اللَّه تعالى.
المسألة الثانية: أن قوله: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ فيه وجهان:
الوجه الأول: قول من يقول: إن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج: إذا مر بهم طيرا اشتهوه قالوا سُبْحانَكَ اللَّهُمَ فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 216
الْعالَمِينَ و قال الكلبي: قوله: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ علم بين أهل الجنة و الخدام، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون. و اعلم أن هذا القول عندي ضعيف جدا، و بيانه من وجوه: أحدها: أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول و المشروب و المنكوح، و هذا في غاية الخساسة. و ثانيها: أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة: وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير، فلا حاجة بهم إلى الطلب، و إذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب، فقد سقط هذا الكلام. و ثالثها: أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به، و هذا باطل.
الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية أن نقول: المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس اللَّه سبحانه و تمجيده و الثناء عليه، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر و ابتهاجهم به و سرورهم به، و كمال حالهم لا يحصل إلا منه، و هذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه:/ أحدها: قال القاضي: إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ [يونس: 4] فإذا دخل أهل الجنة الجنة، و وجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن اللَّه تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ أي نسبحك عن الخلف في الوعد و الكذب في القول. و ثانيها: أن نقول: غاية سعادة السعداء، و نهاية درجات الأنبياء و الأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال.
و اعلم أن معرفة ذات اللَّه تعالى و الاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية. أما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال، و أما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصورا عليها، كما قال سبحانه و تعالى:
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ [الرحمن: 78] و
كان صلى اللَّه عليه و سلم يقول: «ألظوا بيا ذا الجلال و الإكرام»
و لما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات، لا جرم كان ذكر الجلال متقدما على ذكر الإكرام في اللفظ. و إذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين، لا جرم ذكر اللَّه سبحانه و تعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس، و لما كان لا نهاية لمعارج جلال اللَّه و لا غاية لمدارج إلهيته و إكرامه و إحسانه، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية. و ثالثها: أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر، ألا ترى أنهم قالوا: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم، حتى أتوا بهذا التسبيح و التحميد، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام، بعد انقراض العالم، و لما كان هذا الذكر مشتملا على هذا الشرف العالي، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة، فإن المصلي إذا كبر قال:
«سبحانك اللهم و بحمدك تبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك».
المرتبة الثالثة: من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ قال المفسرون: تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام، و تحية الملائكة لهم بالسلام، كما قال تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23] و تحية اللَّه تعالى لهم أيضا بالسلام كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍ
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 217
رَحِيمٍ [يس: 58] قال الواحدي: و على هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول، و عندي فيه وجه آخر: و هو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات و في معرض المخافات، فإذا أخرجوا من الدنيا و وصلوا إلى كرامة اللَّه تعالى، فقد صاروا سالمين/ من الآفات، آمنين من المخافات و النقصانات و قد أخبر اللَّه تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر: 34، 35].
المرتبة الرابعة: من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه و تعالى: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل و الشرب فقالوا: إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا قالوا: سبحانك اللهم و بحمدك، و إذا أكلوا و فرغوا قالوا: الحمد للَّه رب العالمين، و هذا القائل ما ترقى نظره في دنياه و أخراه عن المأكول و المشروب، و حقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم. و أما المحقون المحققون، فقد تركوا ذلك، و لهم فيه أقوال.
روى الحسن البصري عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم أنه قال: «إن أهل الجنة يلهمون الحمد و التسبيح كما تلهمون أنفاسكم»
و قال الزجاج: أعلم اللَّه تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم اللَّه تعالى و تنزيهه و يختتمون بشكره و الثناء عليه، و أقول: عندي في هذا الباب وجوه أخر: فأحدها: أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم و بحمدك، و عاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات و المخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية و المقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه و إفضاله و إنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد و الثناء فقالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و إنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح اللَّه تعالى و تمجيده من أعظم نعم اللَّه تعالى عليهم و الاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة، و ثانيها: أن لكل إنسان بحسب قوته معراجا، فتارة ينزل عن ذلك المعراج، و تارة يصعد إليه و معراج العارفين الصادقين، معرفة اللَّه تعالى و تسبيح اللَّه و تحميد اللَّه، فإذا قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ فهم في عين المعراج، و إذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين و إليه الإشارة بقوله: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ثم إنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه، و عند الصعود يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول و العروج. و ثالثها: أن نقول: إن قولنا اللَّه اسم لذات الحق سبحانه، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال، و هي المشار إليها بقوله: سُبْحانَكَ ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات، ترقيا يليق بالطاقة البشرية، و هي المشار إليها بقوله: اللَّهُمَ فإذا عرج عن ذلك المكان و اخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام، و هو/ المشار إليه بقوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فهذه كلمات خطرت بالبال و دارت في الخيال، فإن حقت فالتوفيق من اللَّه تعالى، و إن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة اللَّه تعالى.
المسألة الثانية: قال الواحدي: (أن) في قوله: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هي المخففة من الشديدة، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله:
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 218
أن هالك كل من يحفى و ينتعل
على معنى أنه هالك. و قال صاحب «النظم» (أن) هاهنا زائدة، و التقدير: و آخر دعواهم الحمد للَّه رب العالمين، و هذا القول ليس بشيء، و قرأ بعضهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بالتشديد، و نصب الحمد.
[سورة يونس (10): آية 11]
و فيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى: أن القوم تعجبوا من تخصيص اللَّه تعالى محمدا عليه السلام بالنبوة فأزال اللَّه تعالى ذلك التعجب بقوله: أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يونس: 2] ثم ذكر دلائل التوحيد و دلائل صحة المعاد، و حاصل الجواب أنه يقول: إني ما جئتكم إلا بالتوحيد و الإقرار بالمعاد، و قد دللت على صحتها، فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى.
و الشبهة الثانية: للقوم أنهم كانوا أبدا يقولون: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فأجاب اللَّه تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية فهذا هو الكلام في كيفية النظم. و من الناس من ذكر فيه وجوها أخرى: فالأول: قال القاضي: لما بين تعالى فيما تقدم الوعد و الوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف. و الثاني: ما ذكره القفال: و هو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء اللَّه و رضوا بالحياة الدنيا/ و اطمأنوا بها، و كانوا عن آيات اللَّه غافلين بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلا منهم و سفها.
المسألة الثانية: أنه تعالى أخبر في آيات كثيرة أن هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدنيا استعجلوا ذلك العذاب كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] و قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] الآية. ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية و هو قوله: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 8] استعجلوا ذلك العذاب، و قالوا: متى يحصل ذلك كما قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى: 18] و قال في هذه السورة بعد هذه الآية: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إلى قوله: آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [يونس: 48- 51] و قال في سورة الرعد: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد: 6] فبين تعالى أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم، لأنه تعالى لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا و هلكوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك و لا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، و ربما خرج من صلبهم من كان مؤمنا، و ذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر.
المسألة الثالثة: في لفظ الآية إشكال، و هو أن يقال: كيف قابل التعجيل بالاستعجال، و كان الواجب أن
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 219
يقابل التعجيل بالتعجيل، و الاستعجال بالاستعجال.
و الجواب عنه من وجوه: الأول: قال صاحب «الكشاف»: أصل هذا الكلام، و لو يعجل اللَّه للناس الشر تعجيله لهم الخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته و إسعافه بطلبهم، حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. الثاني: قال بعضهم حقيقة قولك عجلت فلانا طلبت عجلته، و كذلك عجلت الأمر إذا أتيت به عاجلا، كأنك طلبت فيه العجلة و الاستعجال أشهر و أظهر في هذا المعنى، و على هذا الوجه يصير معنى الآية لو أراد اللَّه عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم لقضى إليهم أجلهم، قال صاحب هذا الوجه، و على هذا التقدير: فلا حاجة إلى العدول عن ظاهر الآية. الثالث: أن كل من عجل شيئا فقد طلب تعجيله، و إذا كان كذلك، فكل من كان معجلا كان مستعجلا، فيصير التقدير، و لو استعجل اللَّه للناس الشر استعجالهم بالخير إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة و وصفهم بطلبها، لأن اللائق به تعالى هو التكوين و اللائق بهم هو الطلب.
المسألة الرابعة: أنه تعالى سمى العذاب شرا في هذه الآية، لأن أذى في حق المعاقب و مكروه عنده كما أنه سماه سيئة في قوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: 6] و في قوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40].
المسألة الخامسة: قرأ ابن عامر لقضى بفتح اللام و القاف أجلهم بالنصب، يعني لقضى اللَّه، و ينصره قراءة عبد اللَّه لقضينا إليهم أجلهم و قرأ الباقون بضم القاف و كسر الضاد و فتح الياء أَجَلُهُمْ بالرفع على ما لم يسم فاعله.
المسألة السادسة: المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون اللَّه تعالى بكشفها، و قد حكى اللَّه تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النمل: 53] و قوله: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يونس: 12].
المسألة السابعة: لسائل أن يسأل فيقول: كيف اتصل قوله: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا بما قبله و ما معناه؟.
و جوابه أن قوله: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ متضمن معنى نفي التعجيل، كأنه قيل: و لا يعجل لهم الشر، و لا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم في طغيانهم أي فيمهلهم مع طغيانهم إلزاما للحجة.
المسألة الثامنة: قال أصحابنا: إنه تعالى لما حكم عليهم بالطغيان و العمه امتنع أن لا يكونوا كذلك و إلا لزم أن ينقلب خبر اللَّه الصدق كذبا و علمه جهله و حكمه باطلا، و كل ذلك محال، ثم إنه مع هذا كلفهم و ذلك يكون جاريا مجرى التكليف بالجمع بين الضدين.
[سورة يونس (10): آية 12]
و فيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 220
على العبد في الدنيا لهلك و لقضى عليه، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه و نهاية عجزه، ليكون ذلك مؤكدا لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات. الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب و الاستعجال، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه و يؤذيه، فإنه يتضرع إلى اللَّه تعالى في إزالته عنه/ و في دفعه عنه و ذلك يدل على أنه ليس صادقا في هذا الطلب.
المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء و الآلاء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع و الدعاء مضطجعا أو قائما أو قاعدا مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من اللَّه تعالى إزالة تلك المحنة، و تبديلها بالنعمة و المحنة، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر، و لم يتذكر ذلك الضر و لم يعرف قدر الإنعام، و صار بمنزلة من لم يدع اللَّه تعالى لكشف ضره، و ذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان و شدة استيلاء الغفلة و الشهوة عليه، و إنما ذكر اللَّه تعالى ذلك تنبيها على أن هذه الطريقة مذمومة، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، و من شأنه أن يكون كثير الدعاء و التضرع في أوقات الراحة و الرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة،
عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم أنه قال: «من سره أن يستجاب له عند الكرب و الشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء».
و اعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية و محنة، وجب عليه رعاية أمور: فأولها: أن يكون راضيا بقضاء اللَّه تعالى غير معترض بالقلب و اللسان عليه. و إنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق و ملك بالاستحقاق فله أن يفعل في ملكه و ملكه ما شاء كما يشاء، و لأنه تعالى حكيم على الإطلاق و هو منزه عن فعل الباطل و العبث، فكل ما فعله فهو حكمة و صواب، و إذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، و إن أزالها عنه فهو فضل، و حينئذ يجب عليه الصبر و السكوت و ترك القلق و الاضطراب. و ثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر اللَّه تعالى و الثناء عليه بدلا عن الدعاء كان أفضل،
لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة «من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»
و لأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق، و الاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس، و لا شك أن الأول أفضل، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحا في الدين، و بالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحا عنده على الدنيا. و ثالثها: أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر و أن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء و الضراء، و أحوال الشدة و الرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء. و هاهنا مقام آخر أعلى و أفضل مما ذكرناه، و هو أن أهل التحقيق قالوا: إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولا بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولا بالبلاء لا بالمبلي، و مثل هذا الشخص يكون أبدا في البلاء، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء، و أما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من/ زوالها يكون أشد أنواع البلاء، فإن النعمة كلما كانت أكمل و ألذ و أقوى و أفضل، كان خوف زوالها أشد إيذاء و أقوى إيحاشا، فثبت أن من كان مشغولا بالنعمة كان أبدا في لجة البلية أما من كان في وقت النعمة مشغولا بالمنعم، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولا بالمبلي.