کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 231
الإنصاف، و إذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم و جهلهم، فنفتقر هاهنا إلى بيان أمرين: إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر و اللجاج و العناد، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة.
أما المقام الأول: فتقريره أنه روي أن اللَّه تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم، و أنزل الأمطار النافعة على أراضيهم، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام و إلى الأنواء، و على التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران. فقوله: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً المراد منه تلك الأمطار النافعة. و قوله: مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ المراد منه ذلك القحط الشديد. و قوله: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء و الكواكب أو إلى الأصنام.
و اعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة، و هو قوله تعالى: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، و تلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة، و يطلبون الغوائل، و في الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج و العناد و المكر و طلب الغوائل.
و أما المقام الثاني: و هو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات، لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها، لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين، و إنما غرضهم الدفع و المنع و المبالغة في صون مناصبهم الدنيوية، و الامتناع من المتابعة للغير، و الدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم و سلط البلاء عليهم، ثم أزالها عنهم و أبدل تلك البليات بالخيرات، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب و الجحود، فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم.
الوجه الثاني: في تقرير هذا الجواب: أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية و طيب العيش، و من كان كذلك تمرد و تكبر كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] و قرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة و الاقتراحات الفاسدة، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة و الخيرات المتوالية، و قوله: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم، و يجعلهم منقادين للرسول مطيعين له، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة، و اللَّه أعلم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كلام ورد على سبيل المبالغة، و المراد منه إيصال الرحمة إليهم.
و اعلم أن رحمة اللَّه تعالى لا تذاق بالفم، و إنما تذاق بالعقل، و ذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق.
المسألة الثالثة: قال الزجاج (إذا) في قوله: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً للشرط و إِذا في قوله إِذا لَهُمْ مَكْرٌ جواب الشرط و هو كقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36]
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 232
و المعنى: إذا أذقنا الناس رحمة مكروا و إن تصبهم سيئة قنطوا. و اعلم أن (إذا) في قوله: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ تفيد المفاجأة، معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر و سارعوا إليه.
المسألة الرابعة: سمي تكذيبهم بآيات اللَّه مكرا، لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة، و هؤلاء يحتالون لدفع آيات اللَّه بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة. قال مقاتل: المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق اللَّه، بل يقولون سقينا بنوء كذا.
أما قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة اللَّه بالمكر، فاللَّه سبحانه و تعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، و هو من وجهين: الأول: ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد، و في الدنيا من الفضيحة و الخزي و النكال. و الثاني: أن رسل اللَّه يكتبون مكرهم و يحفظونه، و تعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيئة يوم القيامة، و يكون ذلك سببا للفضيحة التامة و الخزي و النكال نعوذ باللَّه تعالى منه.
[سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]
[في قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ إلى قوله بِغَيْرِ الْحَقِ ] في الآية مسائل:
المسألة الأولى: [في ذكر اللَّه تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالا، و لمكر الإنسان مثالا] اعلم أنه تعالى لما قال: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يونس: 21] كان هذا الكلام كلاما كليا لا ينكشف معناه تمام الانكشاف إلا بذكر مثال كامل، فذكر اللَّه تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالا، و لمكر الإنسان مثالا، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها، و ذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي.
و اعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة و وجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام و المسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة. فأولها: أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة. و ثانيها: أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب. و ثالثها: أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، و أن النجاة ليست متوقعة، و لا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، و الرعب الشديد، و أيضا مشاهدة هذه الأحوال و الأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب و الخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل اللَّه و رحمته، و يصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، و يصير بقلبه و روحه و جميع أجزائه متضرعا إلى اللَّه تعالى، ثم إذا نجاه اللَّه تعالى من هذه البلية العظيمة، و نقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص و النجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة و يرجع إلى ما ألفه
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 233
و اعتاده من العقائد الباطلة و الأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن و أكمل من المثال المذكور في هذه الآية.
المسألة الثانية:
يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق: اذكر لي دليلا على إثبات الصانع فقال: أخبرني عن حرفتك: فقال: أنا رجل أتجر في البحر، فقال: صف لي كيفية حالك فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة و بقيت على لوح واحد من ألواحها، و جاءت الرياح العاصفة، فقال/ جعفر: هل وجدت في قلبك تضرعا و دعاء فقال نعم فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر ينشركم من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى:
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] و الباقون قرءوا يُسَيِّرُكُمْ من التسيير.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقا للَّه تعالى قالوا: دلت هذه الآية على أن سير العباد من اللَّه تعالى، و دل قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ* [الأنعام: 11] على أن سيرهم منهم، و هذا يدل على أن سيرهم منهم و من اللَّه، فيكون كسبيا لهم و خلقا للَّه و نظيره قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ [الأنفال: 5] و قال في آية أخرى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة: 40] و قال في آية أخرى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً [التوبة: 82] ثم قال في آية أخرى وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى [النجم: 43] و قال في آية أخرى وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 7] قال الجبائي: أما كونه تعالى مسيرا لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك و أما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى اللَّه تعالى على التوسع فما كان منه طاعة فبأمره و تسهيله، و ما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه و زاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث إنه تعالى سخر لهم المركب في البر، و سخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير. و قال القفال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ أي هو اللَّه الهادي لكم إلى السير في البر و البحر طلبا للمعاش لكم، و هو المسير لكم، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير هذا جملة ما قيل في الجواب عنه و نحن نقول: لا شك أن المسير في البحر هو اللَّه تعالى، لأن اللَّه تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة، و لا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة فنقول: وجب أيضا أن يكون مسيرا لهم في البر بهذا التفسير، إذ لو كان مسيرا لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات و الأدوات لكان مجازا بهذا الوجه، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة و مجازا دفعة واحدة، و ذلك باطل.
و اعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة و مجازا بالنسبة إلى المعنى الواحد. و أما أبو هاشم فإنه يقول: إن ذلك ممتنع، إلا أنه يقول: لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.
و اعلم أن قول الجبائي: قد أبطلناه في أصول الفقه، و قول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضا بعيد لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله، فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلا.
و اعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر؟
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 234
و الجواب: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا و كذا.
السؤال الثاني: ما جواب إِذا في قوله: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ .
الجواب: هو أن جوابها هو قوله: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ثم قال صاحب «الكشاف»:
و أما قوله: دَعَوُا اللَّهَ فهو بدل من ظَنُّوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك. و قال بعض الأفاضل لو حمل قوله: دَعَوُا اللَّهَ على الاستئناف كان أوضح، كأنه لما قيل: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ قال قائل فما صنعوا؟ فقيل: دَعَوُا اللَّهَ .
السؤال الثالث: ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟
الجواب فيه وجوه: الأول: قال صاحب «الكشاف»: المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها، و يستدعى منهم مزيد الإنكار و التقبيح. الثاني: قال أبو علي الجبائي: إن مخاطبته تعالى لعباده، هي على لسان الرسول عليه الصلاة و السلام، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب و كل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب. الثالث: و هو الذي خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب و الإكرام و أما ضده و هو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدل على المقت و التبعيد.
أما الأول: فكما في سورة الفاتحة، فإن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:
2، 3] كله مقام الغيبة، ثم انتقل منها إلى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] و هذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، و هو يوجب علو الدرجة، و كمال القرب من خدمة رب العالمين.
و أما الثاني: فكما في هذه الآية، لأن قوله: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ خطاب الحضور، و قوله:
وَ جَرَيْنَ بِهِمْ مقام الغيبة، فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، و ذلك يدل على المقت و التبعيد و الطرد، و هو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان اللَّه تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه.
السؤال الرابع: كم القيود المعتبرة في الشرط و القيود المعتبرة في الجزاء؟
الجواب: أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة: أولها: الكون في الفلك، و ثانيها: جرى الفلك بالريح الطيبة، و ثالثها: فرحهم بها. و أما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضا: أولها: قوله: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ و فيه سؤالان:
السؤال الأول: الضمير في قوله: جاءَتْها عائد إلى الفلك و هو ضمير الواحد، و الضمير في قوله:
وَ جَرَيْنَ بِهِمْ عائد إلى الفلك و هو الضمير الجمع، فما السبب فيه؟
الجواب عنه من وجهين: الأول: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله: جاءَتْها عائد إلى الفلك، بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله: وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ الثاني: لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ الْفُلْكِ يصلح للواحد و الجمع، فحسن الضميران.
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 235
السؤال الثاني: ما العاطف؟ الجواب: قال الفراء و الزجاج: يقال ريح عاصف و عاصفة، و قد عصفت عصوفا و أعصفت، فهي معصف و معصفة. قال الفراء: و الألف لغة بني أسد، و معنى عصفت الريح اشتدت، و أصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف و عصوف سريعة، و إنما قيل رِيحٌ عاصِفٌ لأنه يراد ذات عصوف كما قيل: لابن و تامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر.
أما القيد الثاني: فهو قوله: وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ و الموج ما ارتفع من الماء فوق البحر.
أما القيد الثالث: فهو قوله: وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ و المراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك، و أصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد، فقد دنوا من الهلاك.
السؤال الخامس: ما المراد من الإخلاص في قوله: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .
و الجواب: قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك، و لم يشركوا به من آلهتهم شيئا، و أقروا للَّه بالربوبية و الوحدانية. قال الحسن: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ الإخلاص الإيمان، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا اللَّه تعالى، فيكون جاريا مجرى الإيمان الاضطراري. و قال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع اللَّه ما يدعون، فإذا جاء الضر و البلاء لم يدعوا إلا اللَّه و عن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.
السؤال السادس: ما الشيء المشار إليه بقوله هذِهِ في قوله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ .
و الجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة، و قيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد، و هذه الألفاظ و إن لم يسبق ذكرها، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.
السؤال السابع: هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار؟
الجواب: نعم، و التقدير: دعوا اللَّه مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا، و يمكن/ أن يقال:
لا حاجة إلا الإضمار، لأن قوله: دَعَوُا اللَّهَ يصير مفسرا بقوله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.
و اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية و المحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق. قال ابن عباس: يريد به الفساد و التكذيب و الجراءة على اللَّه تعالى، و معنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم. قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي: يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترقى إلى الفساد، و بغت المرأة إذا فجرت، قال الواحدي: أصل هذا اللفظ من الطلب.
فإن قيل: فما معنى قوله: بِغَيْرِ الْحَقِ و البغي لا يكون بحق؟
قلنا: البغي قد يكون بالحق، و هو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة و هدم دورهم و إحراق زروعهم و قطع أشجارهم، كما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و سلم ببني قريظة. ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا و فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الأكثرون متاع برفع العين، و قرأ حفص عن عاصم مَتاعَ بنصب العين، أما الرفع ففيه وجهان: الأول: أن يكون قوله: بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مبتدأ، و قوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا خبرا
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 236
و المراد من قوله: بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ بغي بعضكم على بعض كما في قوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:
54] و معنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا و لا بقاء لها. و الثاني: أن قوله بَغْيُكُمْ مبتدأ، و قوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ خبره، و قوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف، و التقدير: هو متاع الحياة الدنيا. و أما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول: إن قوله: بَغْيُكُمْ مبتدأ، و قوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ خبره، و قوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا في موضع المصدر المؤكد، و التقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
المسألة الثانية: البغي من منكرات المعاصي
قال عليه الصلاة و السلام: «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، و أعجل الشر عقابا البغي و اليمين الفاجرة»
و
روى «ثنتان يعجلهما اللَّه في الدنيا البغي و عقوق الوالدين»
و عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي. و كان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوما على جبل
لاندك منه أعاليه و أسفله
و عن محمد بن كعب القرظي: ثلاث من كن فيه كن عليه، البغي و النكث و المكر، قال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ .
المسألة الثالثة: حاصل الكلام في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة، و هي مدة حياتكم مع قصرها و سرعة انقضائها ثُمَّ إِلَيْنا أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا، و الإنباء هو الإخبار، و هو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.
[سورة يونس (10): آية 24]
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا [يونس: 23] أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض و يغتر بالدنيا، و يشتد تمسكه بها، و يقوى إعراضه عن أمر الآخرة و التأهب لها، فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ و هذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء، و ذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات، و تكون تلك الأنواع مختلطة، و هذا فيما لم يكن نابتا قبل نزول المطر. و الثاني: أن يكون المراد منه الذي نبت، و لكنه لم يترعرع، و لم يهتز و إنما هو في أول بروزه من الأرض و مبدأ حدوثه، فإذا نزل المطر عليه، و اختلط بذلك المطر، أي اتصل كل واحد منهما بالآخرة اهتز ذلك النبات و ربا و حسن، و كمل و اكتسى كمال الرونق و الزينة، و هو المراد من قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ/ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ و ذلك لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون، و تزينت بجميع
مفاتيح الغيب، ج17، ص: 237
الألوان الممكنة في الزينة من حمرة و خضرة و صفرة و ذهبية و بياض، و لا شك أنه متى صار البستان على هذا الوجه، و بهذه الصفة، فإنه يفرح به المالك و يعظم رجاؤه في الانتفاع به، و يصير قلبه مستغرقا فيه، ثم إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة في ليل أو نهار من برد، أو ريح أو سيل، فصارت تلك الأشجار و الزروع باطلة هالكة كأنها ما حصلت ألبتة فلا شك أنه تعظم حسرة مالك ذلك البستان و يشتد حزنه، فكذلك من وضع قلبه على لذات الدنيا و طيباتها، فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه و تلهفه عليها.
و اعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوها لخصها القاضي رحمه اللَّه تعالى.
الوجه الأول: أن عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه و عظمت رغبته فيها يأتيه الموت و هو معنى قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:
44] خاسرون الدنيا، و قد أنفقوا أعمارهم فيها، و خاسرون من الآخرة، مع أنهم متوجهون إليها.
و الوجه الثاني: في التشبيه أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.
و الوجه الثالث: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] فلما صار سعي هذا الزراع باطلا بسبب حدوث الأسباب المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.
و الوجه الرابع: أن مالك ذلك البستان لما عمره بإتعاب النفس و كد الروح، و علق قلبه على الانتفاع به، فإذا حدث ذلك السبب المهلك، و صار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سببا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، و هو ما يحصل له في قلبه من الحسرات فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا و أتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، و فاته كل ما نال، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا، سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
و الوجه الخامس: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد، و ذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية، قد بلغ الغاية في الزينة و الحسن ثم يعرض/ للأرض المتزينة به آفة، فيزول ذلك الحسن بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى فذكر هذا المثال ليدل على أن من قدر على ذلك، كان قادرا على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.
المسألة الثانية: (المثل): قول يشبه به حال الثاني بالأول، و يجوز أن يكون المراد من المثل الصفة و التقدير: إنما صفة الحياة الدنيا. و أما قوله: وَ ازَّيَّنَتْ فقال الزجاج: يعني تزينت فأدغمت التاء في الزاي و سكنت الزاي فاجتلب لها ألف الوصل، و هذا مثل ما ذكرنا في قوله: فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] ادَّارَكُوا [الأعراف: 38].