کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 127
التسلسل و هو محال، و إلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق اللّه تعالى، و ذلك هو الذي قلناه: أن المراد من قوله: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ و المعنى: نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به، و هو أنه تعالى يخلق الكفر و الضلال فيها، و أيضا قدماء المفسرين مثل ابن عباس و تلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر و الضلال فيها، و التأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين، فكان مردودا، و روى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين، ثم قال القاضي: إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره و يعاند، فلا يصح إضافته إلى اللّه تعالى، فيقال للقاضي: إن هذا يجري مجرى المكابرة، و ذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول و نبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه و اصفر وجهه، و ربما ارتعدت أعضاؤه و لا يقدر على الالتفات إليه و الإصغاء لقوله، فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه، فكيف يقال: إنها حصلت بفعله و اختياره؟
فإن قالوا: إنه يمكنه ترك هذه الأحوال، و الرجوع إلى الانقياد و القبول فنقول هذا مغالطة محضة، لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب، و النبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الانقياد و القبول و الطاعة و الرضا فهذا مكابرة، و إن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول و التسليم فهذا حق، إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي و الصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي و الصوارف إلى دواعي سابقة عليها و لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له و ذلك محال، و إن كان الفاعل لها هو اللّه تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي و الصوارف في القلوب و ذلك عين ما ذكرناه و اللّه أعلم.
أما قوله تعالى: وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ففيه قولان: الأول: أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة اللّه بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية. الثاني: و هو قول الزجاج: و قد/ مضت سنة اللّه في الأولين بأن يسلك الكفر و الضلال في قلوبهم، و هذا أليق بظاهر اللفظ.
[سورة الحجر (15): الآيات 14 الى 15]
[في قوله تعالى وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ] اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] و الحاصل: أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولا من عند اللّه تعالى بين اللّه تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر و هؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم. و الحاصل: أنه لما علم اللّه تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم.
فإن قيل: كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح، و لو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة، و لا يبقى حينئذ اعتماد على الحس و المشاهدة.
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 128
أجاب القاضي عنه: بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون، و إنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول، و قد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد و المكابرة، ثم سأل نفسه و قال: أ فيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات. و أجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم، و أيضا فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين، سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و سلم إنزال الملائكة، و هذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم، و كانوا قليلي العدد، و إقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز.
المسألة الثانية: قوله تعالى: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال: ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار و لا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار، كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل، و المصدر الظلول، و قوله: فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال: عرج يعرج عروجا، و منه المعارج، و هي المصاعد التي يصعد فيها، و للمفسرين في هذه الآية قولان:
القول الأول: أن قوله: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ من صفة المشركين. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج و ينظرون إلى ملكوت اللّه تعالى و قدرته و سلطانه، و إلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية و بقوا مصرين على كفرهم و جهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر و ما خص به النبي صلّى اللّه عليه و سلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن و الإنس أن يأتوا بمثله.
القول الثاني: أن هذه العروج للملائكة، و المعنى: أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبوابا من السماء مفتوحة و تصعد منها الملائكة و تنزل لصرفوا ذلك عن وجهه، و لقالوا: إن السحرة سحرونا و جعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها و قوله: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير سُكِّرَتْ بالتخفيف، و الباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت و سددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا: و أصله من السكر و هو سد الشق لئلا ينفجر الماء، فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري، و التشديد يوجب زيادة و تكثيرا و قال أبو عمرو بن العلاء: هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت و وقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى، و قال أبو عبيدة:
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها و بطلانها، و على هذا القول أصله من السكون يقال:
سكرت الريح سكرا إذا سكنت و سكر الحر يسكر و ليلة ساكرة لا ريح فيها و قال أوس:
جذلت على ليلة ساهرة
فليست بطلق و لا ساكره
و يقال: سكرت عينه سكرا إذا تحيرت و سكنت عن النظر و على هذا معنى سكرت أبصارنا، أي سكنت عن النظر و هذا القول اختيار الزجاج. و قال أبو علي الفارسي: سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها و لا تدرك الأشياء على حقائقها، و كان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري، فمن ذلك تسكير الماء و هو رده عن سننه في الجرية، و السكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 129
حد نفاذه في الصحو، فهذه أقوال أربعة في تفسير سُكِّرَتْ و هي في الحقيقة متقاربة، و اللّه أعلم.
المسألة الثانية: قال الجبائي: من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء و الرسل، و ذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل/ هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد اللّه ليس هو ذلك الرجل و إنما هو شيطان، و لعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر، و إذا حصل هذا التجويز بطل الكل. و اللّه أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 16 الى 18]
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة، و كان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. و لما كانت دلائل التوحيد منها سماوية، و منها أرضية، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية، فقال: وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ قال الليث: البرج واحد من بروج الفلك، و البروج جمع و هي اثنا عشر برجا، و نظيره قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61] و قال: وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1] و وجه دلالتها على وجود الصانع المختار، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام، و إذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية و الأبعاض المختلفة في الحقيقة، و كل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء و الأبعاض بحسب الاختيار و الحكمة، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار، و هو المطلوب، و أما قوله: وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ* وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] فلا نعيد هاهنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله:
وَ زَيَّنَّاها أي بالشمس و القمر و النجوم لِلنَّاظِرِينَ أي للمعتبرين بها و المستدلين بها على توحيد صانعها و قوله: وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ .
فإن قيل: ما معنى و حفظناها من كل شيطان رجيم، و الشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه.
قلنا: لما منعه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ اللّه السماء منهم كما قد/ يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول: معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتل رجم تشبيها له بالرجم بالحجارة، و الرجم أيضا السب و الشتم لأنه رمي بالقول القبيح و منه قوله: لَأَرْجُمَنَّكَ أي لأسبنك، و الرجم اسم لكل ما يرمى به، و منه قوله: وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] أي مرامي لهم، و الرجم القول بالظن، و منه قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: 22] لأنه يرميه بذلك الظن و الرجم أيضا اللعن و الطرد، و قوله الشيطان الرجيم، قد فسروه بكل هذه الوجوه. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: كانت الشياطين، لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها و يسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة،
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 130
فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات، فلما ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب. و قوله: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة (إلا) هاهنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، و إنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه: لكن من استرق السمع. قال الزجاج: موضع (من) نصب على هذا التقدير. قال: و جائز أن يكون في موضع خفض، و التقدير: إلا ممن. قال ابن عباس: في قوله: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يريد الخطفة اليسيرة، و ذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه و لا يقتله، و منهم من يحيله فيصير غولا يضل الناس في البراري. و قوله: فَأَتْبَعَهُ ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الأعراف: 175] معناه لحقه، و الشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شهابا، و السنان شهابا لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار.
و اعلم أن في هذا الموضع أبحاثا دقيقة ذكرناها في سورة الملك و في سورة الجن، و نذكر منها هاهنا إشكالا واحدا، و هو أن لقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السموات و يختلط بالملائكة و يسمع أخبار الغيوب عنهم، ثم إنها تنزل و تلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا لأن كل غيب يخبر عنه الرسول صلّى اللّه عليه و سلم قام فيه هذا الاحتمال و حينئذ يخرج عن كونه معجزا دليلا على الصدق، لا يقال إن اللّه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلّى اللّه عليه و سلم لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولا و كون القرآن حقا، و القطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، و كون الإخبار عن الغيب معجزا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال و حينئذ يلزم الدور و هو باطل محال، و يمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد صلّى اللّه عليه و سلم/ رسولا بسائر المعجزات، ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن اللّه تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق، و عند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز، و بهذا الطريق يندفع الدور. و اللّه أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 19 الى 20]
اعلم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية، و هي أنواع:
النوع الأول: قوله تعالى: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء، و فيه احتمال آخر، و ذلك لأن الأرض جسم، و الجسم هو الذي يكون ممتدا في الجهات الثلاثة، و هي الطول و العرض و الثخن، و إذا كان كذلك، فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهيا و إذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصا بمقدار معين مع أن الإزدياد عليه معقول، و الانتقاص عنه أيضا معقول، و إذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد و الأنقص اختصاصا بأمر جائز و ذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص و تقدير مقدر، و هو اللّه سبحانه و تعالى.
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 131
فإن قيل: هل يدل قوله: وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها على أنها بسيطة؟
قلنا: نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة، فهي كرة في غاية العظمة، و الكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها، إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي، و إذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال، و الدليل عليه قوله تعالى: وَ الْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: 7] سماها أوتادا مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا هاهنا.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ و هي الجبال الثوابت، واحدها راسي، و الجمع راسية، و جمع الجمع رواسي، و هو كقوله تعالى: وَ أَلْقى/ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ* [النحل: 15] و في تفسيره وجهان:
الوجه الأول: قال ابن عباس: لما بسط اللّه تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها اللّه تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها.
فإن قيل: أ تقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن اللّه خلق الأرض و الجبال معا.
قلنا: كلا الوجهين محتمل.
و الوجه الثاني: في تفسير قوله: وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض و نواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة و لا يقعون في الضلال و هذا الوجه ظاهر الاحتمال.
النوع الثالث: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ و فيه بحثان:
البحث الأول: أن الضمير في قوله: وَ أَنْبَتْنا فِيها يحتمل أن يكون راجعا إلى الأرض و أن يكون راجعا إلى الجبال الرواسي، إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي، فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع، و منهم من قال: رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى، لأن المعادن إنما تتولد في الجبال، و الأشياء الموزونة في العرف و العادة هي المعادن لا النبات.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بالموزون و فيه وجوه:
الوجه الأول: أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة. قال القاضي: و هذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس و ينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار، و لذلك أتبعه بقوله:
وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين: الأول: بحسب الأكل و الانتفاع بعينه. و الثاني: أن ينتفع بالتجارة فيه، و القائلون بهذا القول قالوا: الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا: و يتأكد ذلك أيضا بقوله تعالى: وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: 8] و قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 132
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21].
و الوجه الثاني: في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب و اللّه تعالى إنما يخلق المعادن و النبات و الحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم، فلا بد و أن يحصل من الأرض قدر مخصوص/ و من الماء و الهواء كذلك، و من تأثير الشمس و الكواكب في الحر و البرد مقدار مخصوص، و لو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن و النبات و الحيوان فاللّه سبحانه و تعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته و علمه و حكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع.
و الوجه الثالث: في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون: فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة، و هذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسبا حسنا بعيدا عن اللغو و السخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة و العقل، و بالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن و التناسب، فقوله:
وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن و اللطافة و مطابقة المصلحة.
و الوجه الرابع: في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان: المعادن و النبات: أما المعادن فهي بأسرها موزونة و هي الأجساد السبعة و الأحجار و الأملاح و الزاجات و غيرها. و أما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن، لأن الحبوب توزن، و كذلك الفواكه في الأكثر و اللّه أعلم. و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ فيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف و قوله: وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ فيه قولان:
القول الأول: أنه معطوف على محل لكم، و التقدير: و جعلنا لكم فيها معايش و من لستم له برازقين.
و القول الثاني: أنه عطف على قوله: مَعايِشَ و التقدير: و جعلنا لكم معايش و من لستم له برازقين، و على هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن كلمة «من» مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله: وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ العقلاء و هم العيال و المماليك و الخدم و العبيد، و تقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال و الخدم و العبيد، و ذلك خطأ فإن اللّه هو الرزاق يرزق الخادم و المخدوم، و المملوك و المالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة و الأشربة، و أعطى القوة الغاذية و الهاضمة، و إلا لم يحصل لأحد رزق.
و الاحتمال الثاني: و هو قول الكلبي قال: المراد بقوله: وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الوحش و الطير.
فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل؟
قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء، و الدليل عليه/ قوله تعالى: وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: 45]. و الثاني: أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقا على اللّه حيث قال: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي
مفاتيح الغيب، ج19، ص: 133
الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها [هود: 6] فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل، ألا ترى أنه قال: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النحل: 18] فذكرها بصيغة جمع العقلاء، و قال في الأصنام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] و قال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ* [الأنبياء: 33] فكذا هاهنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش و الطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة و سمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية و الجبال و اشتد الحر في عام من الأعوام فحكي عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعا رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال: فرأيت الغيوم قد أقبلت و أمطرت بحيث امتلأت الأودية منها.
و الاحتمال الثالث: أنا نحمل قوله: وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ على الإماء و العبيد، و على الوحش و الطير، و إنما أطلق عليها صيغة من تغليبا لجانب العقلاء على غيرهم.
المسألة الثانية: قوله: وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لا يجوز أن يكون مجرورا عطفا على الضمير المجرور في لكم، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، لا يقال أخذت منك و زيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7].
و اعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ: تسائلون به و الأرحام [النساء: 1] بالخفض و قد ذكرنا هذه المسألة هنالك. و اللّه أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 21 الى 22]
[في قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ] اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون و جعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ .
و هذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد، و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه اللّه: الخزائن جمع الخزانة، و هو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ و الخزانة أيضا عمل الخازن، و يقال: خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة، و عامة المفسرين على أن المراد بقوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ هو المطر، و ذلك لأنه هو السبب للأرزاق و لمعايش بني آدم و غيرهم من الطيور و الوحوش، فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده، أي في أمره و حكمه و تدبيره، و قوله: وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قال ابن عباس رحمهما اللّه:
يريد قدر الكفاية، و قال الحكم: ما من عام بأكثر مطرا من عام آخر، و لكنه يمطر قوم و يحرم قوم آخرون، و ربما كان في البحر، يعني أن اللّه تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء.