کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 429
[في قوله تعالى وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ إلى قوله فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ] اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين و رواه ابن جني/ عشا بضم العين و القصر و قال: عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب و قال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا قال: فما فعل يوسف؟ قالوا: ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ فبكى و صاح و قال: أين القميص؟ فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص، و روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية ما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون و هم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق، و اختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج: يسابق بعضهم بعضا في الرمي، و منه
قوله عليه الصلاة و السلام: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر»
يعني بالنصل الرمي، و أصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهما و أبعد غلوة، ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال: استبقا و تسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهما و يدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبد اللَّه إنا ذهبنا ننتضل.
و القول الثاني: في تفسير الاستباق ما قاله السدي و مقاتل: نَسْتَبِقُ نشتد و نعدو ليتبين أينا أسرع عدوا.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا و هم رجال بالغون و هذا من فعل الصبيان؟
قلنا: الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل و كانوا يجربون بذلك أنفسهم و يدربونها على العدو و لأنه كالآلة لهم في محاربة العدو و مدافعة الذئب إذا اختلس الشاة و قوله: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ قيل أكل الذئب يوسف و قيل عرضوا و أرادوا أكل الذئب المتاع، و الوجه هو الأول.
ثم قالوا: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق، بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة و الصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه و لظننت أنا قد كذبنا و الحاصل أنا و إن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا. و قيل: المعنى: إنا و إن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق، لأن المراد من قوله: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق، و إذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك، و قد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3].
ثم قال تعالى: وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما جاءوا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم. قيل: ذبحوا جديا و لطخوا ذلك القميص بدمه. قال القاضي: و لعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيدا لصدقهم، لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص و لا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى، فلما شاهد يعقوب القميص صحيحا علم كذبهم.
المسألة الثانية: قوله: وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي و جاءوا فوق قميصه بدم كما يقال: جاءوا على جمالهم بأحمال.
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 430
المسألة الثالثة: قال أصحاب العربية و هم الفراء و المبرد و الزجاج و ابن الأنباري بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب و لكنه جعل نفسه كذبا للمبالغة قالوا: و المفعول و الفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي مسكوب و درهم ضرب الأمير و ثوب نسج اليمن، و الفاعل كقوله:
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] و رجل عدل و صوم، و نساء نوح و لما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضا بهما فقالوا: للعقل المعقول، و للجلد المجلود، و منه قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم: 6] و قوله: إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: 7] قال الشعبي: قصة يوسف كلها في قميصه، و ذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه و لطخوه بالدم و عرضوه على أبيه، و لما شهد الشاهد قال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف: 26] و لما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيرا، ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام و احتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً .
قال ابن عباس: معناه: بل زينت لكم أنفسكم أمرا. و التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان، و هو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل و غيره.
و أصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز و قال صاحب «الكشاف»: سَوَّلَتْ سهلت من السول و هو الاسترخاء.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: بَلْ رد لقولهم: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ كأنه قال: ليس كما تقولون: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ في شأنه أَمْراً أي زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون، و اختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه: الأول: أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. و الثاني:
أنه كان عالما بأنه حي لأنه عليه الصلاة و السلام قال ليوسف: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ [يوسف: 6] و ذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك.
القول الثالث: قال سعيد بن جبير: لما جاءوا على قميصه بدم كذب، و ما كان متخرقا، قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، و
عن السدي أنه قال: إن يعقوب عليه السلام قال: إن هذا الذئب كان رحيما، فكيف أكل لحمه و لم يخرق قميصه؟
و قيل: إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوص، فقال كيف قتلوه و تركوا قميصه و هم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم. ثم قال يعقوب عليه السلام: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ و فيه مسائل:
المسألة الأولى: منهم من قال: إنه مرفوع بالابتداء، و خبره محذوف، و التقدير: فصبر جميل أولى من الجزع، و منهم من أضمر المبتدأ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. و قال قطرب: معناه: فصبري صبر جميل. و قال الفراء: فهو صبر جميل.
المسألة الثانية: كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه و كان يرفعهما بخرقة، فقيل له: ما هذا؟ فقال طول الزمان و كثرة الأحزان: فأوحى اللَّه تعالى إليه يا يعقوب أ تشكوني؟ فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. و روي عن عائشة رضي اللَّه عنها في قصة الإفك أنها قالت: و اللَّه لئن حلفت لا تصدقوني و إن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي و مثلكم كمثل يعقوب و ولده فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فأنزل اللَّه عز و جل في عذرها ما أنزل.
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 431
المسألة الثالثة:
عن الحسن أنه سئل النبي صلى اللَّه عليه و سلم عن قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقال: «صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر»
و يدل عليه من القرآن قوله تعالى: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] و قال مجاهد:
فصبر جميل، أي من غير جزع، و قال الثوري: من الصبر أن لا تحدث بوجعك و لا بمصيبتك، و لا تزكي نفسك، و هاهنا بحث و هو أن الصبر على قضاء اللَّه تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين، و مكر الماكرين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، و هاهنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم و خيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك؟ و لم لم يبالغ في التفتيش و البحث سعيا منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية و الشدة إن كان في الأحياء و في إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه، فثبت أن الصبر في المقام مذموم.
و مما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة و السلام كان عالما بأنه حي سليم لأنه قال له: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: 6] و الظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي و إذا كان عالما بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه. و أيضا إن يعقوب عليه السلام كان رجلا عظيم القدر في نفسه، و كان من بيت عظيم شريف، و أهل العلم كانوا يعرفونه و يعتقدون فيه و يعظمونه فلو بالغ في الطلب و التفحص لظهر ذلك و اشتهر و لزال وجه التلبيس فما السبب في أنه/ عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام، و نهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات، فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلا و شرعا.
و الجواب عنه: أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه و تعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، و تغليظا للأمر عليه، و أيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء و أنهم لا يمكنونه من الطلب و التفحص، و أنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه و قتله، و أيضا لعله عليه السلام علم أن اللَّه تعالى يصون يوسف عن البلاء و المحنة و أن أمره سيعظم بالآخرة، ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده و ما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس و ذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم و إن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر و السكوت و تفويض الأمر إلى اللَّه تعالى بالكلية.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلا و ما قد يكون غير جميل، فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو اللَّه تعالى، ثم يعلم أن اللَّه سبحانه مالك الملك و لا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا له من إظهار الشكاية.
و الوجه الثاني: أنه يعلم أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، و عالم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، و إذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة و صوابا، فعند ذلك يسكت و لا يعترض.
و الوجه الثالث: أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء و لذلك قيل: المحبة التامة لا تزداد بالوفاء و لا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 432
بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب و الحظ و موصل النصيب لا يكون محبوبا بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل. أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض، فذلك الصبر لا يكون جميلا، و الضابط في جميع الأفعال و الأقوال و الاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية اللَّه تعالى كان حسنا و إلا فلا، و هاهنا يظهر صدق ما
روي في الأثر «استفت قلبك، و لو أفتاك المفتون»
فليتأمل الرجل تأملا شافيا، أن الذي أتى به هل الحاصل و الباعث عليه طلب العبودية أم لا؟ فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة. و لما ذكر يعقوب قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال: وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى/ ما تَصِفُونَ و المعنى: أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة اللَّه تعالى، لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع و هي قوية و الدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر و الرضا، فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إعانة اللَّه تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] و قوله: وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يجري مجرى قوله: وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5].
[سورة يوسف (12): الآيات 19 الى 20]
[في قوله تعالى وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ ] اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة، فقال: وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ يعني رفقة تسير للسفر. قال ابن عباس: جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطئوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام، و كان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة، و قيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلا يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء، و الوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم فَأَدْلى دَلْوَهُ و نقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر و دلاها إذا نزعها من البئر يقال: أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل و دلا يدلو دلوا إذا جذب و أخرج، و الدلو معروف، و الجمع دلاء قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ و هاهنا محذوف، و التقدير: فظهر يوسف قال المفسرون: لما أدلى الوارد دلوه و كان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه و رأى حسنه نادى، فقال: يا بشرى. و فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بُشْرى بغير الألف و بسكون الياء، و الباقون يا بشراي بالألف و فتح الياء على الإضافة.
المسألة الثانية: في قوله: يا بُشْرى قولان:
القول الأول: أنها كلمة تذكر عند البشارة و نظيره قولهم: يا عجبا من كذا و قوله: يا أَسَفى/ عَلى يُوسُفَ و على هذا القول ففي تفسير النداء وجهان: الأول: قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين و توكيد القصة فإذا قلت: يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا. الثاني: قال أبو علي: كأنه
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 433
يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك، و لو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن و لأمرت بالحضور.
و اعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاما في غاية الحسن و قالوا: نبيعه بثمن عظيم و يصير ذلك سببا لحصول الغنى.
و القول الثاني: و هو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه و كان اسمه، فقال يا بشرى كما تقول يا زيد. و عن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى يا بُشْرى قال أبو علي الفارسي: إن جعلنا البشرى اسما للبشارة، و هو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل: يا رجل لاختصاصه بالنداء، و جاز أن يكون في موضع النصب على تقدير: أنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى، و لم يخص كما تقول: يا رجلا و يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30].
و أما قوله تعالى: وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في وَ أَسَرُّوهُ إلى من يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الوارد و أصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب، و ذلك لأنهم قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه، و إن قلنا اشتريناه: سألونا الشركة، فالأصوب أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.
و الثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: وَ أَسَرُّوهُ يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه، و المعنى: أنهم أخفوا كونه أخا لهم، بل قالوا: إنه عبد لنا أبق منا و تابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية، و الأول أولى لأن قوله: وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة، و ذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
المسألة الثانية: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته. قال الزجاج:
و بضاعة منصوبة على الحال كأنه قال: و أسروه حال ما جعلوه بضاعة.
ثم قال تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ و المراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب و الشمس و القمر في النوم سجدت له و ذكر ذلك حسده إخوته عليه و احتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود، و أنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سببا إلى وصوله إلى مصر، ثم تمادت وقائعه و تتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر و حصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره/ اللَّه تعالى سببا لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ .
ثم قال تعالى: وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ أما قوله: وَ شَرَوْهُ ففيه قولان:
القول الأول: المراد من الشراء هو البيع، و على هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان:
القول الأول: قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب و رجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب و رأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، و المراد من قوله: وَ شَرَوْهُ أي باعوه يقال: شريت الشيء إذا بعته، و إنما وجب حمل هذا الشراء على البيع، لأن الضمير في قوله: وَ شَرَوْهُ و في قوله: وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ عائد إلى شيء و احد لكن الضمير في قوله: وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ عائد إلى الإخوة فكذا في
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 434
قوله: وَ شَرَوْهُ يجب أن يكون عائدا إلى الإخوة، و إذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع.
و القول الثاني: أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر، و قال محمد بن إسحاق: ربك أعلم أ إخوته باعوه أم السيارة، و هاهنا قول آخر و هو أنه يحتمل أن يقال: المراد من الشراء نفس الشراء، و المعنى أن القوم اشتروه و كانوا فيه من الزاهدين، لأنهم علموا بقرائن الحال إن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا و ربما عرفوا أيضا أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفا من اللَّه تعالى، و من ظهور تلك الواقعة، إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين، و غرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن، و يحتمل أيضا أن يقال إن الأخوة لما قالوا: إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه. قال مجاهد: و كانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق.
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث.
الصفة الأولى: كونه بخسا. قال ابن عباس: يريد حراما لأن ثمن الحر حرام، و قال كل بخس في كتاب اللَّه نقصان إلا هذا فإنه حرام، قال الواحدي سموا الحرام بخسا لأنه ناقص البركة، و قال قتادة: بخس ظلم و الظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه، و قال عكرمة و الشعبي قليل و قيل: ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا، و قيل كانت الدراهم زيوفا ناقصة العيار. قال الواحدي رحمه اللَّه تعالى: و على الأقوال كلها، فالبخس مصدر وضع موضع الاسم، و المعنى بثمن مبخوس.
الصفة الثانية: قوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ قيل تعد عدا و لا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية، و هي الأربعون و يعدون ما دونها فقيل للقليل معدود، لأن الكثيرة يمتنع من عدها/ لكثرتها، و عن ابن عباس كانت عشرين درهما، و عن السدي اثنين و عشرين درهما. قالوا و الإخوة كانوا أحد عشر فكل و احد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئا.
الصفة الثالثة: قوله: وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ و معنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه و أصله القلة. يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، و فيه وجوه: أحدها: أن إخوة يوسف باعوه، لأنهم كانوا فيه من الزاهدين. و الثاني: أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين، لأنهم التقطوه و الملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان. و الثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين، و قد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم، و الضمير في قوله: فِيهِ يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام، و يحتمل أن يكون عائدا إلى الثمن البخس و اللَّه أعلم.
[سورة يوسف (12): آية 21]
و فيه مسائل:
مفاتيح الغيب، ج18، ص: 435
المسألة الأولى: اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر و باعه هناك. و قيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير و هو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر و الملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، و قد آمن بيوسف و مات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى و اشتراه العزيز و هو ابن سبع عشرة سنة و أقام في منزله ثلاث عشرة سنة و استوزره ريان بن الوليد و هو ابن ثلاثين سنة و آتاه اللَّه الملك و الحكمة و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة و توفي و هو ابن مائة و عشرين سنة. و قيل كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 34] و قيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، و قيل اشتراه/ العزيز بعشرين دينارا، و قيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك و الورق و الحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن. و قالوا: اسم تلك المرأة زليخا، و قيل راعيل.
و اعلم أن شيئا من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن، و لم يثبت أيضا في خبر صحيح و تفسير كتاب اللَّه تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها.
المسألة الثانية: قوله: أَكْرِمِي مَثْواهُ [إلى آخر الآية] أي منزله و مقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به، و مصدره الثواء و المعنى: اجعلي منزله عندك كريما حسنا مرضيا بدليل قوله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] و قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه، يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال و التعظيم و هو كما يقال: سلام اللَّه على المجلس العالي، و لما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نتخذه و لدا، لأنه كان لا يولد له و لد، و كان حصورا.
ثم قال تعالى: وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز، حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكنا من الأمر و النهي في أرض مصر.
و اعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة و العلم و أنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين، أما تكميله في صفة القدرة و المكنة فإليه الإشارة بقوله: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ و أما تكميله في صفة العلم، فإليه الإشارة بقوله: وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ و قد تقدم تفسير هذه الكلمة.