کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 418
في الآية سؤالان. السؤال الأول: لم قال: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً و لم يقل يسجدون؟ و الجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون. السؤال الثاني: لم قال: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ و لم يقل على الأذقان و الجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن و اللّه أعلم. ثم قال تعالى:
وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا و المعنى أنهم يقولون في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا أي ينزهونه و يعظمونه: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي بإنزال القرآن و بعث محمد و هذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال: وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ و الفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين و هما خرورهم للسجود و في حال كونهم باكين عند استماع القرآن و يدل عليه قوله: وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً و يجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم و قوله: يَبْكُونَ معناه الحال: وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي تواضعا و اعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم و الازدراء بشأنهم و عدم الاكتراث بهم و بإيمانهم و امتناعهم منه و أنهم و إن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 110 الى 111]
[في قوله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ] قال صاحب «الكشاف» المراد بهما الاسم لا المسمى و «أو» للتخيير و معنى: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموا بهذا الاسم أو بهذا و اذكروا إما هذا و إما هذا و التنوين في أَيًّا عوض عن المضاف إليه و ما صلة للإبهام المؤكد لما في أي و التقدير أي هذين الاسمين سميتم و ذكرتم فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و الضمير في قوله: فَلَهُ ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين و لكن إلى مسماهما و هو ذاته عز و علا و المعنى: أيا ما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الاسمان لأنه منها و معنى حسن أسماء اللّه كونها مفيدة لمعاني التحميد و التقديس و قد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] و احتج الجبائي بهذه الآية فقال: لو كان تعالى هو الخالق للظلم و الجور لصح أن يقال يا ظالم و حينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة. و الجواب: أنا لا نسلم أنه لو كان خالقا لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم و جائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقا للحركة و السكون و السواد و البياض أن يقال يا متحرك و يا ساكن و يا أسود و يا أبيض «1» فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم و الجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات و الديدان و الخنافس و كما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر و لكن الأدب أن يقال يا خالق السموات و الأرض فكذا قولنا هنا، ثم قال تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها و فيه مباحث:
البحث الأول: قوله: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيه أقوال. الأول:
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في
(1) يقتضي القياس في الرد على الجبائي أن يقول: يا محرك و يا مسكن و يا مسود و يا مبيض و هذه الأسماء و إن صلحت أسماء للّه إلا أن الحق أن أسماء اللّه توقيفية و هي تسعة و تسعون كلها في القرآن فلا ينبغي أن يسمى بغيرها. (الصاوي).
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 419
هذه الآية قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه و سبوا من جاء به فأوحى اللّه تعالى إليه: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيسبوا اللّه عدوا بغير علم: وَ لا تُخافِتْ بِها فلا تسمع أصحابك و ابتغ بين ذلك سبيلا.
و القول الثاني:
روى أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم طاف بالليل على دور الصحابة، و كان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته و كان عمر يرفع صوته، فلما جاء النهار و جاء أبو بكر و عمر فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لأبي بكر لم تخفي صوتك؟ فقال أناجي ربي، و قد علم حاجتي و قال لعمر لم ترفع صوتك؟ فقال أزجر الشيطان و أوقظ الوسنان فأمر النبي صلّى اللّه عليه و سلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا و عمر أن يخفض صوته قليلا.
القول الثالث: معناه:
و لا تجهر بصلاتك كلها و لا تخافت بها كلها و ابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل/ و تخافت بصلاة النهار. و القول الرابع: أن المراد بالصلاة الدعاء و هذا قول عائشة رضي اللّه عنها و أبي هريرة و مجاهد قالت عائشة رضي اللّه عنها هي في الدعاء و
روى هذا مرفوعا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء و المسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه و المبالغة في الإسرار غير جائزة و المستحب من ذلك التوسط و هو أن يسمع نفسه
كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه. و القول الخامس: قال الحسن لا تراه بعلانيتها و لا تسيء بسريتها.
البحث الثاني: الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال و الأذكار و الجهر و المخافتة من عوارض الصوت، فالمراد هاهنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة و هو الأذكار و القرآن و هو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء.
البحث الثالث: يقال خفت صوته يخفف خفتا و خفوتا إذا ضعف و سكن و صوت خفيف أي خفيض و منه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه و خفت الزرع إذا ذبل و خفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت و قد تخافت القوم إذا تساروا بينهم و أقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم و العدل هو رعاية الوسط و لهذا المعنى مدح اللّه هذه الأمة بقوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] و قال في مدح المؤمنين: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان: 67] و أمر اللّه رسوله فقال: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] فكذا هاهنا نهى عن الطرفين و هو الجهر و المخافتة و أمر بالتوسط بينهما فقال: وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا و منهم من قال الآية منسوخة بقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً [الأعراف: 55] و هو بعيد و اعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر و لا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً فذكر هاهنا من صفات التنزيه و الجلال و هي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات. النوع الأول: من الصفات أنه لم يتخذ ولدا و السبب فيه وجوه. الأول: أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء و المركب محدث و المحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني: أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده. الثالث: أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه و فنائه فلو كان له ولد لكان منقضيا و من كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. و النوع الثاني: من الصفات السلبية قوله: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ و السبب في
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 420
اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقا للحمد و الشكر. و النوع الثالث: قوله:
وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ و السبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله/ على ذلك الإنعام أو منعه منه، أما إذا كان منزها عن الولد و عن الشريك و كان منزها عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد و مستحقا لأجل أقسام الشكر ثم قال تعالى: وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً و معناه أن التحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير و يحتمل أنواعا من المعاني. أولها: تكبيره في ذاته و هو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته و أنه غني عن كل ما سواه. و ثانيها: تكبيره في صفاته و ذلك من ثلاثة أوجه. أولها: أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال و العز و العظمة و الكمال و هو منزه عن كل صفات النقائص. و ثالثها: أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات و قدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات و الممكنات. و رابعها: أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث و تنزهت عن التغير و الزوال و التحول و الانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير و الزوال و التحول و الانتقال. النوع الثالث: من تكبير اللّه تكبيره في أفعاله و عند هذا تختلف أهل الجبر و القدر فقال أهل السنة إنا نحمد اللّه و نكبره و نعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه و إرادته فالكل واقع بقضاء اللّه و قدرته و مشيئته و إرادته، و قالت المعتزلة إنا نكبر اللّه و نعظمه عن أن يكون فاعلا لهذه القبائح و الفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه و التقديس عنها و عن إرادتها و سمعت أن الأستاد أبا إسحاق الإسفراييني كان جالسا في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء «1» . النوع الرابع: تكبير اللّه في أحكامه و هو أن يعتقد أنه ملك مطاع و له الأمر و النهي و الرفع و الخفض و أنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء و يذل من يشاء. النوع الخامس: تكبير اللّه في أسمائه و هو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى و لا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة. النوع السادس: من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير و التعظيم و التنزيه و التقديس مقدار عقله و فهمه و خاطره يعترف أن عقله و فهمه لا يفي بمعرفة جلال اللّه، و لسانه لا يفي بشكره، و جوارحه و أعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر اللّه عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده و عزته.
و هذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير و التعظيم و نسأل اللّه تعالى الرحمة قبل الموت و عند الموت و بعد الموت إنه الكريم الرحيم و باللّه العصمة و التوفيق و حسبنا اللّه و نعم الوكيل.
قال المصنف رحمه اللّه تعالى: «تم تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء بين الظهر و العصر يوم العشرين من شهر المحرم في بلدة غزنين سنة إحدى و ستمائة و الحمد للّه و الصلاة على نبيه محمد و آله و صحبه و سلم تسليما».
(1) لهذه المحاورة تتمة و هي أن القاضي عبد الجبار رد عليه بقوله: أ يريد ربك أن يعصى؟ فحجه أو إسحاق بقوله: أ يعصى ربك كرها عنه؟ و الاسفرائيني من أهل السنة و عبد الجبار من المعتزلة.
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 421
سورة الكهف
مائة و إحدى عشرة آية مكية بسم اللّه الرّحمن الرّحيم/ قال ابن عباس إنها مكية غير آيتين منها فيهما ذكر عيينة بن حصن الفزاري و عن قتادة أنها مكية و
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت؟ هي سورة الكهف».
[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما الكلام في حقائق قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فقد سبق، و الذي أقوله هاهنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدما على التحميد، ألا ترى أنه يقال: سبحان اللّه و الحمد للّه إذا عرفت هذا فنقول: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عند ما أخبر أنه أسرى بمحمد صلّى اللّه عليه و سلم فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] و ذكر التحميد عند ما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد صلّى اللّه عليه و سلم فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ و فيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه اللّه عما لا ينبغي و هو إشارة إلى كونه كاملا في ذاته و التحميد عبارة عن كونه مكملا لغيره، و لا شك أن أول الأمر هو كونه كاملا في ذاته و نهاية الأمر كونه مكملا لغيره فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا (سبحان الله) ثم ذكر بعده الْحَمْدُ لِلَّهِ تنبيها على أن مقام التسبيح مبدأ و مقام التحميد نهاية. إذا عرفت هذا فنقول: ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح و عند إنزال الكتاب لفظ التحميد و هذا تنبيه على أن الإسراء به/ أول درجات كماله و إنزال الكتاب غاية درجات كماله، و الأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له، و إنزال الكتاب عليه يقتضي كونه مكملا للأرواح البشرية و ناقلا لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية، و لا شك أن هذا الثاني أكمل. و هذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاما أن يصير [العبد] عالما في ذاته معلما لغيره و لهذا
روي في الخبر أنه عليه الصلاة و السلام قال: «من تعلم و علم فذاك يدعى عظيما في السموات».
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 422
الفائدة الثانية: أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق و إنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت، و لا شك أن هذا الثاني أكمل.
الفائدة الثالثة: أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه أ لا ترى أنه تعالى قال هنالك: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء: 1] و منافع إنزال الكتاب عليه متعدية، ألا ترى أنه قال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ و الفوائد المتعدية أفضل من القاصرة.
المسألة الثانية: المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة و بلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق. و الجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ* [الأعراف: 54].
المسألة الثالثة: إنزال الكتاب نعمة عليه و نعمة علينا، أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد و التنزيه و صفات الجلال و الإكرام و أسرار أحوال الملائكة و الأنبياء و أحوال القضاء و القدر، و تعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي، و تعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، و كيفية نزول القضاء من عالم الغيب، و كيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، و تصير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت و ينكشف فيها قدس اللاهوت فلا شك أن ذلك من أعظم النعم، و أما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف و الأحكام و الوعد و الوعيد و الثواب و العقاب، و بالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته و فهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول و على جميع أمته أن يحمدوا اللّه عليه فعلمهم اللّه تعالى كيفية ذلك التحميد فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً و فيه أبحاث:
البحث الأول: أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملا في ذاته ثم يكون مكملا لغيره و يجب أن يكون تاما في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير «1» إذا عرفت هذا فنقول في قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً إشارة إلى كونه كاملا في ذاته و قوله: قَيِّماً إشارة إلى كونه مكملا لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير و نظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب: لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فقوله: لا رَيْبَ فِيهِ إشارة إلى كونه في نفسه بالغا في الصحة و عدم/ الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه و قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إشارة إلى كونه سببا لهداية الخلق و إكمال حالهم فقوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قائم مقام قوله: لا رَيْبَ فِيهِ و قوله: قَيِّماً قائم مقام قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و هذه أسرار لطيفة.
البحث الثاني: قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، و المراد منه وجوه: أحدها: نفي التناقض عن آياته كما قال: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]. و ثانيها: أن كل ما ذكر اللّه من التوحيد و النبوة و الأحكام و التكاليف فهو حق و صدق و لا خلل في شيء منها ألبتة. و ثالثها:
(1) يظهر أنه وقع في العبارة تحريف و لعل الصواب أن يقال: بأن يفيض على غيره الكمال. و هذا نظير قوله فيما سبق في نفس هذا البحث: ثم يكون مكملا لغيره «الصاوي».
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 423
أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجها إلى عالم الآخرة و إلى حضرة جلال اللّه و هذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى إن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجها إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة و من الجسمانيات إلى الروحانيات و من الخلق إلى الحق و من اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج و الانحراف و الباطل فلهذا قال تعالى: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً . الصفة الثانية: للكتاب و هي قوله: قَيِّماً قال ابن عباس يريد مستقيما و هذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الاعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار و أنه باطل، بل الحق ما ذكرناه و أن المراد من كونه: قَيِّماً أنه سبب لهداية الخلق و أنه يجري مجرى من يكون قيما للأطفال، فالأرواح البشرية كالأطفال، و القرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم.
البحث الثالث: قال الواحدي جميع أهل اللغة و التفسير قالوا هذا من التقديم و التأخير و التقدير: أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا. و أقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يدل على كونه كاملا في ذاته، و قوله: قَيِّماً يدل على كونه مكملا لغيره و كونه كاملا في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملا لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره اللّه تعالى و هو قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً فظهر أن ما ذكروه من التقديم و التأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه.
البحث الرابع: اختلف النحويون في انتصاب قوله: قَيِّماً و ذكروا فيه وجوها. الأول: قال صاحب «الكشاف» لا يجوز جعله حالا من الْكِتابَ لأن قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً معطوف على قوله: أَنْزَلَ فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالا من الْكِتابَ يوجب الفصل بين الحال و ذي الحال ببعض الصلة، و أنه لا يجوز. قال: و لما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر و التقدير: و لم يجعل له عوجا و جعله قيما. الوجه الثاني: قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً حال و قوله: قَيِّماً حال أخرى و هما حالان متواليان و التقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجا قيما. الوجه الثالث: قال السيد صاحب «حل العقد»/ يمكن أن يكون قوله: قَيِّماً بدلا من قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً لأن معنى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أنه جعله مستقيما فكأنه قيل: أنزل على عبده الكتاب و جعله قيما. الوجه الرابع: أن يكون حالا من الضمير في قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي حال كونه قائما بمصالح العباد و أحكام الدين، و اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه: أنزل على عبده الكتاب الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال:
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ و أنذر متعد إلى مفعولين كقوله: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النبأ: 40] إلا أنه اقتصر هاهنا على أحدهما و أصله لِيُنْذِرَ - الذين كفروا- بَأْساً شَدِيداً كما قال في ضده: وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ و البأس مأخوذ من قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الأعراف: 165] و قد بؤس العذاب و بؤس الرجل بأسا و بآسة و قوله: مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عنده قال الزجاج و في: لدن لغات يقال لدن ولدي ولد و المعنى واحد، قال و هي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي و لا تقول صواب لدني و تقول عندي مال عظيم و المال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير و قرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم و كسر النون و الهاء و هي لغة بني كلاب ثم قال تعالى: وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً و اعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين و بشارة المطيعين، و لما كان دفع الضرر أهم
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 424
عند [ذوي] العقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ، قال صاحب «الكشاف» و قرئ وَ يُبَشِّرَ بالتخفيف و التثقيل و قوله: ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً يعني خالدين و هو حال للمؤمنين من قوله: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً ، قال القاضي: الآية دالة على صحة قولنا في مسائل، أحدها: أن القرآن مخلوق و بيانه من وجوه.
الأول: أنه تعالى وصفه بالإنزال و النزول و ذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير. الثاني:
وصفه بكونه كتابا و الكتب هو الجمع و هو سمي كتابا لكونه مجموعا من الحروف و الكلمات و ما صح فيه التركيب و التأليف فهو محدث. الثالث: أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب و الحمد إنما يستحق على النعمة و النعمة محدثة مخلوقة. الرابع: أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج و بأنه مستقيم و القديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق. و ثانيها: مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه. الأول: نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذا الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله و يترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه و هو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلا بنفسه، أما إذا لم يكن مستقلا بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله و لم يكن لكون الكتاب قيما أثر في استقامة فعله، أما إذا كان العبد قادرا على الفعل مختارا فيه بقي لعوج الكتاب و استقامته أثر في فعله. و الثاني: أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سببا لكفر البعض و أنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك. و الثالث:
قوله: لِيُنْذِرَ و فيه دلالة على أنه تعالى أراد منه صلّى اللّه عليه و سلم/ إنذار الكل و تبشير الكل و بتقدير أنه يكون خالق الكفر و الإيمان هو اللّه تعالى لم يبق للإنذار و التبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ و إذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار و التبشير على الكفر و الإيمان جاريا مجرى الإنذار و التبشير على كونه طويلا قصيرا و أسود و أبيض مما لا قدرة له عليه. و الرابع: وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق اللّه تعالى فلا عمل لهم ألبتة. الخامس: إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان اللّه تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب و لا استحقاق.
المسألة الرابعة: قال قوله: لِيُنْذِرَ يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة و ذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض، و اعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.
[سورة الكهف (18): الآيات 4 الى 6]
[في قوله تعالى وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ] في الآية مسائل: