کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 478
خصمه «1» بالمعجزات القاهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك لتعلم الاستفادة، و أجيب عنه بأنه لا يبعد أن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء فيحتاج في تعلمها إلى من دونه و هذا أمر متعارف معلوم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في فتى موسى فالأكثرون على أنه يوشع بن نون، و
روى القفال عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي هريرة عن أبي بن كعب عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقول فتاه يوشع بن نون.
و القول الثاني: أن فتى موسى أخو يوشع و كان صاحبا لموسى عليه السلام في هذا السفر.
و القول الثالث: روى عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ قال يعني عبده، قال القفال و اللغة تحتمل ذلك
روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «لا يقولن أحدكم عبدي و أمتي، و ليقل فتاي و فتاتي»
و هذا يدل على أنهم كانوا يسمون العبد فتى و الأمة فتاة.
المسألة الرابعة:
قيل إن موسى عليه السلام لما أعطي الألواح و كلمه اللّه تعالى قال: من الذي أفضل مني و أعلم؟ فقيل عبد للّه يسكن جزائر البحر و هو الخضر، و في رواية أخرى أن موسى عليه السلام لما أوتي من العلم ما أوتي ظن أنه لا أحد مثله فأتاه جبريل عليه السلام و هو بساحل البحر قال: يا موسى انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثم يرتفع فأنت فيما أوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر،
قال الأصوليون: هذه الرواية ضعيفة لأن الأنبياء يجب أن يعلموا أن معلومات اللّه لا نهاية لها و أن يعلموا أن معلومات الخلق يجب كونها متناهية و كل قدر متناه فإن الزائد عليه ممكن فلا مرتبة من مراتب العلم إلا و فوقها مرتبة و لهذا قال تعالى: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ و إذا كانت هذه المقدمات معلومة فمن المستبعد جدا أن يقطع العاقل بأنه لا أحد أعلم مني «2» لا سيما موسى عليه السلام مع علمه الوافر بحقائق الأشياء و شدة براءته عن الأخلاق الذميمة كالعجب و التيه و الصلف. و الرواية الثالثة:
قيل إن موسى/ عليه السلام سأل ربه: أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني و لا ينساني، قال فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق و لا يتبع الهوى. قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي، فقال موسى عليه السلام: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه، فقال: اعلم منك الخضر، قال فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال يا رب: كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان و رقد موسى و اضطرب الحوت و طفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال: و أني بأرضك السلام! فعرفه نفسه، فقال: يا موسى أنا على علم علمني اللّه لا تعلمه أنت و أنت على علم علمك اللّه لا أعلمه أنا، فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر: ما ينقص علمي و علمك من علم اللّه مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر
- أقول نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك
(1) قوله و حج خصمه يريد بخصمه فرعون و ما ذكره اللّه تعالى في كتابه من الآيات في محاجة فرعون. هذا و لموسى عليه السلام محاجة مع آدم عليه السلام في الأكل من الشجرة و لكن كانت الحجة لآدم على موسى و لذلك
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «فحج آدم موسى».
(2) يعني أنه لا يجرأ إنسان على ادعاء انتهاء العلم إليه إلا إذا سلب نعمة العقل، و كان الأنسب أن يقول (منه).
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 479
العصفور من ذلك الماء إلى كلية ماء البحر نسبة متناه إلى متناه و نسبة معلومات جميع المخلوقات إلى معلومات اللّه تعالى نسبة متناه إلى غير متناه، فأين إحدى النسبتين من الأخرى و اللّه العالم بحقائق الأمور، و نرجع إلى التفسير، أما قوله تعالى: لا أَبْرَحُ قال الزجاج قوله: لا أَبْرَحُ ليس معناه لا أزول، لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضا، أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه و الإعراض عنه، يقال: زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها، فقوله: لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير و الذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل و هذا الفعل- و أقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول، و العرب تقول: لا أبرح و لا أزال و لا انفك و لا افتأ بمعنى واحد. قال القفال: و قالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال. يقال: زال يزال و يزول كما يقال دام يدام و يدوم و مات يمات و يموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله: لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدما للعدم فيكون ثبوتا، فقوله: لا أزال و لا أبرح يفيد الدوام و الثبات على العمل فإن قيل: إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر، قلنا:
حذف الخبر لأن الحال و الكلام يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، و أما الكلام فلأن قوله: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعي شيئا هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين و يحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير و الطلب و لا أتركه و لا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان. و أما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام و هو ملتقى بحري فارس و الروم مما يلي المشرق و قيل غيره و ليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك و إلا فالأولى السكوت عنه، و من الناس من قال: البحران موسى و الخضر/ لأنهما كانا بحري العلم و قرئ مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقبا أي أسير زمانا طويلا و قيل الحقب:
ثمانون سنة و قد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23] و حاصل الكلام أن اللّه عز و جل كان أعلم موسى حال هذا العالم، و ما أعلمه موضعه بعينه، فقال موسى عليه السلام: لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضي دهرا طويلا حتى أجد هذا العالم، و هذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد و العناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم و ذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما و المعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما و الضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود؟ فيه قولان، الأول: مجمع بينهما أي مجمع البحرين و هو كأنه إشارة إلى [قول] موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق [اللّه] ما قاله. و القول الثاني: أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع [فيه] موسى و صاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه و لأجل هذا المعنى لما رجع موسى و فتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه و هو معنى حسن، و المفسرون على القول الأول، ثم قال تعالى: نَسِيا حُوتَهُما و فيه مباحث:
البحث الأول: الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنسانا فيقال له: إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلانا عن داره و أين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا هاهنا قيل
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 480
له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حيا و طفر إلى البحر، فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه و يحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده. إذا عرفت هذا فنقول:
إن موسى و فتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر و سارت و في كيفية طفرها روايات أيضا قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت و سارت و قيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش و وثب في الماء و قيل انفجر [ت] هناك عين من الجنة و وصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت و طفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت.
البحث الثاني: المراد من قوله: نَسِيا حُوتَهُما أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل اللّه حصول هذه الحالة العجيبة دليلا على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى؟ أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان. و عندي فيه جواب آخر و هو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال اللّه عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها/ لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم اللّه و حفظه على القلب و الخاطر، أما قوله: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ففيه وجوه. الأول: أن يكون التقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب و السرب هو الذهاب و منه قوله: وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد: 10]. الثاني: أن اللّه تعالى أمسك إجراء الماء على البحر و جعله كالطاق و الكوة حتى سرى الحوت فيه فلما جاوز أي موسى و فتاه الموعد المعين و هو الوصول إلى الصخرة بسبب النسيان المذكور و ذهبا كثيرا و تعبا و جاعا: قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً* قالَ الفتى: أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ الهمزة في أ رأيت همزة الاستفهام و رأيت على معناه الأصلي و قد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه أ رأيت ما حدث لي؟ كذلك هاهنا كأنه قال: أ رأيت ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة، فحذف مفعول أ رأيت لأن قوله: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ يدل عليه ثم قال: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ و فيه مباحث:
البحث الأول: أنه اعتراض وقع بين المعطوف و المعطوف عليه و التقدير فإني نسيت الحوت و اتخذ سبيله في البحر عجبا، و السبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر و العلة لوقوع ذلك النسيان.
البحث الثاني: قال الكعبي: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان و ما أراده و إلا كانت إضافته إلى اللّه تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده و لا في عدمه، أثر قال القاضي: و المراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل اللّه تعالى.
البحث الثالث: قوله: أَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الهاء في أَنْسانِيهُ أي: و ما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال:
وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً و فيه وجوه: الأول: أن قوله عجبا صفة لمصدر محذوف كأنه قيل و اتخذ سبيله في البحر اتخاذا عجبا و وجه كونه عجبا انقلابه من المكتل و صيرورته حيا و إلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما. و الثاني: أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق و كالسرب. الثالث: قيل إنه تم
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 481
الكلام عند قوله: وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ ثم قال بعده: عجبا و المقصود منه تعجبه من تلك العجيبة التي رآها و من نسيانه لها و قيل إن قوله عجبا حكاية لتعجب موسى و هو ليس بقوله، ثم قال تعالى: قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب و هو لقاء الخضر و قوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلبا للتخفيف لدلالة الكسرة عليه، و كان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء و هذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم؟ فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضا مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي/ فرجعا و قوله:
قَصَصاً فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما. و الثاني:
أن يكون مصدرا لقوله فارتدا على آثارهما، لأن معناه فاقتصا على آثارهما. و حاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا و عادا إليه و اللّه أعلم.
[سورة الكهف (18): الآيات 65 الى 70]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
[في قوله تعالى فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ] في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا فيه بحثان:
البحث الأول: قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبيا و احتجوا عليه بوجوه. الأول: أنه تعالى قال: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا و الرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] و قوله:
وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] و المراد من هذه الرحمة النبوة، و لقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً و هذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم و لا إرشاد مرشد و كل من علمه اللّه لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من اللّه. و هذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند اللّه و ذلك لا يدل على النبوة.
الحجة الثالثة: أن موسى عليه السلام قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف: 66] و النبي لا يتبع غير النبي/ في التعليم و هذا أيضا ضعيف، لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيا أما في غير تلك العلوم فلا.
الحجة الرابعة: أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له: وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً و أما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال: لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً و كل ذلك يدل على أن ذلك العالم
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 482
كان فوق موسى، و من لا يكون فوق النبي و هذا أيضا ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها. فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير. قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال اللّه عليه التوراة و تكليمه بغير واسطة يوجب التنفير، فإن قالوا: إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه.
الحجة الخامسة: احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة: وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي و معناه فعلته بوحي اللّه، و هو يدل على النبوة. و هذا أيضا دليل ضعيف و ضعفه ظاهر.
الحجة السادسة: ما
روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك، فقال و عليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلى.
قالوا و هذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي و الوحي لا يكون إلا مع النبوة، و لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات و الإلهامات.
البحث الثاني: قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر، و قالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفا إلا أخضر ذلك الموضع، قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر. و أيضا فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر، و قد ثبت أنه يجب أن يكون نبيا فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأنا من موسى صاحب التوراة، لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى، و كان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأنا من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل، فإن قلنا: إنه كان من بني إسرائيل [فقد] كان من أمة موسى لقوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ* [الشعراء: 17] و الأمة لا تكون أعلى حالا من النبي، و إن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* [البقرة: 47] و هذه الكلمات تقوي قول من يقول: إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة.
المسألة الثالثة: قوله: وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند اللّه من غير واسطة، و الصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية، و للشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية، و أقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول:/ إذا أدركنا أمرا من الأمور و تصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم و هو التصديق أو لا نحكم و هو التصور، و كل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظريا حاصلا من غير كسب و طلب، و إما أن يكون كسبيا، أما العلوم النظرية فهي تحصل في النفس و العقل من غير كسب و طلب، مثل تصورنا الألم و اللذة، و الوجود و العدم، و مثل تصديقنا بأن النفي و الإثبات لا يجتمعان و لا يرتفعان، و أن الواحد نصف الإثنين. و أما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم، و هذا الطريق على قسمين. أحدهما: أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات. و هذا الطريق هو المسمى بالنظر و التفكر و التدبر و التأمل و التروي و الاستدلال، و هذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد و الطلب. و النوع الثاني: أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات و المجاهدات في أن تصير
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 483
القوى الحسية و الخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية و أشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل، و حصلت المعارف و كملت العلوم من غير واسطة سعي و طلب في التفكر و التأمل، و هذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، إذا عرفت هذا فنقول: جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفسا مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية و النوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبدا شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية و الأنوار الإلهية، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال و التمام، و هذا هو المراد بالعلم اللدني و هو المراد من قوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً و أما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر و إشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف و العلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه و تعلمه و القسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية و كالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية و كالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية. فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ، و وراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. ثم قال تعالى: قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً و فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو و يعقوب رشدا بفتح الراء و الشين و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما بضم الراء و الشين و الباقون بضم الراء و تسكين الشين قال القفال و هي لغات في معنى واحد يقال رشد و رشد مثل نكر و نكر «1» كما يقال سقم و سقم و شغل و شغل و بخل و بخل و عدم و عدم و قوله رُشْداً أي علما ذا رشد قال القفال قوله: رُشْداً يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الرشد راجعا إلى الخضر أي مما علمك اللّه و أرشدك به. و الثاني: أن يرجع ذلك إلى موسى و يكون المعنى على أن تعلمني و ترشدني مما علمت.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعا كثيرة من الأدب و اللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر. فأحدها: أنه جعل نفسه تبعا له لأنه قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ . و ثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لك و هذا مبالغة عظيمة في التواضع.
و ثالثها: أنه قال عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ و هذا إقرار له على نفسه بالجهل و على أستاذه بالعلم. و رابعها: أنه قال:
مِمَّا عُلِّمْتَ و صيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه اللّه، و هذا أيضا مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساويا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغنى أن يدفع إليه جزا من أجزاء ماله. و خامسها: أن قوله: مِمَّا عُلِّمْتَ اعتراف بأن اللّه علمه ذلك العلم. و سادسها: أن قوله: رُشْداً طلب منه للإرشاد و الهداية و الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية و الضلال. و سابعها: أن قوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله اللّه به و فيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيها بإنعام اللّه تعالى عليك في هذا التعليم و لهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفا. و ثامنها: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا اللّه فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فإنما أتينا بها لأجل أنه
(1) لعل الصواب: مثل شكر شكر.
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 484
عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيا بها. و هذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم و ترك المنازعة و الاعتراض. و تاسعها: أن قوله: أَتَّبِعُكَ يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. و عاشرها: أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولا أنه نبي بني إسرائيل و أنه هو موسى صاحب التوراة و هو الرجل الذي كلمه اللّه عز و جل من غير واسطة و خصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة و الدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع و ذلك يدل على كونه عليه السلام آتيا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة و هذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة و السعادة أكثر فكان طلبه لها أشد و كان تعظيمه لأرباب العلم أكمل و أشد. و الحادي عشر: أنه قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فأثبت كونه تبعا له أولا ثم طلب ثانيا أن يعلمه و هذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم. و الثاني عشر:
أنه قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئا كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال و الجاه و لا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى/ حكى عن الخضر أنه قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً و فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم و لم يمارس القيل و القال و لم يتعود التقرير و الاعتراض، و متعلم حصل العلوم الكثيرة و مارس الاستدلال و الاعتراض. ثم إنه يريد أن يخالط إنسانا أكمل منه ليبلغ درجة التمام و الكمال و التعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد، و ذلك لأنه إذا رأى شيئا أو سمع كلاما فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكرا إلا أنه كان في الحقيقة حقا صوابا، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل و القال و تعود الكلام و الجدال يغتر ظاهره و لأجل عدم كماله لا يقف على سره و حقيقته، و حينئذ يقدم على النزاع و الاعتراض و المجادلة، و ذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة و الكراهة الشديدة، و هذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إشارة إلى أنه ألف الكلام و تعود الإثبات و الإبطال و الاستدلال و الاعتراض، و قوله:
وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي، و قد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت و عسر التعليم و انتهى الأمر بالآخرة «1» إلى النفرة و الكراهية و حصول التقاطع و التنافر.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بقوله: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. قالوا: لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً كذبا، و لما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل. أجاب الجبائي عنه: أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف: إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا و [لا] أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك و نظيره قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي كان يشق عليهم الاستماع، فيقال له: هذا عدول عن