کتابخانه تفاسیر
مفاتيح الغيب
الجزء الأول
سورة الفاتحة
[سورة الفاتحة(1): الآيات 1 الى 7]
مقدمة و ففيها فصول:
الكتاب الأول في العلوم المستنبطة من قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
القسم الأول من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة، و فيه أبواب.
القسم الثاني من هذا الكتاب المشتمل على تفسير(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في المباحث النقلية و العقلية، و فيه أبواب: -.
الكتاب الثاني في مباحث بسم الله الرحمن الرحيم و فيه أبواب
الباب السابع في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، و فيه فصول:
الكتاب الثالث الكلام في سورة الفاتحة و في ذكر أسماء هذه السورة،
الباب الخامس في تفسير سورة الفاتحة، و فيه فصول
الكلام في تفسير مجموع هذه السورة، و فيه فصول
الجزء الثاني
سورة البقرة
الجزء الثالث
تتمة سورة البقرة
الجزء الرابع
تتمة سورة البقرة
الجزء الخامس
تتمة سورة البقرة
الجزء السادس
تتمة سورة البقرة
الجزء السابع
[سورة البقرة(2): الآيات 258 الى 259]
سورة آل عمران
الجزء الثامن
تتمة سورة آل عمران
الجزء التاسع
تتمة سورة آل عمران
سورة النساء
الجزء العاشر
تتمة سورة النساء
الجزء الحادي عشر
تتمة سورة النساء
سورة المائدة(5)
الجزء الثاني عشر
تتمة سورة المائدة
سورة الأنعام
الجزء الثالث عشر
تتمة سورة الأنعام
الجزء الرابع عشر
سورة الأعراف
الجزء الخامس عشر
تتمة سورة الأعراف
سورة الأنفال
الجزء السادس عشر
تتمة سورة التوبة
الجزء السابع عشر
سورة يونس
سورة هود
الجزء الثامن عشر
تتمة سورة هود
سورة يوسف
الجزء التاسع عشر
تتمة سورة الرعد
سورة إبراهيم
سورة الحجر
الجزء العشرون
تتمة سورة النحل
سورة الإسراء
الجزء الواحد و العشرون
تتمة سورة الإسراء
سورة الكهف
سورة مريم عليها السلام
الجزء الثاني و العشرون
سورة طه
سورة الأنبياء عليهم السلام
الجزء الثالث و العشرون
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء الرابع و العشرون
تتمة سورة النور
سورة الفرقان
سورة الشعراء
سورة النمل
سورة القصص
الجزء الخامس و العشرون
تتمة سورة القصص
سورة العنكبوت
سورة الروم
سورة لقمان عليه السلام
سورة السجدة
سورة الأحزاب
سورة سبا
الجزء السادس و العشرون
سورة فاطر
سورة يس
سورة الصافات
سورة ص
سورة الزمر
الجزء السابع و العشرون
سورة المؤمن
سورة فصلت السجدة
سورة الشورى
سورة الزخرف
الجزء الثامن و العشرون
سورة الأحقاف
سورة محمد صلى الله عليه و سلم
سورة الفتح
سورة الحجرات
سورة ق
سورة الذاريات
سورة الطور
سورة النجم
الجزء التاسع و العشرون
تتمة سورة النجم
سورة القمر
سورة الرحمن
سورة الواقعة
سورة الحديد
سورة المجادلة
سورة الحشر
الجزء الثلاثون
سورة الملك
سورة القلم
سورة الحاقة
سورة المعارج
سورة نوح عليه السلام
سورة الجن
سورة المزمل عليه السلام
سورة المدثر
سورة القيامة
سورة الإنسان
سورة المرسلات
الجزء الواحد و الثلاثون
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة عبس
سورة التكوير
سورة الانشقاق
سورة الأعلى
سورة الغاشية
سورة الفجر
سورة البلد
سورة الشمس
الجزء الثاني و الثلاثون
سورة العلق
سورة العاديات
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 502
المسألة الأولى: لقاء اللّه عبارة عن رؤيته بدليل أنه يقال: لقيت فلانا أي رأيته، فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول، قال تعالى: فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12] و ذلك في حق اللّه تعالى محال، فوجب حمله على لقاء ثواب اللّه، و الجواب أن لفظ اللقاء، و إن كان في الأصل عبارة عن الوصول و الملاقاة إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور، و الذي يقولونه من أن المراد منه لقاء ثواب اللّه فهو لا يتم إلا بالإضمار، و من المعلوم أن حمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج معه إلى الإضمار.
المسألة الثانية: استدلت المعتزلة بقوله تعالى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ على أن القول بالإحباط و التكفير حق، و هذه المسألة قد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها، ثم قال تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً و فيه وجوه. الأول: أنا نزدري بهم و ليس لهم عندنا وزن و مقدار. الثاني: لا نقيم لهم ميزانا لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات و السيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات و مقدار السيئات. الثالث: قال القاضي: إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته.
و هذا التفسير بناء على قوله بالإحباط و التكفير، ثم قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ فقوله: ذلِكَ أي ذلك الذي ذكرناه و فصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة، و قوله: جَهَنَّمُ عطف بيان لقوله: جَزاؤُهُمْ ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين: أحدهما: كفرهم. الثاني: أنهم أضافوا إلى/ الكفر أن اتخذوا آيات اللّه و اتخذوا رسله هزوا، فلم يقتصروا على الرد عليهم و تكذيبهم حتى استهزءوا بهم.
[سورة الكهف (18): الآيات 107 الى 108]
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد، و لما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم، أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان و العمل الصالح. فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا .
المسألة الثانية: عطف عمل الصالحات على الإيمان و المعطوف مغاير للمعطوف عليه و ذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان.
المسألة الثالثة: عن قتادة الفردوس وسط الجنة و أفضلها، و عن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس، و فيها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر، و عن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم أنه قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام و الفردوس أعلاها درجة، و منها الأنهار الأربعة و الفردوس من فوقها، فإذا سألتم اللّه الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن و منها تتفجر أنهار الجنة».
المسألة الرابعة: قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلا للمؤمنين و الكريم إذا أعطى النزل أولا فلا
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 503
بد أن يتبعه بالخلعة و ليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية اللّه، فإن قالوا: أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين و لم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر، فكذلك هاهنا جعل جملة الجنة نزلا للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة، و الجواب: قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها و هو كونه محجوبا عن رؤية اللّه كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين: 15، 16] فجعل الصلاء بالنار متأخرا في المرتبة عن كونه محجوبا عن اللّه، ثم قال تعالى: لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا الحول التحول، يقال: حال من مكانه حولا كقوله عاد في حبها عودا يعني لا مزيد على سعادات الجنة و خيراتها حتى يريد أشياء غيرها، و هذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
[سورة الكهف (18): الآيات 109 الى 110]
و في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل و البينات و شرح أقاصيص الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي و المداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر و لما يمد به السراج من السليط، و المعنى لو كتبت كلمات علم اللّه و حكمه و كان البحر مدادا لها و المراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات، و تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع و العظمة فهي متناهية و معلومات اللّه غير متناهية و المتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهي، قرأ حمزة و الكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع و الباقون بالتاء لتأنيث كلمات، و
روي أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ثم تقرأون: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] فنزلت هذه الآية
يعني أن ذلك خير كثير و لكنه قطرة من بحر كلمات اللّه.
المسألة الثانية: احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام اللّه تعالى واحد بهذه الآية، و قالوا: إنها صريحة في إثبات كلمات اللّه تعالى و أصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم اللّه تعالى، قال الجبائي: و أيضا قوله: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي يدل على أن كلمات اللّه تعالى قد تنفد في الجملة، و ما ثبت عدمه امتنع قدمه، و أيضا قال: وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً و هذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه و الذي يجاء به يكون محدثا و الذي يكون المحدث مثلا له فهو أيضا محدث و جواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية، و اعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام اللّه أمر محمدا صلّى اللّه عليه و سلم بأن يسلك طريقة التواضع فقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ أي لا امتياز بيني و بينكم في شيء من الصفات إلا أن اللّه تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا اللّه الواحد الأحد الصمد، و الآية تدل على مطلوبين: الأول: أن كلمة إِنَّما تفيد الحصر/ و هي قوله: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ . و الثاني: أن كون الإله تعالى: إلها واحدا يمكن إثباته بالدلائل السمعية، و قد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية، ثم قال: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 504
رَبِّهِ و الرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه و الخوف ظن المضار الواصلة إليه، و أصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته و المعتزلة حملوه على لقاء ثواب اللّه و هذه المناظرة قد تقدمت و العجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية اللّه في ثلاث آيات: أولها: قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ [الكهف: 105]. و ثانيها: قوله: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] و ثالثها: قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ و لا بيان أقوى من ذلك ثم قال: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي من حصل له رجاء لقاء اللّه فليشتغل بالعمل الصالح، و لما كان العمل الصالح قد يؤتى به للّه و قد يؤتى به للرياء و السمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان: أن يؤتى به للّه، و أن يكون مبرأ عن جهات الشرك، فقال: وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً .
قيل: نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إني أعمل العمل للّه تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني» فقال عليه الصلاة و السلام: «إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه» و روي أيضا أنه قال له: «لك أجران أجر السر و أجر العلانية»
فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء و السمعة، و الرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به، و المقام الأول مقام المبتدئين، و المقام الثاني مقام الكاملين و الحمد صلّى اللّه عليه و سلم رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و آله و صحبه أجمعين.
قال المصنف رضي اللّه عنه تم تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر صفر سنة اثنتين و ستمائة في بلدة غزنين، و نسأل اللّه أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين، أن يخصنا بالمغفرة و الفضل في يوم الدين، إنه ذو الفضل العظيم.
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 505
سورة مريم عليها السلام
و هي ثمان و تسعون آية مكية بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة مريم (19): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قبل الخوض في القراءات لا بد من مقدمات ثلاثة. المقدمة الأولى:/ أن حروف المعجم على نوعين ثنائي و ثلاثي، و قد جرت عادة العرب أن ينطقوا بالثنائيات مقطوعة ممالة فيقولوا: با تا ثا و كذلك أمثالها، و أن ينطقوا بالثلاثيات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة فيقولوا دال ذال صاد ضاد و كذلك أشكالها، أما الزاي وحده من بين حروف المعجم فمعتاد فيه الأمران، فإن من أظهر ياءه في النطق حتى يصير ثلاثيا لم يمله، و من لم يظهر ياءه في النطق حتى يشبه الثنائي يمله. أما المقدمة الثانية: ينبغي أن يعلم أن إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل و الإمالة فرع عليه و لهذا يجوز إشباع كل ممال و لا يجوز إمالة كل مشبع من الفتحات. المقدمة الثالثة: للقراء في القراءات المخصوصة بهذا الموضع ثلاثة طرق: أحدها: أن يتمسكوا بالأصل و هو إشباع فتحة الهاء و الياء. و ثانيها: أن يميلوا الهاء و الياء. و ثالثها: أن يجمعوا بين الأصل و الفرع فيقع الاختلاف بين الهاء و الياء فيفتحوا أحدهما أيهما كان و يكسروا الآخر و لهم في السبب الموجب لهذا الاختلاف قولان: الأول: أن الفتحة المشبعة أصل و الإمالة فرع مشهور كثير الاستعمال فأشبع أحدهما و أميل الآخر ليكون جامعا لمراعاة الأصل و الفرع و هو أحسن من مراعاة أحدهما و تضييع الآخر. القول الثاني: أن الثنائية من حروف المعجم إذا كانت مقطوعة كانت بالإمالة، و إذا كانت موصولة كانت بالإشباع و ها و يا في قوله تعالى: كهيعص مقطوعان في اللفظ موصولان في الخط فأميل أحدهما و أشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعيا جانب القطع اللفظي و جانب الوصل الخطي، إذا عرفت هذا فنقول فيه قراءات: إحداها: و هي القراءة المعروفة فيه فتحة الهاء و الياء جميعا. و ثانيها: كسر الهاء و فتح الياء و هي قراءة أبي عمرو و ابن مبادر «1» و القطعي عن أيوب، و إنما كسروا الهاء دون الياء ليكون فرقا بينه و بين الهاء الذي للتنبيه فإنه لا يكسر قط. و ثالثها: فتح الهاء و كسر الياء و هو قراءة حمزة و الأعمش و طلحة و الضحاك عن عاصم، و إنما كسروا الياء دون الهاء، لأن الياء أخت الكسرة و إعطاء الكسرة أختها أولى من إعطائها إلى أجنبية مفتوحة للمناسبة. و رابعها: إمالتهما جميعا و هي قراءة الكسائي و المفضل و يحيى عن عاصم و الوليد بن أسلم عن ابن عامر و الزهري و ابن جرير و إنما أمالوهما
(1) هكذا في الأصول (ابن مبادر) و لم نره في القراءة و لعله محرف عن ابن مناذر و هو مما سمت به العرب.
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 506
للوجهين المذكورين في إمالة الهاء و إمالة الياء. و خامسها: قراءة الحسن و هي ضم الهاء و فتح الياء، و عنه أيضا فتح الهاء و ضم الياء، و روى صاحب «الكشاف» عن الحسن بضمهما، فقيل له لم تثبت هذه الرواية عن الحسن لأنه أورد ابن جني في كتاب «المكتسب» «1» أن قراءة الحسن ضم أحدهما و فتح الآخر لا على التعيين، و قال بعضهم: إنما أقدم الحسن على ضم أحدهما لا على التعيين لأنه تصور أن عين الفعل في الهاء و الياء ألف منقلب عن الواو كالدار و المال، و ذلك لأن هذه الألفات و إن كانت مجهولة لأنها لا اشتقاق لها فإنها تحمل على ما هو مشابه لها في اللفظ. و الألف إذا وقع عينا فالواجب أن يعتقد أنه منقلب عن الواو لأن الغالب/ في اللغة ذلك فلما تصور الحسن أن ألف الهاء و الياء منقلب عن الواو جعله في حكم الواو و ضم ما قبله لأن الواو أخت الضمة. و سادسها: ها يا بإشمامهما شيئا من الضمة.
المسألة الثالثة: قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الحروف بعضها من بعض بأدنى سكتة مع إظهار نون العين و باقي القراء يصلون الحروف بعضها ببعض و يخفون النون.
المسألة الثالثة: القراءة المعروفة صاد، ذكر بالإدغام، و عن عاصم و يعقوب بالإظهار.
البحث الثاني: المذاهب المذكورة في هذه الفواتح قد تقدمت لكن الذي يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن قوله تعالى كهيعص ثناء من اللّه على نفسه، فمن الكاف وصفه بأنه كاف و من الهاء هاد و من العين عالم و من الصاد صادق. و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أيضا أنه حمل الكاف على الكبير و الكريم، و يحكى أيضا عنه أنه حمل الياء على الكريم مرة و على الحكيم أخرى، و عن الربيع بن أنس في الياء أنه من مجير، و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في العين أنه من عزيز و من عدل، و هذه الأقوال ليست قوية لما بينا أنه لا يجوز من اللّه تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة لا بالحقيقة و لا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطنا، و اللغة لا تدل على ما ذكروه فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول صلّى اللّه عليه و سلم أو الملائكة أو الجنة أو النار فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكما لا تدل عليه اللغة أصلا.
[سورة مريم (19): آية 2]
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في لفظة ذكر أربع قراءات صيغة المصدر أو الماضي مخففة أو مشددة أو الأمر، أما صيغة المصدر فلا بد فيها من كسر رحمة ربك على الإضافة ثم فيها ثلاثة أوجه: أحدها: نصب الدال من عبده و الهمزة من زكرياء و هو المشهور. و ثانيها: برفعهما و المعنى و تلك الرحمة هي عبده زكرياء عن ابن عامر.
و ثالثها: بنصب الأول و برفع الثاني و المعنى رحمة ربك عبده و هو زكرياء. و أما صيغة الماضي بالتشديد فلا بد فيها من نصب رحمة. و أما صيغة الماضي بالتخفيف ففيها و جهان. أحدهما: رفع الباء من ربك و المعنى ذكر ربك عبده زكرياء. و ثانيها: نصب الباء من ربك و الرفع في عبده زكرياء و ذلك بتقديم المفعول على الفاعل و هاتان القراءتان للكلبي، و أما صيغة الأمر فلا بد من نصب رحمة و هي قراءة ابن عباس. و اعلم أن على تقدير
(1) الكتاب المشهور لابن جني اسمه «المحتسب» فلعل له كتابا آخر اسمه «المكتسب» أو لعله تحريف له.
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 507
جعله صيغة المصدر و الماضي يكون التقدير هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك.
المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد من قوله رحمة ربك أعني عبده زكرياء ثم في كونه رحمة وجهان:
أحدهما: أن يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان و الطاعات. و الآخر: أن/ يكون رحمة على نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلم و على أمة محمد لأن اللّه تعالى لما شرح لمحمد صلّى اللّه عليه و سلم طريقه في الإخلاص و الابتهال في جميع الأمور إلى اللّه تعالى صار ذلك لفظا داعيا له و لأمته إلى تلك الطريقة فكان زكرياء رحمة، و يحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي رحم بها عبدة زكرياء.
[سورة مريم (19): آية 3]
إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)
راعى سنة اللّه في إخفاء دعوته لأن الجهر و الإخفاء عند اللّه سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد عن الرياء و أدخل في الإخلاص. و ثانيها: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة. و ثالثها: أسره من مواليه الذين خافهم. و رابعها: خفي صوته لضعفه و هرمه كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات و سمعه تارات، فإن قيل من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء و خفيا، و الجواب من وجهين: الأول: أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن الصوت كان ضعيفا لنهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداء نظرا إلى قصده و خفيا نظرا إلى الواقع. الثاني: أنه دعا في الصلاة لأن اللّه تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران: 39] فكون الإجابة في الصلاة يدل على كون الدعاء في الصلاة فوجب أن يكون النداء فيها خفيا.
[سورة مريم (19): الآيات 4 الى 6]
القراءة فيها مسائل:
المسألة الأولى: قرئ وَهَنَ بالحركات الثلاث.
المسألة الثانية: إدغام السين في الشين [من الرأس شيبا] عن أبي عمرو.
المسألة الثالثة: وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ بفتح الياء و عن الزهري بإسكان الياء من الموالي و قرأ عثمان و علي بن الحسين و محمد بن علي و سعيد بن جبير و زيد بن ثابت و ابن عباس خفت بفتح الخاء و الفاء مشددة و كسر التاء و هذا يدل على معنيين: أحدهما: أن يكون ورائي بمعنى بعدي و المعنى/ أنهم قلوا و عجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه. و الثاني: أن يكون بمعنى قدامي و المعنى أنهم خفوا قدامه و درجوا و لم يبق من به تقو و اعتضاد.
المسألة الرابعة: القراءة المعروفة: مِنْ وَرائِي بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة و عن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء و قرأ ابن كثير وراي كعصاي.
المسألة الخامسة: من يرثني و يرث وجوه: أحدها: القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة. و ثانيها: و هي
مفاتيح الغيب، ج21، ص: 508
قراءة أبي عمرو و الكسائي و الزهري و الأعمش و طلحة بالجزم فيهما جوابا للدعاء. و ثالثها: عن علي بن أبي طالب و ابن عباس و جعفر بن محمد و الحسن و قتادة: يَرِثُنِي جزم وارث بوزن فاعل. و رابعها: عن ابن عباس: يَرِثُنِي وارث من آل يعقوب. و خامسها: عن الجحدري وَ يَرِثُ تصغير وارث على وزن أفيعل (اللغة) الوهن ضعف القوة قال في «الكشاف» شبه الشيب بشواظ النار في بياضه و إنارته و انتشاره في الشعر و فشوه فيه و أخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر و منبته و هو الرأس و أخرج الشيب مميزا و لم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة، و أما الدعاء فطلب الفعل و مقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة، و أما أصل التركيب في (ولي «1» ) فيدل على معنى القرب و الدنو يقال وليته أليه وليا أي دنوت و أوليته أدنيته منه و تباعد ما بعده و ولي و منه قول ساعدة [ابن جؤبة]:
و عدت عواد دون وليك تشغب
و كل مما يليك و جلست مما يليه و منه الولي و هو المطر الذي يلي الوسمي، و الولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة و ولي اليتيم و القتيل و ولي البلد لأن من تولى أمرا فقد قرب منه، و قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ* [مريم: 4] من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه، أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب و قولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى و الأقرب من الداني و القريب و فيه معنى القرب أيضا لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه و المولى اسم لموضع الولي كالمرمى و المبني اسم لموضع و المرمى و البناء، و أما العاقر فهي التي لا تلد و العقر في اللغة الجرح و منه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة و عقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه، و أما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة و للصحبة أخرى كآل فرعون و للموافقة في الدين كآل النبي صلّى اللّه عليه و سلم و اعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أمورا ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفا. و الثاني: أن اللّه تعالى ما رد دعاءه ألبتة.
و الثالث: كون المطلوب بالدعاء سببا للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال. أما المقام الأول: و هو كونه ضعيفا فأثر الضعف،/ إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر، و الضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن و هو قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي و تقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن و جعلت كذلك لمنفعتين: إحداهما: لأن تكون أساسا و عمدا يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام و الحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول. و الثانية: أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس و عظام الصدر، و ما كان كذلك فيجب أن يكون صلبا ليكون صبورا على ملاقاة الآفات بعيدا من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى، و لأن العظم إذا كان حاملا لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل